22/08/2021 - 18:12

يمكن إحياء السياسة

يعيش المشهد السياسي الفلسطيني بكافة أحزابه وحركاته السياسية وأطره التمثيلية داخل الخط الأخضر، أسوأ فصوله؛ أحزاب محظورة، وأحزاب متآكلة ومتنصلة من تراثها ومنطلقاتها الأولى، وأحزاب تعرّت بالكامل من كل ما هو وطني وأخلاقي، وحوّلت نفسها إلى عكازة لحكومة الاستيطان

يمكن إحياء السياسة

جمعة الغضب 8 في أم الفحم (عرب 48)

بات من الصعب تناول معضلات العمل السياسي الفلسطيني داخل الخط الأخضر ومنحدراته غير المسبوقة، بمعزل عن الحالة الفلسطينية العامة، وعن الظرف الاستعماري الذي يزداد تغولا ووحشية؛ إذ لم تترك إسرائيل فرصة لمحاولة عبثية كهذه، أي فصل الجزء عن الكل، خصوصًا بعد أن خلعت عن وجهها قناع التحايل والتمويه والتزييف، فظهرت الآن لمن كان يجهل أو يتجاهل حقيقتها؛ مُستعمَرة وغاصبة ومتوحشة، ونظام فصل جشع وعنصري سافرٌ وبلا رتوش، يبسط سيطرته على كامل فلسطين.

وعلى خلاف توقعات قباطنة هذه المستعمرة وأحلامهم المريضة، جاءت انتفاضة الأمل والكرامة ومعركة القدس، في أيار/ مايو الماضي، لتقلب المعادلة وتُعيد وحدة فلسطين في الوعي العام كبلدٍ محتل ومستعمَر، وأن المقاومة لهذه الهيمنة لم تمت، ولن تموت، وستظل تتجدد بشكلها الصدامي الشامل بين الحين والآخر. أما على الصعيد اليومي، فالمقاومة بأشكالها المختلفة، ومنها الصمود في الأرض، وبناء المؤسسات، واكتساب العلم والمعرفة، وتعلّم الرواية الفلسطينية وقصص التحرر والحرية، مستمرة ولا تتوقف.

ولكن لغرض البحث، سنفصل حالة فلسطينيي الداخل عن بقية المشهد الفلسطيني، وسنحاول في هذه العجالة عرض بعض الملاحظات، وكذلك التساؤلات والتصورات بشأن المشهد السياسي الداخلي، والتأمل في طرق الإفلات منه.

في السنوات الأخيرة، جدد النشطاء النقديون، والكتاب والمثقفون، والأكاديميون الجذريون، قراءاتهم النقدية لواقع فلسطينيي الداخل وعلاقتهم بإسرائيل وبالشعب الفلسطيني، وقدموا تصوراتهم للمستقبل. وهذا في رأيي بمثابة الموجة الثانية والأكثر نقدية بعد مرحلة ظهور حزب التجمع الوطني الديمقراطي، ووثائق التصور المستقبلي، التي باتت تحتاج إلى تطوير بحيث تسمي الأشياء والواقع بمسمياتها، خصوصًا تلك المتعلقة بإعادة تعريف إسرائيل والقضية الفلسطينية. وبهذا هم أثروا المكتبة بمواد تستحق ويجدر الرجوع إليها بين الحين والآخر لتفادي التكرار، وبهدف التعلم والإضافة والدفع بعملية المراكمة المعرفية والتجربة العملية الميدانية.

وجرت أولى هذه الاجتهادات الجديدة بالتوازي مع صعود قوة الأحزاب السياسية، والتي استعادت عافيتها مع قيام ونجاح حزب التجمع في الانطلاق والتوسع، بعد وردًا على اتفاقية أوسلو الاستسلامية. وهو الحزب الذي ألقى في حينه حجرًا كبيرًا في المياه الراكدة من خلال تحديه لذلك الاتفاق، وتحدي يهودية الدولة الصهيونية، وإنهاضه مجددًا، الروح الوطنية والقومية، من خلال ربطها بالبعد الديمقراطي.

وجاءت "هبة أكتوبر" المجيدة في العام 2000 لترفد الأحزاب بزخم جديد، وقوة جماهيرية إضافية، دفعت نظام الأبرتهايد إلى إطلاق إستراتيجية قمع واحتواء، تتجدد على الدوام، فالحركة الإسلامية الشمالية، كانت قد بدأت بمراكمة المرابطة في المسجد الأقصى، والمساهمة في إعادة قضية القدس إلى الوعي العام، وإن كان طابع هذه المرابطة دينيًا في الغالب على حساب السياسي، أو المفهوم السيادي؛ أي أن القدس بالنسبة لنضال الشعب الفلسطيني من أجل تحرره من الاستعمار الصهيوني، هي مسألة سيادة وعاصمة لفلسطين، وليست فقط مكانًا روحيًا وثقافيًا. طبعًا هذا لا يقلل من أهمية البعد الديني للقدس، والذي يختزن طاقة هائلة للتحشيد الشعبي وللثورات في المواجهة مع المستعمِر.

كما أن الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة كانت قد بدأت بالخروج من صدمة انهيار الاتحاد السوفييتي وتأثيراتها الفكرية والنفسية عليها، وإعادة ترتيب صفوفها، بعد أن تخلى عنها مئات الأعضاء والكوادر على خلفية اكتشاف الخلل الداخلي المتعلق بالهوية الوطنية والهوية الديمقراطية، وإن لا تزال تحمل آثار الانقلاب في مفهوم الحزب الشيوعي لإسرائيل، أي انقلاب النكبة والاعتراف بشرعية الكيان الجديد.

أما التجمع، الحزب الجديد والحديث، والذي جاء ثمرة مخاض أزمة سياسية عامة شديدة، وحصيلة جهد كبير من جانب نخبة وطنية فلسطينية، التي جاءت من حركة "أبناء البلد" و"ميثاق المساواة" و"الحركة التقدمية"، وشخصيات وطنية مستقلة؛ فقد سطع نجمه بسرعة قياسية كحزب وطني يعيد ربط فلسطينيي الأراضي المحتلة عام 1948 مع بقية الشعب الفلسطيني ومع الأمة العربية، في تصور وطني فلسطيني وعربي قومي، ولكن من خلال معادلة سياسية أخذت بالاعتبار واقع الفلسطينيين في الداخل، وظروف العمل السياسي في ظل الحالة الفلسطينية الكارثية العامة آنذاك. والمقصود خطاب دولة جميع المواطنين الذي طرحناه كخطاب تحدٍّ للصهيونية ويهودية الدولة، وكخطاب تعبوي، أكثر من أنه برنامج للتطبيق على أرض الواقع، لأنه غير ممكن بسبب البنية العنصرية الصهيونية والكولونيالية لدولة إسرائيل، وانعدام قابليتها للإصلاح من الداخل.

لقد تمكن التجمع من رفد مرحلة هامة في تاريخ مسيرة هذا الجزء من شعبنا، بالفكر السياسي الحديث والمقاوم، وبتجارب نضالية شعبية مجيدة، كان آخرها وأهمها دوره في معركة إسقاط مخطط برافر الاقتلاعي. وتُشكل هذه التجربة السياسية الحديثة مرجعية هامة ولا غنى عنها لأي دارس أو باحث جدي ونزيه، وأيضًا للأجيال الجديدة الساعية إلى استئناف المشوار التحرري لشعبنا.

الآن، وباختصار، يعيش المشهد السياسي الفلسطيني بكافة أحزابه وحركاته السياسية وأطره التمثيلية داخل الخط الأخضر، أسوأ فصوله؛ أحزاب محظورة، وأحزاب متآكلة ومتنصلة من تراثها ومنطلقاتها الأولى، وأحزاب تعرّت بالكامل من كل ما هو وطني وأخلاقي، وحوّلت نفسها إلى عكازة لحكومة الاستيطان والنهب والقتل، وهي سابقة خطيرة.

والأقبح من ذلك، هو الاقتتال بين أحزاب عربية داخل كنيست نظام الأبرتهايد، والتمسك بالحفاظ على هذه الحكومة من السقوط. هل تصور أحد منا كابوسًا كهذا في أسوأ أحلامه؟ ربما يقول قائل، وهو محق تمامًا: لقد سبق ذلك أمر غير معقول مشابه في رداءته وقبحه على المستوى الفلسطيني الوطني العام؛ هل كان أحد منا يتصور أن يتحول "الثوار" الفلسطينيون العائدون من "جمهورية الفاكهاني" (في بيروت) إلى رام الله، إلى حراس للاستعمار ويسلموا المقاومين إلى المستعمر؟

ومن ناحية ثانية؛ تشهد أعلى هيئة عربية فلسطينية تمثيلية، أو هكذا يجب أن تكون، وهي لجنة المتابعة العليا، تـآكلا متسارعًا ومحزنًا، وتفقد أي دور تنظيمي أو تعبوي في أوساط جماهير شعبنا، وكأن مطلب إعادة بنائها، المطروح منذ سنوات طويلة جدًا، بات مطلبًا صبيانيًا.

في معمعان هذا التهافت والانحلال، تغيب السياسة ويغيب النقاش السياسي والتعبئة الوطنية التحررية، وتتحول القضية الوطنية إلى ميزانيات ومليارات الشواقل الموعودة. أما الحديث عن النضال من أجل استرجاع أراضينا، وبناء اقتصاد عربي منتِج، وإلغاء مناهج التعليم الصهيونية المفروضة على مدارسنا العربية، وتغييب روايتنا التاريخية لحساب الرواية الصهيونية؛ فكل ذلك بات زائدًا عن الحاجة في نظر المنحرفين أو العاجزين على حد سواء، بل فعلًا متطرفًا؛ هذا ناهيك عن التنصل من قضية شعبنا الكبرى، وعذاباته وأحلامه، مثل التنصل الكامل من عواقب سياسات التطهير العرقي الاستيطاني الذي تواصله الحكومة الحالية، المنخرطة فيها حفنة من أبناء الشعب المستعمَر، وإدارة الظهر لكل الجرائم التي يرتكبها المستعمر على مدار الساعة.

إذن، نحن أمام فراغ حزبي وفراغ سياسي خطير، لا تستطيع الأحزاب العربية بواقعها الحالي تعبئته، والتي يبدو أنها دخلت مرحلة الاستعصاء التي غاصت فيها الفصائل الفلسطينية التي في السلطة والمعارضة، وعاجزة عن الخروج منها منذ ثلاثين عامًا.

وأمر مثير للقلق، وهو أن طلائع الجيل الشاب، الأكثر وعيًا ومعرفةً، والتي كان لها دور مركزي في تحريك الهبة الشعبية الأخيرة، وكذلك جموع النشطاء والأكاديميين والمثقفين الداعين إلى الإصلاح، عاجزون، أو متكاسلون، أو غير راغبين بإطلاق مبادرات سياسية تعيد الاعتبار للخطاب السياسي الوطني، وتحفز على إعادة ترميم الأحزاب، وتستعيد وتطور خطابها الوطني، ومضامينه الثقافية والاجتماعية التحررية. وهناك من لا يزال يتوهم أن هذه الأحزاب أو الهيئات التمثيلية العليا، مؤهلة أو ذات إرادة سياسية في إطلاق حوار أو إصلاح. إن هذه النظرة المحافظة داخل الأحزاب، لا تدرك عمق الأزمة التي يعيشها هيكل السياسة العربية داخل الخط الأخضر، واستمرار التعلق بها يعني مواصلة ضخ الأكسجين الفاسد في شرايين الأزمة، وتعميق عملية تشويه الوعي، والتشكيك بجدوى النضال الشعبي.

ألا يطرح كل هذا الخراب والتخريب المتواصل بوتيرة متسارعة، الحاجة لبناء حركة سياسية جديدة، شعبية غير برلمانية، تكون متحررة وغير مكبلة بقيود العمل أو "قواعد اللعبة" في الكنيست، الذي أوصلنا الأداء المتردي للاعبين، في مناخ الكنيست الفاسد وشديد العنصرية والتطرف، وإغواءاته الفاحشة، إلى المستنقع الآسن الذي نعيشه؟ هل يعقل أن نواصل السكوت أو نقبل أن يُغتصب تمثيل الجماهير العربية من مجموعة حزبية هَيأت لها حكومة المستعمرين كل الفرص والإغواء لهذا السقوط. وهل نحن مُلزَمون بتحمل هذا العار الذي يثقل كاهلنا، أم نتنصل منه عبر خلق البديل السياسي؟

أين جموع الجيل الجديد، وبخاصة طلائعه المتقدمة في المعرفة وفي امتلاك الرؤية التحررية، من كل هذا... هل تعتقدون أن المبادرات الثقافية والاجتماعية، والحَراكات الجميلة والرائعة والمهمة، بديل عن الفعل السياسي الشعبي المنظم، الذي يوفر الحماية والتراكمية لما تقومون به؟

أعتقد أنه إذا توفرت الإرادة، فهناك إمكانية أكيدة لذلك؛ وربما بات هذا المسار هو الطريق الوحيد لفرملة السقوط، وإنقاذ الإنجازات الكبيرة التي حققتها جماهيرنا والأحزاب والحركات الوطنية على مدار عقود من النضال والعمل والتثقيف المنهجي. في القاعدة، خارج الهياكل الحزبية والفصائلية التقليدية، هناك عناصر قوة فكرية وثقافية ومؤسساتية، شبابية وغير شبابية، كثيرة ومتنوعة، وهي مصدر أملنا وتفاؤلنا، ولكن ينقصها التأطير.

هناك إمكانية وحاجة شديدة لحركة سياسية شعبية، تضع برنامجًا يخص المطالب والحقوق اليومية والوطنية لفلسطينيي الداخل، وتعيد فتح النقاش السياسي بمفاهيمه التحررية الشاملة، وفي الوقت ذاته ترتبط الحركة بحركة الشعب الفلسطيني كله، وتدرك ما يترتب على فهم التقارير الدولية المستقلة المتلاحقة، التي تعيد تعريف إسرائيل كنظام أبرتهايد كولونيالي، تضع الشعب الفلسطيني كله أمام مسؤولية وطنية جامعة، لإسقاط هذا النظام الظالم.

التعليقات