06/12/2006 - 10:55

ماذا تقول لنا ديموقراطية لبنان؟../ صلاح الدين حافظ*

ماذا تقول لنا ديموقراطية لبنان؟../ صلاح الدين حافظ*
ديموقراطية لبنان، التي تتلاعب بها الرؤوس الساخنة هذه الأيام، هل تقدم لنا دليلاً صحياً على مزايا الحرية، أم على العكس تعطينا درساً مضاداً، يستغله المستغلون لإجهاض الحلم الديموقراطي في العالم العربي بأكمله.. يستغلونه ضدها وضدنا!!

بداية أرجو ألا يغضب منا اللبنانيون هذه المرة ايضاً، لأننا نحن الذين نغضب منهم ونغضب لهم وعليهم، لأنهم ببساطة لم يحافظوا لنا ولأنفسهم، على لبنان المأمول، نموذجاً لديموقراطية حقيقية وفريدة في صحراء الاستبداد.. نحن نعجب بالديموقراطية اللبنانية، لكننا نخاف عليها من ممارساتها الراهنة، وننكر على اللبنانيين المنقسمين على أنفسهم، ما يفعلونه الآن، بتحويل النموذج الديموقراطي، الى نموذج للصراع والانقسام، الذي قد يقود إلى التقسيم على أسس طائفية، وكأن نموذج العراق وفق الديموقراطية الأميركية لا يكفي!
ما يفعله الفرقاء اللبنانيون اليوم يصدمنا مرتين، مرة بانقضاضهم على الممارسة الديموقراطية بهذا الشكل العصبي وإجهاضهم للحلم العربي، ومرة ثانية بتقديمهم مبرراً للاستبداد العربي كي يبرئ استبداده، حين يقول لنا، أليست هذه هي الديموقراطية اللبنانية التي كنتم تتفاخرون بها، أنظروا كيف فعلت بلبنان، وكيف جرته الى الانفلات والفوضى الصارخة!!
من هنا يأتي عتابنا على اللبنانيين، وخوفنا على نموذجهم الفريد وسط الأنواء التي تعصف به وبنا. حين ننظر بجزع شديد وحزن كبير، لارتداد لبنان الى الحضن الدافئ للشمولية العربية، القائمة تقليديا على قاعدة الديكتاتور الأوحد، فإذا بديموقراطية لبنان تتمزق على قواعد العديد من الديكتاتوريين، ملوك الطوائف، في فسيفساء هشة ملونة، تضم 18 طائفة وارثة لكل أمراض حكم القبيلة وموروثاتها في الحكم!

لبنان يغرق في أمواج حرب المظاهرات والاعتصامات، وهي أمواج يراها البعض تعبيراً حقيقياً عن الحرية، حرية التظاهر وحرية التعبير، وحرية تغيير النظم والحكومات عبر الشارع، ويراها البعض الآخر انقلاباً على الديموقراطية وتجنيداً للشارع <الغوغائي> لكي يحكم المستفيدون فوق جثة الدستور!
غير أننا لا يجب الاكتفاء بنظرة سطحية او عابرة، الى ديموقراطية التظاهر، لنحكم على الديموقراطية اللبنانية، التي ظلت على مدى نحو ستين عاماً هي عمر الاستقلال، رئة للحرية العربية، ونموذجاً للتوافق العرقي والطائفي والسياسي أيضاً، يقوم على تعايش مشترك من ناحية، وعلى ضمانات خارجية، عربية ودولية من ناحية اخرى.

بل يجب ان نتفحصها عبر منظور أعمق... اذ إنها ديموقراطية قامت منذ الاستقلال وحتى اليوم، على قاعدة تقاسم المغانم والمصالح، وعلى توازن القوى وتوزيع المناصب، بين الطوائف الكثيرة، التي تضم المسلمين والمسيحيين، والسنة والشيعة والدروز، والموارنة والارثوذوكس وغيرهم، وهي قاعدة كما نرى لم تسمح لهذه الطوائف، عبر الممارسة وبمضي السنين، بالاندماج في نسيج وطني متعايش تغلب مصالحه وأهدافه العليا على مصالح طوائفه!

وما يجري اليوم هو ترجمة حرفية لسلبيات التقاسم الطائفي <باسم الديموقراطية>، الذي أصبح بديلاً للوحدة الوطنية، وتغليب لوحدة الطائفة ومصالحها، على وحدة الوطن، وإعلاء مصالح ابن الطائفة على مفهوم المواطنة الأشمل والأعم، وهي تركيبة تصطدم بالصخر الناري، عند أول اختلاف، وقد رأينا ذلك كثيراً، رغم ان معظم المفسرين اللبنانيين خصوصاً، يرونها نموذجاً ناجحاً للتعايش الطائفي، في حين تثبت التجربة بعد الأخرى انها عوقت فكرة الوطن الواحد الحافظ لحق المواطنة.
وحين نتأمل ما يجري في الشارع اللبناني هذه الأيام، من صراع المظاهرات الطافي على سطح التطورات، نجد صورة يختلف عليها كثيرون ويحار فيها العرب والعجم، اذ ان مظاهرات الشارع التي تمارس حرية التعبير عن قوى سياسية وطائفية، كانت هي التي أسقطت في العام الماضي، حكومة الرئيس عمر كرامي، وجاءت بحكومة الرئيس فؤاد السنيورة، وهي التي حاصرت نفوذ رئيس الجمهورية إميل لحود وشرعيته داخل قصر بعبدا فقط، وهي التي أدانت سوريا بقتل رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، الأمر الذي ساهم في إجبار سوريا على سحب قواتها <نحو 35 ألف جندي> من لبنان، بعد عقود ثلاثة تقريباً من وجودها هناك بقرار عربي.

الآن انقلبت الآية، حيث مظاهرات الشارع هذه الأيام هي التي تحاصر حكومة السنيورة لإسقاطها وهي التي تنزع عنها الشرعية، وهي التي تعطل المؤسسات بما فيها البرلمان، وهي بالتالي المتهمة من حكومة السنيورة وحلفائها الكثيرين، بأنها تنقلب على الشرعية وتخرق الدستور وتدمر الديموقراطية.

ولم يكن ليحدث هذا الانقسام لولا مساندة من خارج الحدود على الناحيتين، اذ ان تحالف 14 آذار مارس، الذي يضم جماعات النائب سعد الحريري (سني) والنائب وليد جنبلاط (درزي) وسمير جعجع (ماروني) وغيرهم، متهم بأنه يستمد شرعية وجوده في الحكم عبر رئيس الوزارة فؤاد السنيورة (سني)، من الدعم الأميركي الفرنسي، ناهيك عن الرضا الاسرائيلي.
بينما تحالف المعارضة المضاد، الذي يضم حزب الله بزعامة حسن نصر الله (شيعي)، والجنرال عون (ماروني) ونبيه بري (شيعي) وعمر كرامي (سني) وغيرهم، متهم هو الآخر بأنه يستند الى النفوذ السوري الايراني، وبالتالي، فإن النموذج الديموقراطي اللبناني، ومصير لبنان كله قد سقط فريسة الاستقطاب الحاد، بين التحالف الاميركي الأوروبي من ناحية، والتحالف السوري الايراني من ناحية، وأصبح الشارع اللبناني ساحة لممارسة صراع القوى بين هذا وذاك، من خلال الأطراف الطائفية المحلية، بينما العرب بكل دولهم وطوائفهم غائبون مغيبون، ربما ابتعاداً عن الصداع والصراع، وربما رغبة محمومة لوأد الديموقراطية اللبنانية التي تعدي وتنشر العدوى بفيروساتها المتطايرة!

ولقد أدى الفشل في تحويل التعايش الطائفي، الى وحدة وطنية مندمجة تكفل حق المواطنة للجميع على أسس من العدل والإنصاف، جنباً الى جنب التدخل الخارجي، الاقليمي والدولي، الى تحويل لبنان من بوتقة للحريات ونموذج للديموقراطية المعدية، الى ساحة مفتوحة لصراعات القوى الداخلية والخارجية على السواء، يحكمها العنف وقوة السلاح، أكثر مما يحكمها القانون وشرعية النظام الدستوري السليم.
وحين نستعرض تاريخ العقود الستة منذ الاستقلال اللبناني، نلاحظ ان العنف واللجوء للسلاح، هو الذي تفوق، بل هو الذي حكم ويحكم التوازن، أو عدم التوازن بين الطوائف، بعد ان تلقى المدد والمساندة من خارج الحدود، ولم تكن الحرب الأهلية الضروس، التي اندلعت في منتصف السبعينيات واستمرت 17 عاماً من القتل على الهوية، سوى إحدى التجليات، ولم يكن اغتيال رئيسين للجمهورية بصورة متتالية (بشير الجميل ثم رينيه معوض <وهما من الموارنة، واغتيال رئيسين للوزراء> رشيد كرامي ثم رفيق الحريري <وهما من السنة>، فضلا عن اغتيال عشرات من السياسيين والصحفيين والمثقفين، دون المساس بنانسي عجرم وهيفاء وهبي وكازينو لبنان، سوى اضافة لهذه التجليات المفزعة، التي تضيف للنار وقوداً حارقاً بالتفجيرات المدمرة!

ولا يكفي هنا ان نلقي العبء كله على التدخل الخارجي، سوريا وايرانيا كان، ام اميركيا وفرنسيا واسرائيليا، رغم الاعتراف بثقل هذا التدخل وتأثيراته، لكننا نعتقد ان العبء الحقيقي تتحمله الطوائف اللبنانية، التي تقاتل للاحتفاظ بهويتها ومصالحها وامتيازاتها، والتي لا زالت تفضل <الاستقلالية الطائفية> على الوحدة الوطنية، والتي تتمرس بأسلحتها خلف مواقعها السياسية والجغرافية، وتسعى دوماً للاستعانة بظهير ونصير من خارج الحدود.

وفي حين تتفاخر هذه الطوائف المتمترسة في خنادقها، بأنها بنت نموذج الديموقراطية اللبنانية، على قاعدة التعايش والتوافق وعلى قاعدة التقاسم، تقاسم المصالح والمناصب والثروات، فإننا نعتقد ان هذا بالضبط هو سبب سقوط الديموقراطية اللبنانية في فخ العنف والاقتتال المتوالي واللجوء الى السلاح كلما لاح خلاف في الأفق، وكلما انطلقت حرب المماحكات والاحتكاكات، مؤذنة بحرب المظاهرات والاعتصامات، فالانقلابات السياسية او حتى العسكرية!!!

وقد كانت الفرصة التاريخية متاحة أمام التجربة اللبنانية، لتحقيق إنجاز <الوحدة الوطنية> على قاعدة حق المواطنة المتساوية، حين تعرضت للعدوان الاسرائيلي، وخاضت ضده مقاومة باسلة في ثلاث حالات مشهورة، أولها حين غزت اسرائيل لبنان عام ,1982 وثانيها حين أجبرت المقاومة الوطنية اسرائيل على الانسحاب من جنوب لبنان عام ,2000 وثالثها حين تمكنت المقاومة، ممثلة في حزب الله، من الصمود على مدى 33 يوما، امام الهجوم العدواني الاسرائيلي هذا العام، فأعادته منكسراً الى ما وراء الحدود!

لكن للغرابة، حوّل فرقاء الطوائف، هذه الفرص التاريخية، الى وليمة لاقتسام المغانم من ناحية، وللهروب من المغارم من ناحية اخرى، وراح كل فريق يفرض شروطه على الآخرين، مرة عاشرة استناداً الى دعم وتشجيع خارجيين، وأصبح لبنان مقسماً بين الموالي والمعارض، وأصيبت المؤسسات السياسية والاقتصادية بالشلل، فاتحة الباب، لمزيد من التدخل الخارجي لإنقاذ الموقف، او ربما لانقلاب عسكري لحماية البلد من الفوضى، ناهيك عن شماتة الاستبداد العربي!!
من هنا يأتي غضبنا من اللبنانيين وعليهم، فقد حرمونا حتى من الحلم الديموقراطي الحقيقي، وأغلقوا أمامنا آخر باب للأمل في أن تتأسس النظم العربية المستبدة، بالديموقراطية اللبنانية، بعد ان قدموا لهذه النظم كل المبررات لكي تبقى على حالها من الفساد والاستبداد، مستفيدة من إجهاض الطوائف للتجربة الديموقراطية العربية الفريدة!!!

المؤكد أن لبنان ستهدأ ساحاته المضطربة، غداً أو بعد غد، بمبادرة داخلية، او بتدخل خارجي، لكن الخوف كل الخوف، ان تعود الطوائف إلى تعايشها الهش، على حساب وحدة الوطن وقوة الدولة، وأن يعود ملوك الطوائف إلى سيرتهم الأولى، محتمين بالسلاح خلف المتاريس العشائرية والقبلية، دفاعاً عن قوة الطائفة، لا عن وحدة الدولة...
فليتفهمنا الفرقاء اللبنانيون إن قلنا إنهم خذلونا، في وقت كنا ننتظر منهم أن يساندونا، في التقدم نحو الديموقراطية الحقيقية!
خير الكلام: يقول الشاعر اللبناني خليل مطران:
اخمدوا الأنفاس هذا جهدكم
وبه منجاتنا منكم فشكراً...


"السفير"

التعليقات