31/10/2010 - 11:02

محرقة غزة.. من سيحترق في نارها../ معن بشور

محرقة غزة.. من سيحترق في نارها../ معن بشور

هل تنجح تسيفي ليفني في تحقيق أهدافها الانتخابية عبر مجزرتها الدموية في غزة هذه الأيام فيما فشل فيه شمعون بيريز في "عناقيد غضبه" على لبنان عام 1996، فيصار إلى انتخابها رئيسة للحكومة الإسرائيلية بعد ستة أسابيع، بينما اخرج تفاهم نيسان الشهير بيريز من رئاسة الحكومة آنذاك ليأتي نتنياهو "الملك" رئيساً لتلك الحكومة؟

وهل سينجح ايهود اولمرت وهو يعيش أيامه الأخيرة في الحكومة، أن يستعيد هيبة فقدها، وأن يرمم صورة تكسرت، في حرب تموز 2006 على لبنان، وكان ما زال في أيامه الأولى في الحكم، بل في ان يستعيد لمواطنيه ثقة اهتزت مع الفشل المدوي لأهداف عدوان استمر 33 يوماً واستخدم من القذائف ما فاق كل ما استخدم طيلة الحرب العالمية الثانية؟

وهل سينجح جورج بوش الابن وهو يودع البيت الأبيض في تحقيق نصر "يتيم" في حرب حلفائه على غزة، بعد أن كانت ولايته الممتدة لثماني سنوات مليئة بالفشل والخيبة والأزمات على كل صعيد، بل توجّها حذاء منتظر الزيدي فيما كان بوش يسعى لتغطية خزيه، والعار الذي ألحقه ببلاده، بورقة اتفاقية أمنية وقعها محتل مع حكومة عينها بنفسه وتخشى الرحيل فيما لو رحل جيش الاحتلال عن العراق؟

ثلاثة أسئلة تطرح نفسها بقوة هذه الأيام، فيما الدم ينهمر شلالات على أرض غزة، وفيما الدمار يلف مدنها ومخيماتها، مساجدها وجامعاتها، بيوتها وسراياتها، وفيما رائحة التواطؤ والتخاذل تفوح من أكثر من عاصمة عربية يتطلع المسؤولون فيها "بأمل" كبير إلى كسر إرادة الشعب الفلسطيني و"اجتثاث" ثقافة المقاومة حتى لا تصبح المقاومة نهجاً معتمداً من كل الشعوب، وتصبح الإرادة الشعبية صاحبة القول الفصل في كل الأمور.

وإذا كان التحليل البسيط والأولي يقود إلى الرد بالإيجاب على الأسئلة المطروحة انطلاقا من الظروف الموضوعية التي تحيط بغزة، المحاصرة أصلا من أربع جهات، والمحاصرة في لقمة عيشها ومقومات حياتها منذ عدة أشهر، والمحاصرة كذلك بانقسام سياسي فلسطيني، لم نعد ندري إذا كان هذا الانقسام احد أسباب استسهال العدوان على غزة، أم احد العوامل التي مهّدت لهذا العدوان وجهزت الظروف لانطلاقه.

لكن الغوص بالتحليل إلى ما هو ابعد مما يطفو على السطح، والى ما هو أدق من الغرق في الدماء التي تسيل كل لحظة على ارض غزة الطاهرة، يقودنا إلى أجوبة من نوع مختلف، بل إلى سيناريوهات قد ترشح الحرب الدائرة ضد غزة لأن تكون مسماراً جديداً في نعش المشروع الصهيوني الذي لا يدرك احد عمق مأزقه، كما يدركه قادته الذين يهربون دائما، ككل عاجز أو مرتبك، إلى المزيد من البطش والقتل والإبادة الوحشية تأكيداً لمعادلة كرستها كل تجارب الشعوب وتقول: كلما ازداد العدو عجزاً فانه يزداد بطشاً، وكلما ازداد مأزقه عمقاً فانه يزداد قمعاً، دون أن يدرك أن الدماء التي تسيل على يديه هي التي تحاصره وتحفر حوله الأخاديد حتى تأتي لحظة الانهيار الكبير.

فالحرب التي أرادتها تل أبيب والمتواطئون معها للتخلص من إمساك غزة بخيار المقاومة، وتمسكها به على مدى أكثر من 41 عاماً من الاحتلال، هي التي قد تكون سبباً في انتفاضة ثالثة تعم الضفة الغربية، وتتوحد من خلالها القوى الفلسطينية التي فرض عليها الانقسام، وبالتالي ستكون سبباً في اتساع رقعة المقاومة بدلاً من تصفيتها.

وغزة التي ظن أهل العدوان الصهيوني عليها والمتآمرون معهم، أنها الخاصرة الرخوة في جسم المقاومة المتنامي في الأمة، ستتحول إلى ملهمة لنهضة شعبية، طال انتظارها على مستوى الأمة كلها، وخصوصاً في الدول التي اختار القيمون عليها نهج الصمت أو التخاذل أو التواطؤ في علاقتهم على أعداء الأمة.

فمن يتابع ما يجري في الشارع العربي ( وقد بلغ التشكيك بوجود هذا الشارع وبعروبته أوسع مدى) من نواكشوط في أقصى المحيط إلى مسقط وصلالة في أقصى الخليج، لا يلاحظ اتساع الحركة الشعبية العربية الرافضة للعدوان، والمنتفضة بوجه المتواطئين معه فقط، بل يلاحظ أيضا أمور خمسة بالغة الأهمية.

الأمر الأول هو سرعة التحرك على امتداد الوطن الكبير، إذ لم تمر على نقل الصور المريعة في غزة عبر الفضائيات، إلا وكانت الجماهير في الشوارع، وفي وقت قياسي لم نشهده في أي مرحلة سابقة، بما فيها مرحلة عدوان تموز 2006 على لبنان، حيث تأخر التحرك الشعبي أياماً استغلها بعض الحكام لكشف حجم تورطهم في تلك الحرب على المقاومة.

الأمر الثاني هو في تصاعد التحرك، كماً ونوعاً، كما كان عليه في مرات سابقة مما يؤكد أن حركة الشعوب هي حركة متراكمة متصاعدة لا تنطلق "بكبسة زر"، كما كان يطالب بعض المستعجلين أو المشككّين، بل إنها في تراكمها وتصاعدها تزداد خبرة وتجربة، وتبني آلياتها، وتتعرف إلى قياداتها الجديدة أو المتجددة، فتتحول شيئاً فشيئاً إلى ما يشبه البحر الهادر الذي تتجمع فيه الأنهار والأمطار، وتصب فيه كل الروافد والينابيع.

الأمر الثالث هو في وضوح مطالب التحرك ووحدتها في كل مكان، فقطع العلاقات مع الكيان الصهيوني وطرد السفير الإسرائيلي مطالب لا ترتفع في الدول التي تقيم علاقات مع تل أبيب فحسب بل في الدول الأخرى، وفتح معبر رفح مطلب أجمعت عليه الأمة وبات المدافعون عن إغلاقه يتلعثمون كلما حاولوا إيجاد الذرائع له.

ومن جهة أخرى فإن عقد قمة عربية طارئة، رغم محدودية النتائج المتوقعة عنها، بات شعاراً وبنداً في جدول أعمال كل التحركات الشعبية بما يعبر بوضوح عن إحساس عفوي بسيط بان تعطيل القمم العربية، مهما كانت مخيبة للآمال في قراراتها، هو هدف ثمين لمن يسعى إلى أن تحل "الرابطة الشرق أوسطية"، وفي قلبها الكيان الصهيوني، مكان الرابطة العربية وفي قلبها فلسطين، بل كأن الجماهير العربية بإصرارها على عقد القمة، رغم عدم ثقتها بعدد كبير من حاضريها، إنما تريد أن تثأر لقمة دمشق في آذار/مارس المنصرم، والتي وضعت إدارة بوش كل ثقلها لمنع انعقادها أو لإفشالها أو للحيلولة دون مشاركة الجميع فيها.

أما الأمر الرابع فهو إن هذا الحراك الشعبي الواسع، قد اتخذ في مصر شكلا جديداً لم تشهده أرض الكنانة من قبل، لا كماً ولا نوعاً، حيث شملت المسيرات الشعبية غالبية المحافظات المصرية وكل الجامعات (رغم التعتيم الإعلامي) كما شاركت فيها كل الأحزاب والنقابات، التي لم تفهم، كما لم يفهم المواطن المصري العادي، كيف يستمر إغلاق معبر رفح فيما ينهمر على حدود مصر، وبما يهدد أمنها القومي، كل هذا الدم الفلسطيني على يد آلة القتل الصهيونية.

وقد زاد من حدة التحرك الشعبي أن هذه المجزرة قد وقعت بعد يومين فقط على تهديدات سافرة ووقحة أطلقتها وزيرة خارجية الكيان الصهيوني من منبر القاهرة الرسمي، فيما لم تكن مصر قد انتهت بعد من احتفالات العيد الثاني والخمسين للنصر على العدوان الصهيوني البريطاني – الفرنسي للانتصار في معركة بور سعيد الظافرة بالذات والتي شهدت حرباً دمّرت كل أحيائها ومرافقها وقتلت الآلاف من أبنائها (تماماً كما يحصل اليوم في غزة، وكما حصل في لبنان وكما يحصل يومياً في العراق والصومال).

الأمر الخامس هو أن دولاً عربية، كان لها موقف مشجع للعدوان على لبنان عام 2006، قد بدا أنها تراجعت اليوم، إما بالتزامها الصمت أو بإفساح المجال لحركة الشارع أن تعبر عن نفسها بكل زخم وقوة، وهو ما يشير إلى بداية تفكك فيما أسمته رايس يوماً بمعسكر الاعتدال.

لقد فاجأت الانتفاضة الفلسطينية الجديدة في القدس وفي كل مدن الضفة ومخيماتها، وفي الأراضي المحتلة عام 1948 صنّاع القرار في العواصم العربية والدولية في آن، فأدرك الرئيس الأمريكي المنتخب باراك أوباما انه إذا أراد أن يحسّن صورة بلاده لدى العرب والمسلمين فعليه أن ينأى بنفسه عن إعلان موقف مما يجري في غزة، مختبئاً خلف "الرئيس الوحيد لأمريكا" جورج بوش الذي لم يعد لديه الكثير ليخسره.

وبقدر ما فاجأت التطورات المتسارعة في الشارع الفلسطيني والعربي العديد من العواصم العربية والعالمية، فان وحشية المجزرة الصهيونية المستمرة في غزة قد أربكت حتى أكثر المؤيدين للكيان الصهيوني والذين كانوا يرون في سكانه "ضحايا" المحرقة النازية فإذا بهم يفاجأون بهذا الكيان وهو يرتكب "المحرقة" تلو الأخرى، بل ويتباهى مسؤولون فيه بهذا الارتكاب.

لذلك كانت ردود الفعل أيضا في غير عاصمة إقليمية أو دولية سريعة على غير عادته، فتركيا الغاضبة دوماً بشعبها على جرائم تل أبيب، غضبت هذه المرة بحكومتها التي اعتبر رئيسها ما يجري في غزة جريمة ضد الإنسانية، وهدد بالتنصل من أي مفاوضات تجري برعايته، والموقف ذاته أعلنه وزير خارجية باكستان رغم حراجة وضع بلاده في أزمته مع الهند.

رئيس وزراء بريطانيا نفسه الذي حاول في اليوم الأول للمجزرة أن يبرر العدوان الصهيوني، وجد نفسه أمام هول الجريمة وغضب الشارع في بلاده مضطراً للمطالبة بوقف فوري لإطلاق النار، متذكراً مصير بلير الذي ربط نفسه بذيل بوش، فإذ به يسبقه إلى الخيبة والفشل والانكفاء رغم كل محاولات "الإنعاش" التي تجري له.

الاتحاد الروسي أيضا كان سريعاً هذه المرة بدعوته لوقف إطلاق النار، ومثله الصين، وهي سرعة لم نلحظها خلال عدوان تموز 2006، وهذا أمر طبيعي في روسيا ما بعد الأزمة الجورجية حيث كان التورط الإسرائيلي فيها فاضحاً، وفي الصين التي تخوض معارك صامتة مع واشنطن في غير قارة وفي غير ساحة.

دول كثيرة أخرى، أوروبية وغير أوروبية، سارعت إلى إدانة المجزرة والدعوة إلى وقف إطلاق النار وهو أمر يسمح للمجموعة العربية أو المجموعة الإسلامية أو مجموعة عدم الانحياز أن تتحرك لاتخاذ قرار في الجمعية العامة للأمم المتحدة ( وبعيداً عن الفيتو الأمريكي) ووفقاً لمبدأ "التحالف من اجل السلام" الذي استخدم خلال الحرب الكورية في أوائل الخمسينات وحرب السويس في أواسط الستينات، لاتخاذ قرارات واضحة ضد حروب كانت تشارك فيها دول دائمة العضوية في مجلس الأمن ومالكة لحق الفيتو.

أمام هذا المشهد الشعبي والرسمي، العربي والإقليمي والدولي، ستجد حكومة تل أبيب نفسها أمام مأزق متصاعد وسترى في المزيد من التصعيد الدموي مخرجاً لها منه، ، ويتفاقم المأزق خصوصاً في ظل تحولات دولية، وارتباكات أمريكية، فيلجأ العدو إلى المزيد والمزيد من التصعيد حسب قوله تعالى في كتابه العزيز " يمدهم في طغيانهم يعمهون".

هنا قد لا تكون غزة وحدها هدفاً كافياً للعدوان، وقد تجد تل أبيب نفسها مضطرة لتوسيع رقعة الحرب والعدوان، فتسعى للثأر من لبنان والمقاومة فيه، وتحاول الانتقام من دمشق والشريان الذي توفره للمقاومة في غير ساحة، وتحقق حلماً قديماً لإدارة بوش بالانقضاض على إيران، فتتحول الجراحة الإسرائيلية المحدودة في غزة إلى عملية كبرى في المنطقة كلها.

فهل تتحمل ليفني ومعها اولمرت وباراك، نتائج مثل هذا التصعيد، وهل ستجد من يشجعها عليه في إدارة راحلة في واشنطن، أو في أنظمة وقيادات مهتزة في المنطقة، أم أنها ستتراجع عن مغامرتها الدموية، وتقبل بتهدئة جديدة ولكن بشروط جديدة.

فإذا كانت التهدئة مع الاحتلال أمرا غير مستحب عقائدياً ووطنياً وقومياً على غير مستوى، فمن الطبيعي ألا تكون هناك تهدئة لا تنهي الحصار ( والحصار عدوان بكل المعايير) ولا تشمل كل الأراضي المحتلة بما فيها وقف الاستيطان والجدار، ووقف الاعتقالات والاغتيالات واعتداءات المستوطنين، ووقف التهويد والتهجير في القدس.

لقد قلنا في أول ساعات حرب تموز 2006 على لبنان ونقولها اليوم:
قد يملك الكيان الصهيوني قدرات هائلة على القتل والتدمير والإبادة الجماعية، وهي في النهاية قدرات تكتيكية، لكن هذا الكيان مكبل استراتيجياً لأنه لم يعد قادراً على امتلاك القدرة على تغيير المعادلات، لأن تغيير المعادلات لا يتحقق إلاّ بالاحتلال، وهو أمر مكلف إذا أقدم الجيش الإسرائيلي على احتلال الأرض، ومكلف أكثر إذا حاول البقاء في الأرض المحتلة.

وسيشرق النصر من عيون أطفال غزة، رغم الدماء والدموع، وسيسقط العدوان والحصار والانقسام، وسيملأ الفلسطينيون الأيام الفاصلة بين احتفالاتهم بتأسيس حماس في 21 كانون الأول/ديسمبر، وتلك بانطلاقة رصاصات فتح في الأول من كانون الثاني، بالمزيد من الصمود والمقاومة واستعادة روح الانتفاضة.
وستظهر الأيام من الذي سيحترق بالفعل في "محرقة غزة"، أهو فقط الأجساد الطاهرة لأبناء القطاع المجاهد، أم انه المشروع الصهيوني العنصري الفاشي التوسعي وقد بات مترهلاً بكل المقاييس.

التعليقات