16/12/2019 - 19:45

الانتخابات البريطانية: انطباعات فلسطينية

للأمانة التاريخية، فإن كوربن أبدى تفهمًا كبيرًا لم أعهده من أي سياسي بريطاني، وقام بإثارة العديد من الأسئلة "الصعبة" عن حركة المقاطعة وعن حلول سياسية أخرى تتوافق مع ما تواجهه القضية الفلسطينية. الانطباع الذي تركه هذا اللقاء في مجلس العموم،

الانتخابات البريطانية: انطباعات فلسطينية

منذ البدء بفرز أصوات الناخبين في بريطانيا والإعلان عن النتيجة المفجعة، لم أتوقف عن التفكير في الأسباب، بعيدًا عن التبسيط المؤامراتي، بل في سياق تحالف قوى اليمين، حتى من داخل حزب العمال، وتحدي الرأسمالية في عقر دارها، والدور الذي لعبه الإعلام التعبوي "وإن كان يلبس ثوبًا ديمقراطيًا"، بالإضافة إلى دور العنصرية البيضاء، الإسلاموفوبيا، والطبقية، والمناطقية، وقدرة الرأسمالية البيضاء على خلق هكذا تحالف.

ولكن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها، هي أن هناك رسالة واضحة أرادت من خلالها كل تلك القوى التي فازت في الانتخابات، توجيه ضربة موجعة ليس فقط لجيرمي كوربن والجناح الذي يمثله داخل حزب العمال، بل لكل القوى المناهضة للرأسمالية والعولمة والعنصرية والنيوكولونيالية ولأيديولوجيات الكراهية السائدة في المجتمع الرأسمالي المتأخر. فالديمقراطية الليبرالية، الغربية تحديدًا، لها حدودها التي لا يمكن أن تسمح لتيار تغييري جذري بتخطيه من خلال الأدوات التي ابتدعتها هي نفسها.

حيدر عيد

كانت تجربتي، كفلسطيني عضو في حركة المقاطعة الفلسطينية التي توجه دفة حركة "بي دي أس" العالمية، وأحد سكان قطاع غزة المحاصر، مع جيرمي كوربن غاية في الثراء على الرغم من قصر مدتها. ففي العام 2010، قامت كل من لجان التضامن الإسكتلندية والشبكة العالمية اليهودية لمناهضة الصهيونية بالتنسيق لحملة توعوية خطابية في عدة دول أوروبية، من ضمنها المملكة المتحدة، بعنوان "ليس مرة أخرى - من أوشفتس إلى غزة"، تهدف "للتعلم من جرائم الماضي القريب وتثقيف العامة عن الجرائم الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني".  وكان الضيف المتحدث الآخر هو المناضل الناجي من الهولوكوست وأحد سجناء معسكر أوشفتس، الراحل هاجو ماير. وجرى اختيار مجلس العموم البريطاني ضمن إحدى محطات الفعاليات لإلقاء الكلمات الرئيسية التي تزامنت مع "يوم ذكرى المحرقة"، حيث ترأس الجلسة كوربن كونه عضو برلمان، وهو مناصر مبدئي للقضية الفلسطينية وناشط سابق في حركة مناهضة الأبرتهايد الجنوب أفريقي.

وفي العام 2018، تم استغلال هذه الفعالية كدليل على تأييده لفعاليات معادية للسامية، تلك التهمة "الجاهزة التعليب"، والتي تستخدمها إسرائيل وأنصارها ضد أي حركة مؤيدة لنضال الشعب الفلسطيني من أجل الحرية والعدالة والمساواة. وللحقيقة، فإن كل ما قمت باقتباسه في كلمتي، التي ألقيتها تلفونيًا بسبب الحصار الإبادي الذي قامت إسرائيل بفرضه على قطاع غزة منذ 2007، هي لنشطاء وكتاب يهود و/أو إسرائيليين من المناضل روني كاسرلز إلى إيلان بابيه وغدعون ليفي، وغيرهم من الذين أشاركهم رؤية دولة ديمقراطية علمانية في فلسطين. دولة لكل سكانها بغض النظر عن الدين واللون والجنس.

استخدمت هذه الفعالية لاحقًا في شهر آب/ أغسطس 2018 من قبل اللوبي الصهيوني وغيره، للتدليل على عداء كوربن للسامية كونه قام برئاسة تلك الجلسة، التي جرى تصويرها ونشرها على الملأ عبر الشبكة العنكبوتية. وقام كوربن برد يحمل صبغة اعتذارية في صحيفة "ذي غارديان" ذائعة الصيت. والحقيقة أن رده كان مخيبًا للآمال على الرغم من شراسة الحملة التي قادتها "بي بي سي" و"تايمز"، وحتى "ذي غارديان" نفسها. فقد كانت وجهة نظر العديدين من النشطاء، مثل المفكر البريطاني الباكستاني الأصل طارق علي، أنه كان يتوجب على كوربن المواجهة الواضحة والصدام مع اللوبي الإسرائيلي، الذي عمل جاهدًا منذ فوزه برئاسة حزب العمال على تشويه صورته وشيطنته.

لا غرابة إذًا أن ترحب إسرائيل بهزيمته في الانتخابات الأخيرة، وقيام رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، فور الإعلان عن النتائج بالتغريد والإعراب عن سعادته بـ"الفوز التاريخي" لصديقه بوريس جونسون، واعتباره "يومًا عظيمًا للشعب البريطاني والصداقة بين البلدين". أما رئيس قائمة "كاحول لافان" بيني غانتس، فقد أشار إلى أن "نتائج الانتخابات في بريطانيا، التي خسر فيها جيرمي كوربن الذي سمح بنمو فقاعات معاداة السامية داخل حزبه، هي أخبار سارة لإسرائيل"، وباستمرار "تعزيز العلاقات الاقتصادية والأمنية والثقافية بين بريطانيا وإسرائيل".

والمرة الثانية التي قمت بها بمقابلة كوربن شخصيًا كانت في العام 2013، بدعوة من الرجل الثاني في الحزب وعضو مجلس العموم، السيد جون مكدونيل، للحديث عن القضية الفلسطينية والوضع في غزة وحركة المقاطعة، والإجابة عن سؤال: ما هو المطلوب؟ وللأمانة التاريخية، فإن كوربن أبدى تفهمًا كبيرًا لم أعهده من أي سياسي بريطاني، وقام بإثارة العديد من الأسئلة "الصعبة" عن حركة المقاطعة وعن حلول سياسية أخرى تتوافق مع ما تواجهه القضية الفلسطينية. الانطباع الذي تركه هذا اللقاء في مجلس العموم، أن هذا الرجل هو رجل مبدئي، "واحد منّا". مؤيد شرس للحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني، بالضبط كما كان مناصرًا لنضال الشعب الجنوب أفريقي ضد العنصرية البغيضة. وتوافقت معه تمامًا في ما يتعلق بقضايا العدالة الاجتماعية.

بعد هذه الهزيمة التي مني بها حزب العمال البريطاني، ولأن اليأس غير مطروح على الرغم من كل الغضب الذي يعتمرنا بعد الانتخابات، التي فاز بها اليمين العنصري والمعادي لحقوقنا بشكل فج، وبعد متابعتي لأكثر من 10 سنوات لما يقوم به جيرمي كوربن، ازددت اقتناعًا أننا ننتمي لنفس الحركة العالمية التي تنادي بالعدالة والكرامة الإنسانية والمساواة، وضمان الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية لكل بني البشر. وهذا هو النقيض الرئيس لمصالح تلك القوى التي اجتمعت لضمان سقوطه المدوي في انتخابات مجلس العموم.


حيدر عيد: محلل سياساتي في شبكة السياسات الفلسطينية "الشبكة".

التعليقات