03/12/2007 - 08:11

حذار مِن السقوط في الفخ../ علي جرادات

حذار مِن السقوط في الفخ../ علي جرادات
الآن، وبعد إنفضاض لقاء "أنابوليس"، ستتجه الأنظار الى المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية الثنائية حول "قضايا الوضع النهائي"، المفاوضات التي أصرت كلُّ مِن تل أبيب وواشنطن على أن لا تتجاوز وظيفة لقاء "أنابوليس" الدولي دور تشجيعها وتحديد الثاني عشر مِن الشهر الجاري موعداً لتجديد مسارها تحت الرعاية الأمريكية. وتلك نتيجة غير مفاجئة، بل كان توقعها، حتى قبل إنعقاد لقاء "أنابوليس"، معظم المراقبين والمحللين، الذين يكادون يجمعون اليوم أيضاً، على أن الإسرائيليين، بدعم أمريكي، وبرغم قرار البدء في المفاوضات، ليسوا في وارد تغيير تعاملهم الأمني المعتاد، سواء مِن خلال أطروحاتهم التعجيزية على طاولة المفاوضات، أو مِن خلال تجريدها مِن أي معنى عبر استمرار ممارساتهم العدوانية على الأرض.

ما سلف حقيقةً واضحة لا تقبل التأويل، إذ ما أن إنفض لقاء "أنابوليس" حتى بدأ قادة تل أبيب، ومِن خلفهم واشنطن، بـ"لحس" ما أشاعوه مِن كلام معسول، وتبديد ما تقمصوه مِن رغبة في "السلام" واستعداد للتسوية السياسية، إذ علاوة على ما أمروا به مِن تصعيد ميداني على الأرض؛ وإضافة الى إعلانهم الصريح عن نوايا رفع وتيرته أكثر فأكثر، وخاصة في غزة؛ فقد بدأوا بالتسابق على إطلاق التصريحات وإعلان المواقف التي تؤكد أنهم ما زالوا عند رؤيتهم الأمنية للتعامل مع الصراع وقضاياه السياسية. فأولمرت الذي قال كلاماً معسولاً حول "السلام" في لقاء "أنابوليس"، قال أمس خلال الجلسة الأسبوعية لحكومته بأن إعلان "أنابوليس" الذي سيضعه على طاولة الحكومة الإسرائيلية لدراسته "لا يحتوي على جدول زمني محدَّدٍ وملزم"، وأضاف بأن "أي اتفاق سيكون مرتبطاً بخارطة الطريق وضمان الجوانب الأمنية"، وتلك هي كلمة السر للمطلب الإسرائيلي القديم الجديد بتجريد المقاومة الفلسطينية مِن سلاحها، أي مطلب خلق الفتنة الفلسطينية، التي إستطاع الفلسطينيون تجاوزها والإلتفاف عليها، عبر تبني تكتيك مناور، تمثل في قرار الموافقة على "التهدئة"، الذي إختطوه يوم الإعلان عن خطة خارطة الطريق قبل رحيل الشهيد ياسر عرفات، بينما قابله الإسرائيليون ببمارسة المزيد مِن الإعتداءات وجرائم الحرب، سواء هنا في الضفة الغربية أو هناك في غزة، وذلك قبل وبعد جنون الحسم العسكري والفصل الكارثي لغزة عن الضفة، الذي جعل إمكانية عودة الفلسطينيين لتكتيك "التهدئة" صعباً وغير وارد، وهذا ما سيستثمره حكام تل أبيب في الضغط والإبتزاز. وللتدليل، فقد قال الوزير الإسرائيلي عامي أيالون، (ذو الخلفية الأمنية)، "إن أي تقدم في العملية السياسية سيمنح إسرائيل هامشاً أوسع في المجال الدولي للتعامل مع "منظمات الإرهاب" في غزة بما في ذلك القيام بعملية عسكرية واسعة".

وفي ذات السياق الذي يكشف عن النوايا الإسرائيلية، فقد عارض الإسرائيليون مشروعاً تقدمت به واشنطن الى مجلس الأمن لدعم المفاوضات الثنائية الفلسطينية الإسرائيلية التي أطلقها لقاء "أنابوايس"، رغم أنه مشروع غير رسمي، خشية أن يكون ذلك بمثابة مقدمة لدور تلعبه المنظمة الدولية في المفاوضات، التي أصرت تل أبيب دوماً، وما زالت تصر، على أن تبقى مفاوضات مباشرة وثنائية، وفي أحسن الأحوال تحت رعاية واشنطن، التي أقدمت على القيام بخطوة لافتة وذات مغزى سياسي كبير، عندما سارعت الى سحب مشروع القرار، ما يعكس مدى الإنحياز الأمريكي للرؤية الإسرائيلية ومواقفها، ويكشف، (ربما للمرة الألف)، عن أن لا جدوى ولا أمل يرجى مِن الرهان على إمكانية أن تضغط واشنطن على حكام تل أبيب، أو أن تقوم بدور الوسيط النزيه في أي مفاوضات لتسوية الصراع تسوية سياسية تقود الى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وتلبي الحد الأدنى مِن الحقوق الفلسطينية، كما نصت عليها قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة.

يشكل ما تقدم دليلاً إضافياً على النوايا الإسرائيلية الحقيقية، ويضيف برهاناً جديداً على الموقف الإسرائيلي الرافض للتخلي عن أساليب المراوغة والتسويف والمناورة والإبتزاز، ويؤكد أن القادة الإسرائيليين أبعد ما يكونون عن الإستعداد لمغادرة إستراتيجية كسب الوقت وتقطيعه لصالح تنفيذ المزيد مِن حقائق الأمر الواقع وفرض الوقائع الاحتلالية على الأرض، عبر مواصلة التشبث بعقلية الاحتلال وممارسة كل صنوف جرائم الحرب ضد الفلسطينيين وأرضهم. وتلك حقائق ثابتة باتت معروفة للقاصي والداني، ولا يختلف عليها إثنان مِن الفلسطينيين، بصرف النظر عن لونهم الفكري والسياسي، كما لا ينكرها أي مِن المراقبين والمحللين الموضوعيين على إختلاف جنسياتهم ومشاربهم.

عليه، فضلاً عما في تاريخ الصراع مِن دروس على هذا الصعيد، يصبح محورياً السؤال: كيف على الفلسطينيين أن يتصرفوا تجاه ما يواجهونه هذه الأيام مِن ألاعيب إسرائيلية، ترمي فيما ترمي الى كسب المزيد مِن الوقت وخلق المزيد مِن الوقائع الاحتلالية على الأرض؟!!!

أعتقد أن الحلقة المركزية تتمثل في ضرورة أن لا يسقط أي مِن الأطراف الفلسطينية في الخديعة الإسرائيلية الرامية الى تعميق الإنقسام الفلسطيني الداخلي وزيادة عوامل توتيره وإطالة أمده واللعب على أوتاره. وبالتالي، فإنني أجزم بخطأ وتوهان كلُّ مَن يعتقد أنه قد وُجَدَ تنظيم فلسطيني يمكن لحكام تل أبيب الإعتماد عليه في تنفيذ برنامجهم على الأرض، لأن ثابتهم كان وما زال وسيبقى، (وكما سجلت مرة في مقالة سابقة)، منصباً على استباحة كل ما هو فلسطيني، وضربِ كل ما هو موجود مِن تنظيمات وشخصيات فلسطينية، سواء المتهم منها بالتطرف أو الموصوف منها بالاعتدال. وبالتالي، فإن حكومة إسرائيل، وبرغم متغير لقاء "أنابوليس"، وما نجم عنه مِن تجديد للمفاوضات، لن تشرِّع الأبواب أمام الطرف الفلسطيني المُشارك في المفاوضات، كما أنها لن تغلق كل الأبواب أمام الأطراف المعارضة لهذه المشاركة، بل ستمارس، على الأرض كما على طاولة المفاوضات، سياسةً تبقي الحياة عند طرفي السياسة الفلسطينية، وذلك ضمن الحدود التي يحتاجها استمرار الإنقسام الفلسطيني الداخلي، جنباً الى جنب مع محاولة تعميقه، في اطار سياسة "فخار يكسِّر بعضه". فبين الصوت الإسرائيلي على الأرض وصداه في "أنابوليس" فرق كبير، أعتقد أنه بات بوضوح الشمس في عز الظهيرة، وعلى الأطراف الفلسطينية كافة ادراكه، إن هي أرادت تجنب مواصلة فقدان الاتجاه والبوصلة، أي، إن هي شاءت تجنب الوقوع في الفخ المنصوب في طريق المشروع الوطني الفلسطيني وتضحياته وانجازاته على مدار عقود.

بلى، إن مِن شأن عدم التعامل الفلسطيني الجدي مع الفرق الواسع بين الممارسة الإسرائيلية على الأرض، وبين إدعاءاتها في "أنابوليس"، أن يزيح التفكير الموضوعي، الذي دون توفره، يصعب القبض الدقيق على تناقضات الواقع كما هي، بما يزيد عوامل التدهور والتداعي، خاصة في ظل اشتداد الصراع الفلسطيني الداخلي، الذي ضاعف الأوهام على حساب الوقائع المعاشة، وأدى الى اختلاط الأمور وتشوش الرؤى وتعالي نزعات التطرف والتوتير الذاتي وتراجع منطق المسؤولية الوطنية، بما جعل القبض على ما يصون المصلحة العليا للشعب والوطن أمراً صعباً.

قد يبدو ما تقدم بدهياً، ولا يحتاج الى إعادة تأكيد. وهذا صحيح مئة بالمئة. ولكن واقع الحال الفلسطيني، بعد كل ما جرى على مدار العامين الماضيين، لا يبعث على الطمأنينة، بل وينذر بالوقوع في شراك المكائد الإسرائيلية، وما خلفها مِن دعم أمريكي، فاق كل تصور، وبلغ درجة أن تسحب الإدارة الأمريكية مشروعاً تقدمت به لمجلس الأمن، رغم ما ينطوي ذلك مِن إحراج، لمجرد إبداء الإعتراض الإسرائيلي عليه، الأمر الذي يفرض ويجيز القول: حذار مِن السقوط في الفخ.

التعليقات