26/01/2006 - 22:07

حول فوز حماس وفعل التحدي/ د.عزمي بشارة

حول فوز حماس وفعل التحدي/ د.عزمي بشارة
لم يتضح حتى كتابة هذا المقال بدقة حجم فوز حركة حماس عدديا، ولكن تتداعى إلى الذهن بشكل سريع مع هذا الفوز في المجلس التشريعي الفلسطيني الأفكار التالية:

1. التدخل الأميركي الإسرائيلي ضد حماس وتهديد المجتمع الفلسطيني بعواقب انتخابها، جلب على أصحابه نتائج عكسية. هذا لا يعني أن قوة حماس مؤلفة من رد فعل على السياسات الإسرائيلية والأميركية فحسب، فقوتها نابعة من عناصر عديدة أهمها قواعدها الاجتماعية ومؤسساتها واستنادها في بعض الحالات إلى بنى أهلية تقليدية وغيرها، وثانيها نهج المقاومة الذي اتبعته منذ الانتفاضة الأولى، وثالثها وليس أقلها أهمية الخطاب الإسلامي. ولكن إذا كانت حركة حماس تشكل قوة رئيسية على الساحة الفلسطينية فقد ازدادت نفوذا انتخابيا بفعل تحويل إسرائيل وأميركا الانتخابات إلى تحدي إرادات، أو إلى فعل إرادة. وإذا كان ناخب فلسطيني بالغ يريد أن يصوت لحماس، فقد أضيف إليه بالغ آخر يصوت لها ضد أميركا وإسرائيل. وفي الأمر عبرة إقليمية لا تقتصر على فلسطين وحدها. قد تستفيد الولايات المتحدة لو كان على رأسها رأس يفكر من هذا الدرس عبرا.

لقد هددت أميركا وإسرائيل الشعب الفلسطيني بالويل والثبور وعظائم الأمور إذا حازت حماس على غالبية مقاعد المجلس التشريعي، وانضم إليهما الاتحاد الأوروبي. وفي نظام سياسي اجتماعي نمَّى اقتصادا طفيليا وغذَّى عقلية تسولٍ قامت أوروبا بمخاطبة جيوب بعض الناس وبطون بعضهم الآخر بالتهديد بقطع المساعدات المالية. وفي ظل هيمنة نهج وثقافة سياسيين يرهنان المصير السياسي الفلسطيني بالاستراتيجية الأميركية، هددت أميركا بقطع أي اتصال سياسي مع السلطة باعتبار حماس حركة إرهابية. وفي ظروف احتلال هددت قوة الاحتلال بأنها لن تعترف بالنتائج واتخذت إجراءات تبدأ بالإعتقال وتنتهي بالإغتيال .

في هذه الظروف ينقسم التصويت لحماس إلى تصويت لأنها حماس، وتصويت ضد العناصر الثلاث المذكورة أعلاه، وهذه ال"لا" هي شهادة شرف للشعب الفلسطيني. وهي لا تنقص من قدر الفائز في الانتخابات، فهذا النفي، هذه الممانعة هي جزء من قوته.

وهي شهادة شرف لأن الشعب والمجتمع الفلسطيني يعيش في سياق عربي ما أن يسمع فيه رئيس أو زعيم أو ملك حتى تلميحا أميركيا غاضبا، في مقابلة مع وزيرة الخارجية الأميركية، ناهيك عن الرئيس الأميركي، حتى ترتعد فرائصه ويقوم بجولة عربية يخوّف فيها بقية الزعماء العرب.

في هذه الظروف تسنح فرصة للشعب الواقع تحت الإحتلال أن يقول موقفه. ومع أن الفرصة سنحت والإنتخابات نظمت لأسباب ودوافع لم يخترها هو إلا أنه يستغل الفرصة ليقول لا لأميركا وإسرائيل، فيحرج الزعامات العربية ويحثها على بعض الثقة بالنفس، فلا مبرر لتضاؤل إرادة هذه القيادات السياسية العربية إلى درجة الذوبان أمام إملاءات الولايات المتحدة. يقول الشعب الفلسطيني وتقول الشعوب العربية، لو سنحت لها نفس الفرصة، لقياداتها لزعاماتها: ليست أميركا كلية القدرة يا ناس، أستغفر الله العظيم يا رب.

2. جرت الإنتخابات بعد تجربة لـ"فتح" في السلطة دامت عشر سنوات. والسلطة الفلسطينية تحت الإحتلال ليست ولم تكن ذات سيادة، ولن تصبح ذات سيادة بمجرد أن انتخبت حماس. ويخطئ من يتوهم أنه بانتخاب حماس ستزول منغصات إحتلالية يومية جعلته ينقم على الإحتلال والسلطة سوية.

ومن أثر وجود فتح في السلطة الفلسطينية تعرضها لأزمة هوية ما بين سلطة لم تصبح دولة وحركة تحرر وطني لم تحافظ على ثقافة وسلوكيات حركات التحرر الوطني، وانعكست تلك على رزمة من السلوكيّات. وتشمل هذه الرزمة فجوة بين الخطاب والممارسة تحول خطاب التحرر إلى كاريكاتير وإلى نكتة في ثقافة الشارع الفلسطيني تتناول زمرة من رجالات السلطة صبغوا بلونهم حركة تاريخية تعج بالمناضلين والشرفاء. وحتى حركات الإصلاح داخل السلطة والحركة لم تنج من تلويث نفس الرجالات لها إذ حولوها إلى حركات تستخدم في الصراع على السلطة بين نفس الرجالات. لقد أحبطوا محاولات إصلاح قام بها شرفاء من شباب الحركة الميدانيين إذ حولوها إلى مدد وجيوش احتياط في صراعاتهم الداخلية على كعكة السلطة الضامرة التي تأملوا أن تسمن بالمساعدات الأجنبية بعد وفاة عرفات، أو استشهاده والله أعلم.

إقترع الشعب الفلسطيني ضد هذه السلوكيات وضد هذه الثقافة التي حشرت بين الإستقالة من التحرر الوطني واللهاث وراء الدولة دون دولة، أو وراء الدولة دون أي مضمون من ثوابت العدالة والإنصاف سوى الدولة. ولكن قبل أن نسارع إلى الإستنتاج لا بد أن نذكر أن حركة حماس لم تجرَّب في إدارة المجتمع والسلطة. ولا ندري إذا كانت ستجرؤ على اقتحام هذه التجربة من خلال أغلبية في المجلس التشريعي تمكنها من تشكيل حكومة فلسطينية. ولا ينم هذا التردد عن نقص في الشجاعة بل عن تناقض بين سياسة ونهج أيديولوجية حماس التي أوصلتها إلى الأغلبية التشريعية وبين الوجود في سلطة تنفيذية مرتبطة من قمة رأسها إلى أخمص قدميها في علاقات تنسيق وغيره مع إسرائيل وأميركا وأوروبا يصل إلى حد التواجد الرسمي للمخابرات الأميركية في بعض المواقع.

ليس هنالك ما هو فاسد في جوهر الناس الذين كانوا في السلطة وفي قيادة منظمة التحرير، ولكن المفسد والفاسد هو الواقع الممتد من العمل على هوامش الأنظمة العربية إلى العمل على هامش النظام الإسرائيلي الأميركي. وكل من يضع نفسه في مكان هؤلاء سيفسد هو الآخر. إذا لم تكن حماس قادرة على ولوج عالم السلطة التنفيذية تحت الإحتلال دون أن تتغير فليس أمامها إلا خيارين : ألخيار الأول هو حل السلطة وتغيير واقع وجود سلطة أصلا، وهو خيار قد يؤدي إلى فوضى تخلق فراغا يمكن الأجهزة الأمنية من ملئه دون أخذ الخيار الديمقراطي بعين الاعتبار، أو يتمثل الخيار الثاني بأن تطرح حماس ما سبق وطرحناه سابقا وهو قيادة وطنية موحدة تتحكم باستراتيجية المفاوضات يشكلها المجلس التشريعي وسلطة تنفيذية من مهنيين تدير شؤون المجتمع وليس لها صلاحية التفاوض ولا تقديم التنازلات.

سوف تنشأ على الأرض الفلسطينية حالة سياسية معقدة جدا، إذا أخذ بعين الإعتبار تعقيدات نشوء السلطة ووظائفها. خذ مثلا وحيدا هو علاقة الأغلبية البرلمانية لو تحولت إلى حكومة بالأجهزة الأمنية وتدريبها ودورها ومصادر تمويلها ناهيك عن موقفها من المقاومة وممارسة هذا الموقف. يحتاج هذا التعقيد بحد ذاته إلى قيادة وطنية موحدة. كما يحتاج الإصلاح الداخلي لحركة فتح أن تنضم هذه الأخيرة إلى مثل هذا الطرح وعلى هذا الخيار الذي يحررها من أزمة الهوية.

3. ربما يدعي البعض أنه لـ"فتح" وغيرها من القوى أغلبية عددية على الأرض. ولكن القوة الكامنة على الأرض ليست هي الإنتخابية. الورقة الانتخابية هي القوة المنظمة القادرة على جلب الأصوات إلى صناديق الاقتراع. وقد تستغل في ذلك تناقضات وصراعات وشلل وفوضى عند قوة أكبر منها منعتها من العمل. لا أحد يحسب الأعذار والأسباب عند عد الأصوات. فالعدد غير المنظم هو ليس عددا انتخابيا. وهو بذلك لا يشكل قوة ديمقراطية للأسف. القوة الديمقراطية هي قوة منظمة، أو بكلمات أخرى التنظيم هو قوة لأنه يترجم إلى عدد. ويخشى الناس في بعض الدول العربية أن تجلب الانتخابات أغلبية للإسلاميين في الصناديق ليس دائما لأنهم الأغلبية بل لأنهم أيضا الأكثر تنظيما. وما على هؤلاء بدل أن يتذمروا إلا أن يحسنوا تنظيم أنفسهم.

4. لقد نشأ وضع سياسي فلسطيني جديد من ركائزه أغلبية فلسطينية منتخبة ترفض مسلسل التراجع أمام الإملاءات الإسرائيلية.

ويجب أن نرى هذا الإنجاز على خلفية عشرة أعوام من محاولات ناجحة نسبيا قامت بها السلطة الفلسطينية لتهميش منظمة التحرير الفلسطينية وتغييب أي مرجعية فوق السلطة الفلسطينية في شؤون التفاوض والثوابت الوطنية الفلسطينية. هكذا ضعف تمثيل الشعب الفلسطيني في الشتات وضعفت عناصر التحرير وحق العودة في الأيديولوجية السياسية الفلسطينية. ولكن من لم يرغب بمنظمة التحرير في الخارج نال حماس في الداخل، وفي داخل المجلس التشريعي حصرا ولم يعد التفاوض ممكنا دون مرجعيات وثوابت. وقد قال الشعب الفلسطيني كلمته في هذه الإنتخابات أنه لا يريد مفاوضات غير ملتزمة ولا ملزمة بثوابت.

وكنت أتوقع أن تضرب حركة فتح الآن كفا بكف أسفا على تهميش دور منظمة التحرير، ولكني لم أتوقع أن يتم ذلك بهذه السرعة. فجأة يتذكرون المجلس الوطني الفلسطيني ومنظمة التحرير الفلسطينية.

5. لا شك أن حزب الليكود سيدعي الآن في الإنتخابات الإسرائيلية أن الشعب الفلسطيني قد اختار طريقا معاديا للسلام وأن الرد يجب أن يكون بالتصويت لمن لم يثق أصلا برغبة الفلسطينيين بالسلام ولديه الرد المناسب على هذا العناد الفلسطيني. وسوف يدعي أقطاب حزب "كديما" الجديد أن هذا الخيار الفلسطيني سوف يعمق لديهم النزعة لفك الإرتباط من طرف واحد دون تفاوض وأن هذا هو الرد الذي أعده شارون لوجود قيادة فلسطينية لا تقبل بالإملاءات الإسرائيلية، وبالتالي سيحاول هؤلاء الإستفادة من هذا الخيار الفلسطيني لزيادة تفهم الرأي العام لخطوات إسرائيلية من طرف واحد. أما حزب العمل فسوف يؤكد على الشروط الملزمة لأي طرف في السلطة ليكون مؤهلا للتفاوض مع إسرائيل.

كل هذا ليس مهما، ولو اختار الشعب الفلسطيني حتى طرفا سياسيا يقبل بالإملاءات الإسرائيلية، فكل ما كان سيكون هو إعلان القوى الإسرائيلية أعلاه عن انتصار السياسة الإسرائيلية وعن توفر ظروف لإملاء سياستها "بتفاهم" مع الفلسطينيين. رد الفعل الإسرائيلي ليس هو الأساس بل ما يريده الفلسطينيون.

الأساس هو بلورة إجماع فلسطيني يتمسك بالعدالة أساسا للحل ويرفض اعتبار الحجج الديموغرافية الإسرائيلية أساسا له إن كان ذلك عند الليكود أو كديما أو العمل.

الأساس أيضا أن تدرك حركة حماس أن قواعد اللعبة الديمقراطية التي مكنتها من تحقيق الأغلبية تستند فيما تستند أيضا إلى قيم تشمل الحريات الشخصية وحقوق الأفراد في اختيار مسار حياتهم وحقوق المواطنة وعدم الإكراه في الدين. وتتقاطع عند هذه القيمة الأخيرة الديمقراطية مع قيم إسلامية موجودة لمن يريد ولمن لديه الرغبة والمصلحة في اكتشافها. هذه تحديات لا تقل أهمية عن تحدي الإرادة التي عبرت عنها الأغلبية في هذا اليوم المشهود.

التعليقات