27/12/2006 - 16:44

بذور تحدي الأصولية.. في خطاب "حزب الله" / د.عمر سعيد

بذور تحدي الأصولية.. في خطاب
أدهشنا "حزب الله" في ساحات القتال، بسالة واحترافاً وتنظيماً وأساليب ومن ثم نتيجةً، مما حدا بكثير من المراقبين اعتبار أحداث هذه الحرب، مفصلاً هاماً في طرائق نظرة العرب لذاتهم، وعاملا محرضاً في استحضار قوتهم الكامنة، فضلاً عن كونها تشكل مصدراً لنماذج نضالية قادمة قد تخرج تيارات المقاومة من دوائر الإحباط إلى ساحة الفعل الوازن محلياً وعالمياً. غير أن هناك بعداً آخر يتعدى الجوانب المذكورة في ظاهرة "حزب الله"، إلا أنه لم يحظ بالاهتمام والتقصي المناسبين، ألا وهو تداعيات خطابه السياسي المميز وأثره في البنية العامة للخطاب الأصولي الحاضر في وعي وممارسات الحركات الإسلامية المعاصرة.

غني عن البيان أن المتابع لتطور الخطاب الفكري لقيادة هذا الحزب، والراصد لاستجاباته الذكية مع المتغيرات وأنماط سلوكه الراقية داخل المجتمع اللبناني، سيشعر بالأكيد انه أمام حالة فريدة وغير مسبوقة في الحيز الثقافي الأصولي، لا بل تتعدى ذلك لتتنافس، بجدارة، مع مضامين جوهرية في الخطاب العلماني على كافة مكوناته، دون أن يتهاوى، في مسالك، التصادم والتعارض مع ثوابته العقائدية والفكرية.

إن هذه الخصائص التي يتمتع بها "حزب الله" والتي يظهر معها حزباً إسلاميا حداثيا وعقلانياً وثورياُ عابراً للمساحات ومتجاوزاً للمحلية، حتماً سيضع التيارات الأصولية الأخرى، ذات الحضور الشعبي الواسع، في دائرة المساءلة والنقد وحتى التأزم، وقد يدفعها لإجراء مراجعات جذرية شاملة لأنساق نشاطها بغية استدراك حالتها وتأمين وجودها القيادي في خارطة التيارات الإسلامية. هذه الحركات التي وقفت إلى جانب المقاومة ورفضت ألاعيب التقسيم المذهبي، وبذلك أظهرت نضجاً وطنياً ومسؤولية دينية عالية، ستجد نفسها ملزمة للتعاطي بانفتاح في موضوعات طالما صنفت في دوائر الإقصاء والتحريم. بعض التحليلات السطحية سعت إلى اختزال انموذجيته في جذر واحد، وذاك عبر اختلاق علاقة سببية بين انجازات حزب الله وصلابته القتالية من جهة، وبين مركزية مفهوم الجهاد في أسس المذهب الشيعي واستلهامه " عناصر الملحمية" من محنة الإمام الحسين (ع)، من ناحية ثانية.

باعتقادي، يتعين على من يفتش عن سر هذا الحزب أن يبدأ في مسيرته وقيادته، أي في بيته وحاضنته. فان أي محاولة لتلمس ذلك التفرد الذي يسمه، بغية تحديد منابعه من خلال تقصي أصوله الفقهية في الفضاء الفكري الشيعي، هي مهمة دون طائل وستقود صاحبها إلى فشل ذريع، خاصة في ضوء التعارض النافر لهذا التصور في الواقع العراقي وتورط رموز دينية شيعية مرموقة في وحل العمالة للاحتلال.

فمن المعروف، تاريخياً، أن الاتجاه السني قد سبق الشيعي بأكثر من قرنين في اعتماد التأويل العقلي وإدارة جدله مع النص، عبر معالجات نظرية رائدة وبالغة الأهمية تركت بصماتها على الفكر الإنساني عموماً. إزاء ذلك وعلى مدار قرون اكتفى الاتجاه الشيعي باعتماد أخبار أهل البيت والأئمة مصدراً أساسيا للمسائل الفقهية، وفقط بعد غيبة الإمام العسكري ( المهدي المنتظر) تشكلت ضرورات نشؤ التنظير العقلي الشيعي ( الشيخ المفيد، الشريف المرتضى، والشيخ الطوسي) تجاوباً مع محاولتهم تبرير المصادمة الواضحة مع "بيان النص القرآني" في مسائل خلافية مثل "عصمة الإمام"، " والعلم الباطني" و " خلافة النص والتعيين" مقابل الشورى والبيعة.... وغيرها من الأمور التي عكست مخاضاً سياسياً وأيديولوجيا في مجتمع صدر الإسلام.

لقد أفضت هذه الصراعات إلى عمليات تأويلية باطنية معقدة في التراث الفكري الشيعي، أسهمت هي الأخرى في توسيع الهوة المذهبية مع أهل السنة والجماعة، وترتب عنها كثير من المواقف الانفعالية العدائية حيث طالت شخصيات إسلامية محورية، والتي كان للإمام الخميني دور حاسم في ضبطها وتراجعها، مما أسهم في تقارب المشروع الإسلامي بشقية السني والشيعي. من هنا، فلن يكون مستغربا أن يسجل التاريخ لهذا الحزب فضلا عميقا في جسر هذه الهوة المذهبية في عالمنا العربي على وجه التحديد، باعتباره أيضا تياراً عروبيا يزخر خطابه الإعلامي بعناصر فكرية قومية تعرض في سياقات تكاملية متنورة، بما يعزز تلاحم القومي مع الإسلامي ويقوي دوائره الجماهيرية المناصرة في صحراء الديمقراطية وجرداء الفعالية الاجتماعية وخصباء الشحن المذهبي.

لا يساورني شك أن المعطيات الشخصية الناجز في عقلية قيادة "حزب الله" تلعب الدور الأكبر في هذا الارتقاء المتألق مدعمة بتاريخ نضالي غزير، اكتسب في بيئة غاية في التعقيد والتشابك، لكنها أيضا ساحة لتلاقح وتثاقف مجمل تيارات الفكر والثقافة. من صلب هذه الشواهد نشأت قيادة تحترم الآخر الوطني ولا تخشاه لمجرد انه يختلف معها فكريا، ولا تسخر أقلامها وحناجرها، بمنهجية غريبة، لمظاهرة الفكر القومي والحركات اليسارية، بل تكرس وتعظم التقاطعات والمشتركات معها.

قيادة تعرف تماماُ حدود استخدام المصطلح وتفقه خطورة فعله المعرفي ودلالاته العصرية، فلا تجد حاجة، على سبيل المثال، في إقناع الناس بأفضلية "الشورى" على الديمقراطية الحديثة، أو بتوازي الإلحاد مع "العلمانية".. عبر عملية تشويه دلالي للمفاهيم والمصطلحات الحديثة وتعطيل انسيابها المفيد إلى المتلقين، كما هو حاصل في أدبيات الحركات الأصولية الأخرى.

القاموس الاصطلاحي المستخدم في خطاب "حزب الله" يتصف بالعلمية والتغطية العملية، كشأن كل الجهات راسخة الإقدام في معطيات الحقبة التاريخية المعاشة، لذا لا يلجأ هذا الحزب إلى إعادة شحن مصطلحات متقادمة نبتت في بيئات ثقافية مختلفة، بمضامين ودلالات عصرية لمواجهة استحقاقات الواقع المستجد بديلا عن استيعابها في بنيته الفكرية وتقبلها منهجاً وعملاً. لم تعتد آذاننا على التقاط إشارات ومفاهيم مثل "الدولة العصرية الحديثة" في خطاب التيار الديني عامة، إلا من جهة هذا الحزب وعلى لسان قائده، في توصيف رؤيته ومشروعه لمستقبل لبنان.

وعلى الرغم من التطور اللافت في تعاطي الحركات الأصولية في العقدين الأخيرين مع قضايا مجتمعية وسياسية ملتهبة (مصر، فلسطين، تونس...)، إلا أن هذه الإجراءات النوعية ما زالت من نصيب النخب القيادية ولم تتسلل إلى أعماق الذهنية الفقهية الأصولية، حيث ما زالت ترابط في حدود ظاهر النص وتتمسك بإحكام أبدعها الشارحون في فترات غابرة، حتى غدت هذه الأحكام الثانوية، في وعيهم، تتحلى بنفس الهيبة والقداسة الممنوحة للنصوص المصدرية.

الحركة الإسلامية في بلادنا، ورغم أنها تقع في هامش التيار الأصولي العالمي، وقد يكون بسبب ذلك، فإنها لم تتمكن حتى ألان من الإسهام الفعلي في اغتناء تجربتها الخاصة فكرياً وبناء مفاهيم ورؤى منفتحة، تجعل من خصوصيتها المستمدة من كونها تنشط في مجتمع أصلي تحول في وطنه إلى أقلية، رافعة نوعية للتجدد و الإبداع. هذه المفارقة تزداد عجباً حينما نجد أنها تتبع خطاً وفكرا أكثر تشدداً من نظيراتها، خاصة في المسائل الاجتماعية والسياسية المتصلة بالأحزاب والحريات الشخصية والإبداعية والفكرية.

فضلاً عن ذلك، فان أدبياتها توحي وكأنها منهمكة على الدوام في تصيد ورفض ما تسميه بالبدع الضارة مثل: "يوم المرأة" أو "يوم العمال"و"عيد الأم" أو بدعة "أعياد الميلاد" أو "استخدام الآلات الوترية في الموسيقى"...الخ، هذا ناهيك عن انشغالها المبالغ فيما يمكن تسميته "بفقه العورات". مثل هذه الأمور قد تبدو ليست بذي أهمية، لكنها في واقع الأمر تعكس حالة من اغتراب أصحابها عن روح زماننا الراهن، واختلال سلم الأولويات.

مقابل هذه العقلية الطقوسية والشكلانية، تبث قناة " المنار" بنقل حي ومباشر، مؤتمرا للحزب الشيوعي اللبناني، دون أي رقابة أو تدخل، أو قداساً للكنيسة المارونية بكل ما يحفل به من طقوس وعبارات متخالفة مع العقيدة الإسلامية، بثقة وطنية عالية ومن غير تحرج أو شعور بالذنب، هذا عدا قيم التسامح الأصيلة، والانفتاح الواعي على المجتمع اللبناني بكل طوائفه في سرائه وضرائه، واحترام وإبراز مساهمة التيارات العلمانية ورموزها ودور قياداتها التاريخية في الدفاع عن الأوطان ومقارعة الاستعمار وتعظيم قيم الكفاح والكرامة لشعوبنا.

لا ريب أن قيادة حكيمة كتلك، هي التي أمنت لمشروع المقاومة انطلاقة نوعية من خلال تبنيها لخطاب وطني جمعي يلتف من حوله كل الوطنيين على اختلاف مشاربهم المذهبية والفكرية، وهي التي ستنال شرف عقلنة المشروع النهضوي الإسلامي وتأسيس مقدمات صلبة للمصالحة التاريخية المنشودة بينه وبين التيار القومي الديمقراطي وكافة أجنحة التيار العلماني.

التعليقات