25/09/2009 - 11:49

28 - 28../ الفضل شلق

28 - 28../ الفضل شلق
من 28 أيلول 1961 يوم الانفصال، و28 أيلول 1970 يوم موت عبد الناصر. يمر 28 أيلول بعد يومين كيوم عادي. يوم من الأيام الأخرى.

في هذه الأيام نفاوض بين الدول العربية حول حدود رسمها موظفون امبرياليون من الدرجة الثالثة، حسب تعليمات رؤسائهم بالطبع. نفاوض حول فلسطين منزوعي الحقوق إلا ما هو متروك لمن وقعوا أوسلو من الجانب الآخر لتقديرها.

نخوض حروباً أهلية متواصلة داخل الأقطار العربية، وبين الأقطار العربية. الوسطاء فيها إمبراطورية لا تخفي أنها طرف متحيز في هذه المفاوضات، أو دولة وريثة للإمبراطورية العثمانية التي لم تعد موجودة، أو دولة محاذية خضنا معها حروباً غير عادلة، وهي على استعداد للمزايدة علينا في لبنان وفلسطين والعراق؛ تطرح قضيتنا وأن كان هدفها حل قضيتها الكبرى هي مع الغرب حول سلاح نووي مفترض؛ نعيش أياماً قلقة ونحن نناقش سيناريوهات الحرب المحتملة ضدنا، وهل ستكون الحرب في لبنان، جنوبه؛ أو في لبنان وسوريا، ويكون لبنان محوراً؛ أو في إيران وتكون سوريا والعراق وفلسطين ولبنان من جملة أدوات هذا الصراع.

صراعات كثيرة، حروب متواصلة؛ دور العرب فيها تقديم خدمات لهذا الفريق في الصراع الدولي في المنطقة، أو ذاك، دون أن تكون لنا قيادة أو موقف، ودون أن نعرف ما هي مصالحنا ومواقفنا كعرب، دون أن ندرك ما يفيدنا أو لا يفيدنا. نحن مسرح للعمليات، في حالة ضياع تام؛ سمّينا هذه الحالة تشتيت الوعي، ومن الممكن استخدام تدمير الوعي دون شطط.

أساس هذا الوضع، بالنسبة لنا، هو انفصال سوريا عن مصر بعد وحدة دامت 4 سنوات. بغض النظر عن أسباب الانفصال، وبعض التبريرات السخيفة، إلا أنه كان كارثة على السياسة العربية، وكان كارثة أكبر على الوعي العربي. انكسرت الروح العربية. تلاشت الإرادة العربية. صارت الهزيمة هي الأمر الطبيعي. قلة فهموا أسباب الانفصال ونتائجه. كثرة وجدوا الانفصال نتيجة حتمية لبنية عربية اعتبروها طبيعية؛ لأن الوضع العربي بتخلفه وقصور سياساته وغشمنة جماهيره لا يحتمل إلا هذه النتيجة. اعتبرنا الهزيمة قدرنا، بعد أن كانت العروبة والوحدة العربية «قدرنا المحبب».

أحيلت العروبة إلى فكرة أو قومية أو مقولة، تسهل مواجهتها بأفكار ومقولات أخرى. أجهزة الإعلام الإمبراطورية جاهزة، شركات الإعلان مستعدة لوضع أفكار بديلة ومشاريع أخرى لشرق أوسط جديد دون عرب وعروبة. رُفع من الوعي كون العروبة هي الناس بوجدانهم وحاجاتهم وتطلعاتهم التي وجدوا الوحدة تعبيراً طبيعياً عنها، والتي وجدوا في عبد الناصر قائداً ملهماً لها.

كانت 28 أيلول الأولى والثانية مناسبة لتدمير الوعي وإلغاء العروبة، واستبدال كل ذلك بمبادئ عامة كونية عن الديموقراطية والحداثة وحقوق الإنسان. إذ لدينا دكتاتوريات فاسدة تستبد بشعوبها وتنتهك حقوق الإنسان وتمنع الديموقراطية، ومعظمها رضي عنه الغرب الامبريالي خاصة إذا كان في «معسكر الاعتدال».

مع تجاهل العروبة غاب معنى الدولة عن النخب الثقافية والسياسية وعن الجمهور. غاب عنهم أن مقولات الحداثة والديموقراطية وحقوق الإنسان لا تتحقق إلا في إطار الدولة، الدولة من أي نوع كانت، سواء كانت قطرية أو وحدوية. مع تجاهل العروبة لا يمكن تحقيق الحداثة والديموقراطية وحقوق الإنسان، بما فيه حقوق المرأة. مع تجاهل العروبة، والعروبة تعني فلسطين وتعني العدالة الاجتماعية وتعني فوق كل شيء اليوتوبيا، الحلم العربي، الإرادة العربية والروح العربية، مع تجاهل العروبة لا تبقى إلا الدول القطرية دولاً استبدادية فاقدة الشرعية بسبب فقدانها التواصل والحوار مع شعوبها. دون العروبة تتجه حتماً كل دولة عربية إلى الاستبداد. لا تستطيع مواجهة شعوبها بغير الاستبداد.

يكثر استخدام تعبير «العروبة» لدى الزعماء والعامة، بمناسبة وبدون مناسبة. ألا يكفي ذلك للدلالة على وجود أمة، ولو كانت مفقودة التعبير عنها في الممارسة السياسية. هناك التباسات كثيرة حول تعبير «الأمة» القديم جداً قدم التاريخ. يستخدم أحياناً تعبير الأمة الإسلامية مما يزيد الأمور تعقيداً، لكنه يفيد في الدلالة على أن الأمة العربية لا تحتاج إلى نظريات قومية. لكن الانتماء إليها هو ما يمنح الشرعية لأية دولة قطرية مهما كانت، وهي التي تشكل الضمانة الوحيدة كي لا يدخل أي قطر عربي في حرب أهلية طائفية أو مذهبية أو إثنية. عروبة المشرق العربي تتداخل فيها حدودية مذهبية، على أن الأكثرية عربية. عروبة المغرب تتداخل فيها تعددية إثنية (البربر) على أن الأكثرية فيها واحدة في الدين والمذهب.

لا تشن غارة إسرائيلية على فلسطين أو بلد عربي آخر إلا ويصرخ المصابون «أين العرب»!. وتسير مظاهرات دعم عربية تطالب بنجدة عربية. العرب مشلولو الإرادة والفعل، إذ لا دولة أو دول تقودهم وتنطق باسمهم. قبل الانفصال كان عبد الناصر يتجه نحو الشعوب العربية في سبيل تحقيق دعوته. بعد الانفصال اضطر عبد الناصر للاتجاه إلى الدول في إطار الجامعة العربية.

المنظومة العربية هي من أقدم المنظومات الإقليمية في العالم. يقال إن الانكليز أقاموها كي يتلافوا اندفاع الشعوب العربية نحو الوحدة. مع نيل الأقطار العربية استقلالها، كان طبيعياً في وعي العرب أن يتوحدوا وأن تتشكل الدولة ـ الأمة. ما كان يدخل في وعيهم إلا أن الدولة يجب أن تكون عربية من المحيط إلى الخليج. انتهى عهد البراءة، واعتبار أن إرادة الشعوب هي ما يجب أن يتحقق. انتهى عهد البراءة، ولم ندرك أن للدولة استعمالات أخرى، ولم ندرك أن الدولة العربية بلا شرعيتها وضعفها الناتج عن تبعيتها الحتمية ستكون حتماً أداة بيد سياسات دولية لا ترى الأمة العربية موجودة، أوهي لا تعترف بها، والأجدر القول إنها لا تريد الاعتراف بها.

تحتاج كل دولة في العالم إلى إعادة كتابة التاريخ، لإنتاج خرافة تاريخية، للقول إن الأصول ضاربة في عمق التاريخ، وللقول إن الأصول فعلت فعلها في توليد الأمة ـ الدولة. لا تستطيع دولة عربية أن تكتب تاريخها وتنشئ «خرافتها التاريخية» دون الرجوع إلى الأصول الثقافية العربية. صحيح أن العروبة ليست إثنية وليست قومية، هي بكل بساطة تدور حول اللغة، اللغة العربية المحكية العامية، واللغة العليا، لغة القرآن.

العروبة بالدرجة الأولى جمهور، وبالدرجة الثانية ثقافة قديمة رفدت ثقافات أخرى قديمة وحديثة. وبالتالي فهي ليست كياناً ثابتاً لا يتحول؛ هي أمة مستمرة وفي تكوّن دائم. لكنها الآن امّة دون دولة. لا تستطيع دولة عربية أن تصير دولة ـ أمة إلا بجعل الأمة العربية مرجعية لها. وهذا تناقض في صميم الدولة القطرية، لا في العروبة. ما فشل حتى الآن هو الدولة القطرية لا العروبة. العروبة ذات حياة متطورة متوسعة متمدنة تحتاج إلى دولة.

يحتاج العرب إلى إطار سياسي أكثر قدرة وفاعلية من الجامعة العربية التي اقتصر عملها مؤخراً على الطقوس والمراسم الشكلية. يحتاج العرب إلى إطار يعبر فيه القادة الزعماء عن إرادة شعوبهم ويبحثون فيه قضاياهم، خاصة ما يتعلق بفلسطين والتنمية الحقيقية باستخدام الموارد المتاحة لإنتاج سلع يمكن الاستفادة منها.

يحتاج العرب، وقد ملأت أرضهم الاحتلالات والحروب الأهلية والقواعد الأجنبية وتدخلات الأصدقاء والأعداء، إلى إطار ناظم تكون فيه القرارات ملزمة. لا خوف على السيادة، سيادة هذا القطر أو ذاك. إذ أن سيادة كل دولة قطرية هي الآن مستباحة أو ملغاة بالتبعية للخارج غير العربي. لا تسترد الأقطار العربية سيادتها إلا في إطار عربي سياسي واحد، إطار يمنح الدول القطرية فرصة للتواصل مع شعوبها. حينها تزداد احتمالات الديموقراطية والحداثة وحقوق الإنسان. ليس علينا تأجيل هذه الأهداف، بل يتوجب إيجاد الإطار السياسي لتحقيقها، علماً بأنها لن تتحقق إلا من خلال هذا الإطار.

آن الأوان كي نأخذ الدروس المستفادة والعبر من 28 أيلول الأولى و28 أيلول الثانية، فنعود إلى بديهية العروبة وبديهية الانتماء العربي وبديهية الإطار السياسي الذي يعبر عن ذلك. وإلا فإن درب المستقبل ستكون محفوفة بالمخاطر، مزروعة بالهزائم.
"السفير"

التعليقات