إننى أطلب منكم - يا أهل غزة - ثلاثة أشياء: الأمل، والصبر، والإيمان. إن الأمل والصبر والإيمان هي طريقكم إلى الانتصار على جميع القوى التى تتآمر ضدكم.
جمال عبد الناصر
يُقال إنّ الهدف من الإجراءات العقابية بحق غزة كان بغرض إضعاف حكم حركة حماس من خلال تحريض الموظف على النزول للشارع والتظاهر ضدها. ولكن هذا لم يتحقق، على الرغم من نزول العديدين إلى الشارع فيما يسمى حراك "بدنا نعيش" المطلبي الذي تم قمعه بشدة. لم تسقط حكومة حماس، بل صمدت أمام شدائد الحصار والتجويع. أمّا السلطة في رام الله، فلم تتراجع عن إجراءاتها العقابيّة وما زالت مصرّة على تحميل المواطن العادي ما فشلت كل القوى السياسية والتنظيمية ومؤسسات المجتمع المدني وبعض القوى الإقليمية، وحتى الدولية، على القيام به.
وفي الوقت الذي قطعت/ اقتطعت فيه سلطة رام الله رواتب موظفي غزة بغير وجهة حق، اتخذت الحكومة السابقة قرارًا بزيادة رواتب وزرائها بمبلغ 2000 دولار أميركي، بالإضافة إلى بدل إيجار سكن. أثار هذا الإجراء حفيظة الشارع الفلسطيني، الغزي منه بالذات، عن مدى مصداقية المبررات غير المنطقية التي طرحتها الحكومة عن الخصومات على رواتب موظفي غزة دون غيرهم. هذا بالإضافة إلى الإجراءات الأخرى بحق أسر الأسرى والشهداء وقِطاعَي الصحة والتعليم ووقف العلاوات والترقيات...إلخ.
تم تبرير هذا الإجراء المتخذ بـ"خطأ فني" أصاب حاسوب وزارة المالية واستهدف موظفي غزة فقط، بالرغم من الوعود التي قُطعت بإنهاء الأزمة قبل عقد دورات المجلسين الوطني والمركزي. ووعود الحكومة الحالية بأن سياساتها ستتجه إلى "عدم التمييز" و "توحيد معيار صرف رواتب الموظفين الرسميين بين قطاع غزة والضفة الغربية"، كما وعدت بصرف ما نسبته 110% من راتب شهر آب/ أغسطس. ولكن هذا لم يتحقق.
أصدرت كل الفصائل تقريبًا، بما فيها حركة فتح في غزة بيانات تحتج فيها على سياسة التمييز بين موظفي السلطة في غزة والضفة وطالبت "بإلغاء كل أشكال التمييز" عملًا بقانون الخدمة المدنية، واعتبرت أنه "لا يعقل أن يتم اعتبار الراتب الكامل لموظفي السلطة الفلسطينية في قطاع غزة بنسبة 70%، ويتم الصرف بنسبة 60% من أصل 70%، فيما تصرف لموظفي السلطة في الضفة بنسبة 60% من أصل 100%"، وطالبت بالالتزام بالتصريحات التي أطلقها رئيس وزراء حكومة رام الله د. محمد إشتية، عن توحيد الرواتب.
منذ شهر آذار/مارس 2017 حتى اليوم، صدر العشرات من بيانات الإدانة لسياسات السلطة الفلسطينية تجاه قطاع غزة المحاصر ولم يؤدِ أي بيان إلى أي تغيير في سياسة الحكومة بخصوص سياسة التمييز المعتمدة. كما فشلت كافة الوسائل الأخرى في حث السلطة للتراجع عن إجراءاتها، وفشلت بدورها النقابات فشلًا ذريعًا في القيام بالدور المنوط بها.
تواجه القضية الفلسطينية ارتباكا وغيابا فادحا للحد الأدنى من الكفاءات والإدارة أو الرؤية السياسية المتماسكة، والعدالة في التوزيع. فالتضحيات الجسام التي يبذلها القطاع في مواجهات يومية مع الاحتلال سال خلالها دماء الآلاف من الشهداء والجرحى الرجال والأطفال والنساء، و71 عاما من التشريد والتطهير العرقي والأبرتهايد ألا تستحق إدارة ذات كفاءة لتسيير الحياة اليومية لثلث الشعب الفلسطيني؟ فقط ذلك، لا أكثر ولا أقل، إدارة مدنية تسيّر الشؤون اليومية من صحة، وتعليم، وتنظيم المرور، وجمع القمامة.
فإذا كان الشعب الفلسطيني يتميز بأن لديه أعلى نسبة تعليم في العالم، وأنجب أبرز المفكرين والكتاب والفنانين والشعراء، ألا يستحق هذا الشعب إدارة شفافة وديمقراطية بعيدة عن المحاباة توفر له الحد الأدنى من مقومات الصمود والمقاومة في ظروف مواجهة مع أشرس حكومات إسرائيل وأكثرها فاشية منذ 1948، وسُبل لمواجهة عملية إبادة غير مسبوقة وتطهير عرقي واستيطان يلتهم الأرض بشكل جعل إقامة حتى بانتوستان مستحيلا. كيف يمكن لهذا الشعب الاستمرار في مواجهة حصار وثلاثة حروب إبادية أتت على الأخضر واليابس في قطاع غزة وحولته إلى أكبر معسكر اعتقال على سطح الكرة الأرضية في ظل انهيار القطاع الصحي بالكامل، وانقطاع الكهرباء، وانعدام الأمان الفردي للمواطنين، وغياب فرص العمل، وتدهور التعليم، والقائمة تطول. وما زلنا لا نستطيع تحقيق حتى المساواة في الرواتب!
القدس راحت، والضفة سيتم ضمها قريبا، وغزة محاصرة بشكل إبادي، واللاجئون يتم تصفيتهم، والصفقة التصفوية تطبق عمليا، وغزة مجبرة على التعامل مع التمييز في الرواتب، ولا يزال البعض لا يرى هذه المفارقة ويضع رأسه في الرمال.
ويبقى القلق الوجودي في هذا السياق هو حالة التفسخ الوطني الذي يحصل من إنهاء للدور الذي يجب أن تقوم به القوى السياسية من دفاع عن حقوق الشعب، وما يجب أن يقوم به المجتمع المدني من تشكيل حصن منيع داعم لصموده، ما يسرّع في "حل" شبيه لما حصل لسكان أميركا الأصليين في ظل الحديث عن صفقة القرن التصفوية ومحاولات إسرائيل تشجيع هجرة سكان قطاع غزة الذي يشكل خطرًا ديموغرافيًا كبيرًا عليها. وفي ظل انسداد الأفق السياسي الخارجي، ما زال التعنت الفلسطيني الداخلي يتصدر الموقف، والقسوة بين الأشقاء في شطري الوطن تفطر القلب. ولكن قد نجد بعض المواساة فيما قاله الراحل الكبير محمود درويش عن غزة:
ليست غزة أجمل المدن.
ليس شاطئها أشد زرقة من شؤاطئ المدن العربية
وليس برتقالها أجمل برتقال على حوض البحر الأبيض
وليست غزة أغنى المدن
وليست أرقى المدن وليست أكبر المدن.
ولكنها تعادل تاريخ أمة. لأنها أشد قبحا في عيون الأعداء، وفقرا وبؤسا وشراسة. لأنها أشدنا قدرة على تعكير مزاج العدو وراحته، لأنها كابوسه، لأنها برتقال ملغوم، وأطفال بلا طفولة وشيوخ بلا شيخوخة، ونساء بلا رغبات، لأنها كذلك فهي أجملنا وأصفانا وأغنانا وأكثرنا جدارة بالحب.
* محلل سياساتي في شبكة السياسات الفلسطينية «الشبكة»، وأستاذ جامعي في جامعة الأقصى ــ غزة.
التعليقات