29/09/2020 - 20:47

"أجيال ورا أجيال هتعيش على حلمنا"...

انتفاضة أو هبة تشرين الأول/ أكتوبر عام 2000، كانت لحظة فارقة في تاريخ شعبنا الفلسطيني، وخصوصًا العرب الفلسطينيين داخل دولة إسرائيل، وشكّلت هزّة عنيفة وغيّرت أفكار وأوهام الكثيرين.

توضيحية من الأرشيف

انتفاضة أو هبة تشرين الأول/ أكتوبر عام 2000، كانت لحظة فارقة في تاريخ شعبنا الفلسطيني، وخصوصًا العرب الفلسطينيين داخل دولة إسرائيل، وشكّلت هزّة عنيفة وغيّرت أفكار وأوهام الكثيرين.

سقط فيها القناع عن حقيقة ما تكنّه الدولة للجماهير العربية الفلسطينية من حقدٍ وتربّص، وكأنما كانت تنتظر الفرصة للانقضاض عليهم، فأراقت دماء شبّان في سن الورود دون أي شعور بتأنيب أو وازعٍ من ضمير، بل وبحماسٍ كبير، وراح المجرمون في قمة الهرم السياسي يبررون القتل، ويدافعون عن القتلة، كيف لا؟ فهم أصحاب القرار.

لكن هذا ليس أهم ما في موضوع هبّة 2000، فالأهم هو اكتشاف جيل الشباب الصاعد في حينه لذاته ولموقعه، وما هي المسؤولية الملقاة على عاتقه، وحقيقة كونه مواطنًا ناقص الحقوق، وبأنه معرّض في كل لحظة وبقرار سياسي ممكن لأي مسؤول اتخاذه لأن يُعامَل كعدوٍ يستبيحون دمه، حتى أن بعض المستشفيات كانت تسجل المصابين الذين وصلوها على أنهم من "قوّات العدو"، وكأنما نقلتهم سيارات الإسعاف من الخنادق وساحات المعارك. لقد فهم الجيل الشاب وتعلّم في ساعات وأيام قليلة ماذا يمثل بالنّسبة للدولة ونظامها، بحيث لم يبق وهم عند أحد.

الاكتشاف الثاني، هو قدرة الأحداث على التحوّل بدينامية إلى "انفجارات" قوية وإلى زخم شعبي، وذلك من خلال سرعة ردّ الفعل واكتشاف قدرة الجماهير على الرد والمواجهة دون تردّد، حتى مع تضحيات، وهذا دحض مقولات عن عدم نضج الجماهير وسباتها وعدم جهوزيتها، فأثبتت الجماهير استعدادها للعطاء بزخم أكبر بكثير مما كان يبدو على السطح. الجماهير لم تنتظر قرارات قيادات للمواجهة، بل خرجت لترد على استفزاز شارون لمشاعرها باقتحامه المسجد الأقصى، ثم ردّت بزخم أكبر منتفضة لكرامتها وإنسانيتها عندما ظهر مشهد الطفل محمد الدرّة الذي حاول الاحتماء وراء ظهر أبيه.

لقد دحض الشبان خلال ساعات مقولات كانت سائدة، بأنهم جيل غير مبال، ومستهتر واتكالي ولا فائدة ترجى منه وغيرها من أفكار ظالمة، إذ خرج الشبان الذين كانوا مشغولين في طلب العلم والرزق والترفيه، وانقلبت الصورة، ليتضح أن هذا الجيل ليس مستهترًا وليس غافلا عما يدور حوله، وليس جيل استهلاك وضياع، وأقصد من كانوا في الثانوية فما فوق، الذين أثبتوا بأنهم يعون جيّدا ما يدور من حولهم، وأن المشاعر الوطنية مغروسة في أعماقهم، وعندما توفّرت الفرصة لم يتوانوا عن الواجب، فخرجوا بآلافهم إلى الشوارع وأغلقوها، ووقفوا حرّاسًا على مداخل قراهم ومدنهم متصدّين لقوات القمع، ولم يثنهم تفاقم العنف وأعداد الضحايا التي بدأت تتساقط، من شهداء وجرحى ومعتقلين، بل هذا زاد من غضبهم وعنفوانهم.

هؤلاء الشبان ذوو الأعمار الغضة، أعلنوا بدمائهم وعنفوانهم بأن الشعب الفلسطيني واحد، وأن المناطق والتقسيمات الجغرافية لم تنجح في تفتيته، فما يؤلم ابن رفح يؤلم ابن نابلس وبيت لحم وابن الجليل والنقب والمثلث والساحل والمخيّمات في سورية ولبنان والأردن والشتات وفي كل مكان.

شبان هبة تشرين الأول/ أكتوبر أيقظوا في حينه العالم العربي كله، لم يمت العرب، بل إنهم أمة حية، وما ينقصها هو قيادات جريئة تتخذ قرارات، فقد انطلقت في حينه مسيرات وفعاليات التضامن من المحيط إلى الخليج، دون استثناء لأي بلد، وانطلقت برامج الدعم المعنوي عبر الفضائيات، وانتشرت أغنية "الحلم العربي" التي كان قد صدرت عام 1998 ولكنها لم تشتهر إلا خلال هبّة أكتوبر، والتي جمعت عددًا كبيرًا من الفنانين العرب، ثم أغنية "القدس هترجع لنا"، التي استُلهمت من مشهد الطفل محمد الدرة ووالده، ومطلعها: كان "شايل ألوانه، كان رايح مدرسته وبيحلم بحصانه، وبلعبة وطيارته، ولما انطلق الغدر وموّت حتى براءته، سال الدم الطاهر على كراسته".

فجأة انتقلت الأمة من حالة الموات، إلى حراك حياة قومي من المحيط إلى الخليج، لتعلن بأن الشعوب العربية لم تقل كلمتها الأخيرة بعد.

هبة أكتوبر كانت هزّة عميقة في الوعي الفلسطيني، ولاقت صداها في العالم العربي وحتى الدولي، وكانت مؤشّرًا وعلامة طريق للمستقبل، بأن الشعوب لن تهدأ على الظلم والضيم وهضم الحقوق إلى الأبد، ودفعت الجميع إلى إعادة حساباته سواء من الفلسطينيين أو العرب أو قادة إسرائيل، ودفعت بمسألة الفلسطينيين العرب في داخل إسرائيل ومصيرهم وحقوقهم وما يمثلونه إلى صدارة المشهد، خصوصًا بعدما قالت الانتفاضة كلمتها، بأن الشّعب الفلسطيني كان وسيبقى واحدًا في معاناته وفي حاضره وطموحه ومصيره، وأن الحلم العربي ستحمله "أجيال ورا أجيال" حتى يتحقق.

اقرأ/ي أيضًا | سلام الخرفان

التعليقات