12/11/2007 - 05:47

مؤتمر الخريف: هروب من الوقائع والتفاف عليها../ خالد الحروب*

مؤتمر الخريف: هروب من الوقائع والتفاف عليها../ خالد الحروب*
ليست هناك صعوبة حقيقية في إدراك ما تريد تحقيقه الولايات المتحدة من وراء عقد مؤتمر أنابوليس في الأسبوع الأخير من هذا الشهر. كما ليست هناك صعوبة في استنتاج ما تستفيده إسرائيل من فكرة المؤتمر وحضوره. المطلوب أميركياً وإسرائيلياً من المؤتمر أن يُعقد فحسب، ومن دون أن تنتج عنه أي توافقات أو إعلانات أو ما سوى ذلك. مجرد الانعقاد هو نجاح يخدم أجندات متعددة لكن ليست منها أجندة حل الصراع بين الفلسطينيين والمشروع الصهيوني. الفكرة «الكيسنجرية» الكلاسيكية واللئيمة في آن معاً إزاء إطلاق وتصميم «عملية سلام» وليس سلاماً، ما زالت هي المفتاح الأساس في فهم وتفسير ما يجري هنا وهناك إزاء السلام في الشرق الأوسط. بيد أن الصعوبة الحقيقية تكمن في استعداد الطرف الفلسطيني للانخراط في هذا المؤتمر السوريالي الذي تتسم عبقريته في أن فشله المتوقع في دفع «السلام» بين الطرفين هو النتيجة شبه المتفق عليها سلفاً ليس من قبلهما فحسب بل من قبل جميع الأطراف. منظم المؤتمر والمشاركون فيه يريدون لجم سقف الطموحات والتقليل من التوقعات والتحذير من التفاؤل المفرط. والمضحك هنا أنه ليس هناك مراقب جدي لما يجري قد رفع من سقف الطموحات أو أعلن تفاؤلاً مفرطاً، بل كل ما يصدر هنا وهناك يبشر بالفشل. وعلى رغم ذلك فإن المؤتمر في طريقه للانعقاد ليس لأنه مطلوب منه أن يصل إلى نتائج على صعيد العنوان الرئيسي له، بل لأن المطلوب والهدف أساساً هو، مرة أخرى، أن ينعقد فحسب. في تسييس كهذا تغدو مفاهيم الفشل والنجاح التقليدية فاقدة لمعناها. يصبح إنجاز الشكل، أي انعقاد المؤتمر، وليس المضمون، أي النتائج المرتبطة بالهدف المعلن، هي عين النجاح.

سواء بوعي أم من دونه يمثل مؤتمر أنابوليس واحداً من سورياليات ما بعد الحداثة السياسية، حيث تتفوق الصورة واللغة والرمزية على المعنى والمضمون وعلى ما هو نتائجي. وهو يرينا كيف تتحول الواقعية السياسية للقوى الكبرى في تعاملها المتغطرس مع قضايا «الآخرين» إلى ما بعد حداثة سياسية عدمية: أي كيف تحولت «عملية السلام» المتولدة عن عقل سياسي براغماتي جبروتي إلى حالة هلامية سائلة ليس لها حدود أو معنى أو مضمون ويصعب تعريفها.

في معظم تمثلات ما بعد الحداثة، ليس فقط سياسياً، بل ثقافياً وأدبياً واجتماعياً، هناك إغواء الهروب من تعقيد تراتبية الأشياء ومنطقها الحداثي التقليدي: ألف يقود إلى باء، يقود إلى جيم. هذا التسلسل يعتبر مملاً ورتيباً ومحداً لإبداع البشر الذي قد يصل إلى جيم من دون المرور بباء، وقد ينطلق من ألف ولا يبتغي الوصول حتى إلى الياء أصلاً وأبداً. وفي عملية الانفكاك من سجن المنطق والمضمون إلى رحاب اللغة المترامية المعاني والشكل غير المعني بالنهايات تحققت إبداعات بشرية مذهلة: فنيا وأدبيا وثقافيا. لكن عجزت ما بعد الحداثة في مجال السياسة عن إنتاج إبداعات موازية. بانجرارها وراء الشكل واللغة، بعيداً عن المضمون والواقعية السياسية المعنية، ما خلقته ما بعد الحداثة تلك هو هروب دائم من الوقائع والحقائق على الأرض والتفاف مكشوف عليها. مؤتمر أنابوليس تجسيد ثقيل الوطأة والدم لما بعد حداثة سياسية عدمية، تقطع بشكل تام مع أمها الأصلية، الحداثة السياسية، المعنية بالمضمون والتسلسل والترتيب، والمنكبة نقدياً على ذاتها شكلاً وجوهراً.

وهكذا فإن ما توفره عدمية ما بعد الحداثة السياسية هو اعتبار أنابوليس ناجحاً من الآن، عكس تقدير الغالبية الكاسحة من المراقبين (الذين يستخدمون معايير الحداثة السياسية التقليدية في تقييم السياسة). أنابوليس لا يعنيه السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. يعنيه شكل وصورة الولايات المتحدة في شرق أوسط ملتهب ومدمر، وواشنطن تقع في قلب ذلك الدمار سبباً ومسبباً. أنابوليس يعنيه ترويج صورة عن ديبلوماسية أميركية تشي بحرص والتصاق بالجذر الأساس لمشكلات الشرق الأوسط، أي القضية الفلسطينية، في حين أن الجهد السياسي والعسكري والاقتصادي متركز في ملفات أخرى: العراق، إيران، النفط، السودان، الخ. أنابوليس يجمع أطرافاً «تفاوضية»، اولمرت وعباس، لا تملك أن تفاوض، بل قادرة على مداومة المصافحة والابتسام أمام الكاميرات، وعقد اجتماعات بلا نهاية، وبلا نتيجة، وهذا إبداع في حد ذاته. أطراف تختلف في كل شيء ولا تتفق على وثيقة مشتركة لكن تتشابه في ضعفها الداخلي وعدم قدرتها الآنية على الإنجاز. أنابوليس هو عبقرية الأداء الإعلامي الكاميراتي كما سنراه على الشاشات قريباً، وهو يغطي على خواء الأداء السياسي. إنه عبقرية الأداء من دون جوهر، وتوكيل الصورة للقيام بمهمة تشكيل الوعي العالمي على حساب ألف قضية صلدة على الأرض.

لا تكتمل عبثية مشهد أنابوليس ما بعد الحداثي إلا بالانخراط الفلسطيني فيه والسير إليه سير الخراف بلا هداية. جبروتية المشهد وتشكيله يجعلان الفلسطينيين، وهذا ليس للبحث عن مسوغ لسوء أدائهم وقبولهم المشاركة أصلاً، يشعرون بأنهم سيحملون مسؤولية «تاريخية» أمام العالم إن عبروا عما في دواخلهم وقالوا لن نذهب الى مؤتمر فاشل قبل أن ينعقد، ومثقل بأهداف إقليمية ليست منها القضية الفلسطينية أصلاً. عبثية وجبروتية صورة المشهد والبناء المتدرج له تجعلان الانفكاك من الصورة «عدم مسؤولية» تاريخية أمام العالم: الفلسطينيون، مرة أخرى، هم سبب فشل «عملية السلام» في الشرق الأوسط! إسرائيل تقول علناً إنها لن تناقش أيا من القضايا الجوهرية في المؤتمر، ومع ذلك يذهب الفلسطينيون. إسرائيل تقول إنها تريد من المؤتمر أن يؤكد على أن أمن إسرائيل أهم من الدولة الفلسطينية (وكل الشعب الفلسطيني طبعاً)، ومع ذلك يذهب الفلسطينيون. إسرائيل تريد أن تكون كل البلدان العربية موجودة في المؤتمر (لماذا؟)، لتظهر الصورة والتغطية الإعلامية أن العرب وسطاء والمشكلة في الفلسطينيين، وأن ما يحدث «هناك» في الشرق الأوسط بين إسرائيل والفلسطينيين هو تفريعة صغيرة على جدول أعمال إقليمي واسع، ومع ذلك يذهب الفلسطينيون.

أولمرت قال أشياء كثيرة في الأسابيع الماضية، مؤكداً على صورة ولا مضمون المؤتمر. هو قال إن المؤتمر سيدشن استئناف المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وقال إن الوصول إلى حل نهائي قد يستغرق سنوات طويلة ربما تمتد لثلاثين أو أربعين سنة. وقال إن الصراع معقد ويجب أن لا يتم توقع حله في مؤتمر أو في سلسلة مفاوضات في إطار زمني محدد. وقالت وزيرة خارجيته ما هو أكثر تطرفا وفجاجة من ذلك وهي تنسج منوالاً يمينياً من تصريحاتها بأمل استدرار شعبية رخيصة ولأهداف انتخابية قادمة. كل ذلك يتناغم بشكل مدهش مع ما بعد حداثة أنابوليس وخوائه من المضمون. وكل ذلك وبشكل أكثر إدهاشاً اتخذ شكل تصريحات إعلامية هدفها «توضيح» الموقف الإسرائيلي من المؤتمر! ماذا بقي من جوهر يتم الحديث عنه حتى أمام كاميرات التلفزيون؟ ولماذا يحتاج الإسرائيليون والفلسطينيون إلى مؤتمر عولمي الصورة حتى يستأنفوا المفاوضات إن كان هذا ما يريده أولمرت. ألا يقوم بذلك هو نفسه والرئيس عباس في القدس بشكل دوري (وتلفزيوني أيضاً) للحفاظ على دفء واستمرار عملية السلام؟

ليس ثمة خروج من هذا الخدر ما بعد الحداثي في السير نحو مؤتمر يزيد من تقليم الحقوق الفلسطينية إلا إعلان فلسطيني برفض حضور المؤتمر لأنه ببساطة خال من المضمون. يحتاج الفلسطينيون إلى قرار قيادي حداثي وجريء يكسر إطار الصورة ما بعد الحداثية السخيفة التي يُساقون إليها، ويكشف أنها خاوية من أي جوهر، وأن الفلسطينيين لا يمتلكون ترف إضاعة الوقت والجهد لمؤتمرات الصورة، في حين تزداد أمورهم تدهورا، وحقوقهم هدراً، ودمهم نزفاً يوما إثر يوم.
"الحياة"

التعليقات