27/04/2010 - 06:29

اللاعبون والمتفرجون في حوض النيل../ فهمي هويدي

اللاعبون والمتفرجون في حوض النيل../ فهمي هويدي

التعامل مع ملف المياه يحتاج إلى تفكير من نوع مغاير، يعيد قراءة المشكلة بأبعادها المختلفة بعيداً عن لغة الانفعال والتهديد التي تحدث بها بعض المسؤولين المصريين.


-1-

ما دعاني للعودة إلى الموضوع مرة ثانية ليس فقط ما يمثله من أهمية حيوية بالنسبة لمصر، ولكن لأنني وقعت خلال الأسبوع الماضي على كم من المعلومات التي تسلط أضواء جديدة على جوانبه المختلفة، ووجدت أن النظر إليها من شأنه أن يسمح لنا بالتعامل مع الملف بصورة أكثر عمقا ومسؤولية. أدري أننا نتحدث الآن بعدما حققت السياسة المصرية فشلاً نسبياً في التوصل إلى اتفاق مع دول المصب، الأمر الذي يعد مقدمة لمواجهة لم تكن في الحسبان، يخشى أن تكون مقدمة لافتتاح حروب المياه في القرن الواحد والعشرين.

لقد وجدت مثلاً أننا أصبحنا طرفاً في مشكلة كبيرة متداولة في المحافل الدولية، التي لم تتوقف عن مناقشة “حق المياه”، وكان آخرها المنتدى العالمي للمياه الذي عقد في اسطنبول في شهر مارس/آذار من العام الماضي “2009”، ذلك أن في العالم 260 حوضاً للمياه تتقاسمها دولتان وأكثر، ويعيش حولها 40% من سكان العالم، كما أن هناك مئات من الأحواض الجوفية المشتركة. ومن الأمثلة الصارخة على ذلك أن 14 دولة تتقاسم نهر الدانوب الأوروبي، و11 دولة تشترك في كل من نهري النيل والنيجر، و9 دول تشترك في الأمازون، وثلاث دول في نهري دجلة والفرات، ومثلها لنهر الأردن.

وفي أغلب الأحوال فإن أنصبة تلك الدول من المياه يتم التفاهم حولها بصورة ودية وسلمية، إلا أن الأمر لا يخلو من خلافات تنشأ إما عن التوزيع غير العادل أو الخلافات السياسية. وهو الحاصل بين تركيا والعراق، و”إسرائيل” والمناطق المحتلة. وبين مصر والسودان من ناحية ودول منابع النيل من ناحية ثانية.

في الوقت ذاته، ثمة 145 معاهدة عالمية حول موضوع المياه، لم تحل الخلافات التي تثور بين أطرافها أو تحسمها تماماً، مع ذلك لم يحدث أن كانت المياه وحدها سبباً مباشراً للحرب في ما بين الدول، كما يقول رئيس المجلس العالمي للمياه لويك فوشون . وفي حالة وقوع نزاعات مسلحة بين الدول المعنية فعادة ما تكون هناك عوامل أخرى تحرك تلك النزاعات، في مقدمتها طبيعة العلاقات السياسية وغياب التعاون بين تلك الدول، إضافة إلى المرارات والرواسب التاريخية، ولا ينسى في هذا الصدد أن موازين القوة بين الأطراف المختلفة تلعب دورها في توزيع حصص المياه، والحالة الأشهر في ذلك تتمثل في “إسرائيل” التي تحبس المياه وتنتفع بها على حساب الفلسطينيين أصحاب الأرض، وكانت النتيجة أن متوسط استهلاك الفلسطيني في الأرض المحتلة أصبح في حدود 75 لتراً يومياً، في مقابل 300 لتر لـ”الإسرائيلي”، علما بأن المتوسط العالمي الأدنى مائة لتر . بحسب منظمة الصحة العالمية.

-2-

لأن اللاعبين كثر فالحاصل في القارة الإفريقية أكثر تعقيداً مما نتصور . هذه نقطة مركزية في دراسة تلقيتها من الدكتور فليفل المدير السابق لمعهد الدراسات الإفريقية، اعتبر فيها الموقف المصري إزاء إفريقيا “مفتقداً الرؤية الاستراتيجية المتماسكة”. وهو يرصد التحركات المناوئة التي يتعين الانتباه إليها سجل الملاحظات الآتية:

تتبنى الولايات المتحدة مشروعات استراتيجية مؤثرة على المصالح المصرية، أخطرها مشروع القرن الإفريقي الكبير. الذي يستهدف تدمير الدرع اليمنى لحوض النيل، وتمزيق السودان بغرض النفاذ منه إلى قلب القارة وأقاليمها المائية للهيمنة على أهم موارد القارة الطبيعية الكفيلة بتوليد طاقة مائية هائلة. وهذا المشروع يشكل قيدا على الحركة المصرية في مجاليها الحيويين، العالم العربي والقارة الإفريقية.

طرحت الولايات المتحدة كذلك فكرة بعث مشروع استعماري بريطاني قديم هو اتحاد شرق إفريقيا (كينيا وأوغندا وتنزانيا). وفي التصور الأمريكي فإن ذلك الاتحاد يمكن أن يضم دولة مقترحة في جنوب السودان، وقد عقد عدة دورات في السنوات الثلاث الماضية على مستوى القمة، ومن شأن إقامته أن يتم شق تجمع “كوميسا” وإضعاف دور مصر فيه، وبصفة خاصة إذا انضمت إليه إثيوبيا.

وفي حال انفصال جنوب السودان فإن ذلك الاتحاد، سيكون بمثابة شرخ محتمل في العلاقات العربية الإفريقية، لا يعلم إلا الله تداعياته ومآلاته. وما لم تقم مصر باختراق كبير، فإن علاقة مصر والسودان معه ستشهد توترات عدة. وفي ظل احتمال انضمام إثيوبيا إليه، وإزاء غياب الدولة الصومالية فإن أزمة مياه النيل والعلاقة مع دول الحوض ستصبح أزمة إفريقية إفريقية، وإفريقية عربية في ذات الوقت.

تبنت الولايات المتحدة كذلك مشروع خليج غينيا، وهو يرمي إلى حصد البترول المكتشف مؤخراً في دول غربى إفريقيا ووسطها، وتستهدف الولايات المتحدة من خلاله أن توفر في عام 2015 نحو ربع احتياجاتها من النفط من هذه المنطقة، خاصة نيجيريا وتشاد والسنغال وأنجولا، وهي لم تكتف بذلك، بل استخدمت تلك الدول ركيزة للتدخل في جوارها وبعض تطورات أزمة دارفور يمكن قراءتها في إطار هذا المشروع.

نتيجة لهذه المشروعات الأمريكية صار السودان عرضة للاختطاف والتناوش والنهش من الشرق (في إطار مشروع الشرق الأوسط) ومن الغرب (في إطار مشروع خليج غينيا) ومن الجنوب (في إطار مشروع اتحاد شرق إفريقيا)، بل وصار عرضة للتقسيم الكامل في إطار مشروع القرن الإفريقي الكبير، وهو ما يهدد مصالح مصر الثابتة في مياه النيل بمخاطر شتى.

إذا أضفنا لذلك كله ذلكم المشروع الوليد للقيادة العسكرية الأمريكية لإفريقيا “أفريكوم” لأدركنا أن هذه المشاريع الأمريكية ليست برامج تنموية طوباوية تحدث في فراغ استراتيجي، بل يظاهرها تجييش للجيوش وحشد للقوى، وربما نشهد يوماً تكون فيه جيوش الدول الإفريقية التي لا تتوقف زيارات المسؤولين الأمريكيين لها (السنغال ونيجيريا وغانا في غربي القارة وجنوب إفريقيا في جنوبيها، وكينيا وأوغندا وإثيوبيا في شرقيها) تدخل في إطار المشروعات الأمريكية، على نحو ما حدث من تدخل إثيوبيا في الصومال، وقيادة أوغندا للقوات الإفريقية هناك. الأمر الذي يعني أننا بصدد برامج خطيرة تهدد أمن مصر القومي، لا تمس مصالحها فحسب، ولكنها تتجاهل أنها موجودة أصلا.

-3-

في الوقت الراهن، ومن الناحية العملية، لا مفر من الاعتراف بأن موقف مصر ضعيف، لا لأنها لا تملك أوراقاً، ولكن لأنها لم تستخدم أوراقها وتجاهلتها طويلا. ولكي تدافع مصر عن حقوقها فمطلوب منها بذل جهد مضاعف، لسبب جوهري هو أن الساحة الإفريقية أصبحت تكتظ باللاعبين الوافدين إليها من كل صوب، فإلى جانب الولايات المتحدة و”إسرائيل”، ثمة حضور مشهود للصين وفرنسا وألمانيا واليابان والهند وإيران وصولاً إلى ماليزيا. وفي حدود علمي فإن تركيا بدورها أصبحت تتطلع للنفاذ إلى الأسواق الإفريقية، حتى إنها قامت بتعيين أحد أهم رجال الأعمال سفيراً لها في نيروبي، ولابد أن يلفت نظرنا في هذا السياق أن المنظمات الأهلية التركية أصبحت تمارس نشاطاً ثقافياً واسعاً في مختلف دول القارة، بحيث لم تعد هناك دولة إفريقية إلا وأقيمت فيها مدرسة تركية على الأقل.

لقد تلقيت رسالة بخصوص إمكانات الدور المصري من الدكتور جمال عبدالسلام المدير السابق للجنة الإغاثة باتحاد الأطباء العرب طرح فيها سؤالين هما: لماذا لا تستحدث مصر وزارة لشؤون إفريقيا، كما سبق أن خصص الرئيس عبدالناصر وزارة للسد العالي (عين لها المهندس صدقي سليمان وزيرا)؟ السؤال الثاني هو: لماذا لا تستعين الجهود الحكومية في ترميم ومد الجسور مع الدول الإفريقية بالمنظمات الأهلية ذات الخبرة العريضة في مختلف مجالات الخدمات، وفي مقدمة تلك المنظمات جمعية الهلال الأحمر ولجان الإغاثة بالجمعية الشرعية ونقابة الأطباء المصرية واتحاد الأطباء العرب.

يذكرنا الدكتور جمال عبدالسلام بأن العالم العربي ومصر خاصة أقرب إلى إفريقيا من كل تلك البلدان التي تقاطرت عليها، وأن مدرسة واحدة أقامتها الكويت في جوبا، جعلت شعب جنوب السودان يخرج في مظاهرات صاخبة احتجاجاً على غزو العراق للكويت، في حين أن الموقف في الشمال كان ملتبساً، كما أن إقامة مدرسة جمال عبدالناصر في مقديشو والبعثة الأزهرية التي تم إيفادها إلى الصومال “كانت الأكبر في القارة الإفريقية” أحدثتا تغييرات جوهرية في أجواء البلاد، لمسها الوفد الإغاثي الذي أرسلته الجامعة العربية إلى هناك في بداية التسعينات. من ناحية أخرى فإن الأنشطة التي قامت بها القوافل الإغاثية العلاجية ولجان مكافحة العمى في بعض الدول الإفريقية كانت لها أصداؤها الإيجابية القوية، حين زارت جيبوتي والصومال وتشاد والنيجر.

-4-

حتى تأخذ المصارحة مداها، يتعين علينا في النهاية أن نسجل عدة أمور أحسبها ضرورية لانتقال مصر من موقف المتفرج إلى اللاعب في ساحة حوض النيل، هذه الأمور هي:

1- إن الفشل النسبي للمفاوضات مع دول الحوض وثيق الصلة بتراجع الدور المصري وغياب استراتيجية واضحة للتعامل مع العالم الخارجي، فالعلاقة مع دول حوض النيل مثلا، لا تنفصل عن العلاقة مع دول منطقة القرن الإفريقي، بل مع محيط دول الاتحاد الإفريقي.

2- إن مصر لم تتصرف حتى الآن باعتبارها جزءاً من إفريقياً، وأعطت انطباعاً بأنها ضيف عليها ومضطر إليها. وذلك وضع يحتاج إلى تصحيح بحيث تنضم الهوية الإفريقية إلى مفردات الهوية الأخرى للإقليم، المصرية والعربية والإسلامية والمتوسطية.. إلخ. ورغم أن بعض المسؤولين المصريين دأبوا على الحديث عن تضحيات مصر من أجل إفريقيا (في أزمنة سابقة) إلا أن الأفارقة لم يجدوا ما يبرهن على ذلك في زماننا. ولك أن تقدر مشاعرهم مثلا عندما يجدون أن مصر أعادت الحياة إلى شبكة كهرباء لبنان مرة واثنتين إثر العدوان “الإسرائيلي”، في حين لا يجدون أثرا يذكر لدورها التنموي في بلادهم.

3- حين نتحدث عن دور العوامل أو الدسائس الخارجية التي باعدت بين مصر وبين دول الحوض، فينبغي ألا يمنعنا ذلك من تفهم مشاعر الأفارقة إزاء مصر. ذلك بأن منهم من يلمس استعلاء مصرياً غير مبرر في التعامل معهم.. ومنهم من لا يستطيع أن يتحلل من مشاعر الاستياء والحساسية حين يجدون أن مياه النهر تمر على بلدانهم التي تعاني التخلف والفقر والمرض، لتصل إلى حياضنا لنزرع بها ونروي. ومن حقهم في هذه الحالة أن يطالبوا بمردود يمتص مشاعرهم تلك ويرطب من جوانحهم. ولا شك أن الإسهام المصري في تنمية تلك المجتمعات، وتوفير ما يمكن توفيره من خدمات طبيعية وتعليمية لهم لا يبدد تلك المشاعر فحسب ولكنه أيضاً يوفر لمصر نفوذاً ناعماً يرجح من كفتها في مثل المواقف الخلافية التي نحن بصددها.

4- ثمة انطباع مغلوط يشيع بين بعض النخب في الدول الإفريقية خصوصاً بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد، يدعى أن التنسيق قائم بين مصر والولايات المتحدة و”إسرائيل” في المشرق العربي والقرن الإفريقي و”إسرائيل”، ولا أعرف علاقة هذه الشائعة بفكرة معسكر “الاعتدال” الذي يروج له في العالم العربي وتتصدره الدول الثلاث، لكن الذي لا أشك فيه أن هذه السمعة أفقدت الدور المصري “الغائب” رصيده الوطني والمستقبل في القارة.

لأن التحدي كبير، فالجهد المطلوب أيضاً كبير، وهو ما يتطلب قراراً سياسياً على أعلى مستوى، يستصحب عزيمة صادقة ونفساً طويلاً. وتلك مشكلات عويصة لا أعرف ما إذا كنا سنحلها في الأجل المنظور أم لا.
"الخليج"

التعليقات