09/07/2007 - 10:08

وعي المظهر وانكار الواقع../ علي جرادات

وعي المظهر وانكار الواقع../ علي جرادات
كيف ستستثمر القيادة الإسرائيلية الطور النوعي للأزمة الفلسطينية الداخلية، بعد التداعيات الأولية للحسم العسكري في غزة، الذي عمَّق الشرخ الفلسطيني الداخلي، وجعل منه انقساماً جغرافياً ومؤسساتياً، بعد أن كان سياسياً، أو هكذا جرى تضخيمه على الأقل؟!!!

سؤال مفصلي هام، وعلى الوعي الوطني الدقيق له، يُفترض أن تتحدد معالجة الأطراف الفلسطينية للأزمة، وإلا وقع تغييب أن التناقض الرئيسي مع المحتلين، هو المعيار الواقعي الأساسي في تحديد كيفية هذه المعالجة.

ذكرتُ في هذا الموقع، ولا أجد غضاضة مِن تكرار، أنه، وإن كان في الجبر: كلما زادت تعقيدات المعادلة تحتاج إلى معطيات أكثر لحلها، فإن المعادلة السياسية هي الأعقد في معادلات الحياة، ذلك أنها معادلة تنطوي على فواعل نفسية واجتماعية وعلاقات إقليمية ودولية، ولذلك فإن المعادلة السياسية تحتاج لأعقد العقول وأكثرها تركيباً لإدارتها والتعامل معها. فما بالك في المعادلة السياسية للصراع مع الاحتلال التي تنطوي على تعقيدات إضافية أخرى؟!!!

في هذه المرحلة المريضة التي تعيشها النخب القيادية الفلسطينية، حيث يهيمن التناقض الداخلي وتداعياته على وعيها، ليس غريباً البتة، أن يجري تفسير المواقف الإسرائيلية في مظهرها، أي كما لو كانت تدعم طرفاً فلسطينياً ضد طرف آخر، الأمر الذي يتجاهل جوهر الممارسات الإسرائيلية المستبيحة لكل ما هو فلسطيني، والساعية بدأب ومثابرة لتصفية القضية الفلسطينية بصرف النظر عن اللون السياسي والفكري للطرف الذي يمثلها أو يتحدث باسمها، وذلك منذ ولادة هذه القضية وحتى يوم الناس هذا، بدءا مِن الحاج أمين الحسيني، مرورا بالشقيري، تعريجا على ياسر عرفات، وانتهاء بالقائم هذه الأيام مِن شرخ وطني غير مسبوق.

بلى ليس غريبا أن تتم قراءة مواقف القيادة الإسرائيلية مِن الأزمة الفلسطينية الداخلية، قراءة سطحية لا تنفذ إلى عمق المشروع الاحتلالي وخطته. فحتى ضرب المقاومة وأدواتها البشرية والمادية، ورغم أنه جوهر ثابت للسياسة الإسرائيلية منذ نشأت وحتى يومنا هذا، سيجد مَن يفسره مِن الآن فصاعداً على أنه تقوية لطرف فلسطيني على حساب طرف آخر. فإذا ما جرى ضرب نشطاء المقاومة في غزة، وهذا قائم بصورة دائمة ولن ينقطع، ستجد مَن يقول: ألم نقل لكم أن "حماس" هي المستهدفة؟!!! وبالمقابل، حين يجري ضرب نشطاء المقاومة في الضفة، وهذا أيضاً جارٍ على قدم وساق، ولن يتوقف، ستجد مَن يقول: ألم نقل لكم أن "فتح" هي المستهدفة؟!!! وهكذا دواليك مِن انقلاب الوعي الوطني ودورانه المميت حول ذاته ونسيان جوهر واقعه.

والحال؛ فإن الاستغراق في نزوات وعي المظهر الذاتية، سيقود بالضرورة إلى طمس جوهر الواقع وحقائقه العنيدة، وسيفضي تلقائياً إلى تمادٍ ذاتي غير معقول في تزييف حقيقة أن الفلسطينيين ما زالوا يعيشون في مرحلة تحرر وطني، وأنه لا يوجد لهم دولة، لا في غزة، ولا في الضفة، وأن استعصاءهم الداخلي الذي بلغ ذروته بالحسم العسكري في غزة وتداعياته في الضفة، هو ليس استعصاء دستورياً، بل سياسيا، وأن السؤال المحوري هو: كيف السبيل لتوافق النخب القيادية بمشاربها السياسية والفكرية المختلفة على ديموقراطية "الاختلاف داخل الوحدة" في مرحلة تحرر وطني، وليس حسم التفسيرات المختلفة للنص الدستوري لدولة مستقلة، كما يجري، وسيجري بعد غدٍ الأربعاء، خلال الجلسة الأولى للمجلس التشريعي في دورته الجديدة التي سيدعو لها الرئيس الفلسطيني. فهذا الجدل الدستوري، على أهميته مِن حيث المبدأ، غير أنه لن ينتهي، وسيجد كل طرفٍ فقهاء قانونيين لدعم موقفه، حتى لو جئنا بابن حنبل أو مالك الذي " لا يفتى وهو في المدينة".

بتقديم النخب القيادية الفلسطينية لديموقراطية النص المستوحاة مِن واقع الدول المستقلة، على ديموقراطية الوعي بضرورات واقع حركة تحرر وطني لشعب ما زال يرزح تحت الاحتلال، تتجلى حالة التيه الفلسطيني بأشد صورها، ويحلُّ الوعي الذاتي محل الواقع الموضوعي، ما يجعل الواقع خبراً للوعي، فيما تفرض الضرورة العكس. فيحل منطق الإستنباط، الذي يبحث عن أسانيد واقعية تثبت فكرة في الذهن، بدل منطق الإستقراء الذي يستخلص الفكرة مِن الواقع.

إن استمرار حالة الإحتراب الذاتي الفلسطيني خارج حقيقة أن الاحتلال ما زال حقيقة واقعية على الأرض، ويستهدف كل ما هو فلسطيني، ويستبيحه على مدار الساعة، سيعطي قيادة هذا الاحتلال فرصة لم تحلم بها لتثبيت رؤيتها على الأرض على طريق فرض حلول خارج مفردات البرنامج الوطني في العودة والحرية والاستقلال، وذلك بعد انهاك طرفي الطاقة الوطنية في الضفة وغزة.

رب قائل، إن في ما تقدم تشاؤم زائد، وإن قيادة الاحتلال، ومَن يدعمها في واشنطن، تعي أن حلولا مِن هذا القبيل لقضية عمرها ستين عاما غير واردة. وهذا القول على ما فيه مِن صحة، إلا أنه يغفل حقيقة أن قيادة الاحتلال ستحاول على الأقل، ولو مِن باب تبني استراتيجية ذاك الذي تنطع (وفق حكاية شعبية) لتعليم حمار الأمير القراءة والكتابة. إذ يحكى أن أميرا، أراد أن يعلم حماره القراءة والكتابة. وكان كلما كلف أحد المفكرين بالمهمة، ورفض لتعذر القيام بها، قتله. وأخيرا جاء أحد الحشاشين، وتبرع بالقيام بالمهمة، ولكنه اشترط تكاليف عالية، ومدة عشر سنوات لإنجازها. فوافق الأمير. وعندما استغربت زوجة الحشاش تنطُّعَ زوجها للقيام بمهمة مستحيلة، أجابها بكلام متقطع قائلا: سنستفيد من المكافأة لعشر سنوات، وبعدها قد يموت الأمير، أو يموت الحمار، أو أموت أنا.

ولو كان الحشاش في قيادة الاحتلال الإسرائيلي التي تصر على تجديد المحاولات العقيمة لفرض الرؤية الإسرائيلية (الحلول الأمنية الانتقالية الجزئية) على الفلسطينيين لقال:
في فترة تفاقم الأزمة الداخلية الفلسطينية، وبلوغها درجة "قسمة" الوطن، دعنا نلعب على وتر التناقض الفلسطيني الداخلي لفرض الحلول الانتقالية والجزئية، فإن نجحنا بالكامل يكون خيراً، وإن لم ننجح كليا، نكون قد جمدنا القضية الفلسطينية لمدى زمني طويل، وأضعفنا الطرفين الفلسطينيين الكبيرين في حمل لوائها، وفتحنا أفقاً لممكنات إيجاد حلٍ اقليمي خارج الإرادة الوطنية الفلسطينية وطرفيها المصطرعين على جلد الدب قبل اصطياده.

في هذا السياق، ومن باب أخذ العبرة، وبعد التمعن فيما جرى مِن "قسمة" للوطن، كنتيجة عملية لتداعيات جنون اللجوء لخيار الحسم العسكري، وفتح الباب على مصراعيه أمام قيادة الاحتلال لاستثمار هذه النتيجة الفضيحة، واللعب على وتر التناقض الوطني الفلسطيني الداخلي، فإن خطرا حقيقيا يتهدد مصير القضية الوطنية، كما مصير طرفي الصراع الداخلي، لتكون عاقبة الفلسطينيين كعاقبة ذاك الرجل الذي قام للوضوء، فوجد إبريقان من الماء، وقيل له أن أحدهما طاهر والثاني "غير طاهر"، ولكن دون تحديد أيُّهُما من أيِّهِما. فوقع في حيرة. إذ خشي اختيار غير الطاهر. فيما لا يستطيع التَّيَمُمُ لتأكده من طهارة أحد الإبريقين. ومعلوم أن لا جواز للتَّيَمُّم مع وجود الماء. وزاد أمر الرجل سوءاً حين أفتى له احدهم بخلط ماء الإبريقين لتتأكد عدم طهارة كل الماء، وبالتالي جواز التَّيَمُّم. وهذا ما فعل. إن حيرة ذاك الرجل يعيشها الفلسطينيون واقعا، حيث يشاهدون يوميا من على شاشات الفضائيات، من يقول لهم مِن غزة "أنا الطاهر كليا"، ويرد الآخر في الضفة "بل أنا الطاهر كليا". أما بمشاهدتهم للنتيجة العملية، أي "قسمة" الوطن، فسيقولون حتما "لا طهارة لأحد". والخشية أن تتسع هذه القناعة في اوساط الفلسطينيين فيكون التَّيَمُّمُ خارج طرفي الصراع، وصاية أو إلحاقا يلوح في الأُفق.

التعليقات