بضربة مؤلمة وغادرة اختطف الموت أحد أبرز المفكرين السياسيين في مصر، وهو الدكتور أحمد عبد الله. كان عاشقا للحرية حتى أنه لم يعمل أبدا بمؤسسة رسمية وهو أحد القلائل من المصريين الحاصلين على درجة الدكتوراه من جامعة كامبردج البريطانية الشهيرة، بل كان عاشقا للحرية إلى حد أن أحد قراراته كانت مغادرة جسده نفسه لتتحرك روحه دون قيود.
وكان عاشقا للوطن إلى الحد الذي غادر فيه يوم5 يونيو احتجاجا على ذكري هزيمة وطنية صعقت جيلنا وشكلت إهانة لم تنمح من وجدانه حتى بعد نحو أربعة عقود، وكانت إرادة التجاوز الجذري لهذه المهانة هي المحرك الأهم الذي جعل د. أحمد عبد الله الزعيم غير المنازع للحركة الطلابية المصرية عامي1972 و1973 وهي الحركة التي أعادت الاقتران بين الديمقراطية والوطنية المصرية بعد انفصام أحدثته ثورة1952 لأول مرة منذ ستينيات القرن التاسع عشر.
ومع ذلك فليس من الصحيح أن يشغلنا الدور السياسي المباشر للدكتور أحمد عبد الله عن فكره الأكثر ثراء وتدفقا، لقد امتلك فعلا موهبة الزعامة، وكان أفضل الخطباء السياسيين الذين سمعت لهم، وكان مناضلا من حيث الروح، ولكنه لم يكن ينشط في السياسة بانتظام ولا على أي نحو منظم، بل كان يتعامل معها بطريقة الفنان، الذي يندفع إليها في انبثاقات مفاجئة وينفر منها معظم الوقت، ويرفض السعي إليها كما يفعل المحترفون أو النشطاء التقليديون، وعلى العكس كان فكره السياسي متقدا، ودافقا وهو ما يعرفه علماء السياسة الأجانب الذين اشتغلوا على فكره وتتلمذ الكثيرون منهم على يديه، وكان معروفا لديهم ـ بكل أسف ـ عن أكثرية مواطنيه وزملائه.
تشكل الحرية البؤرة الضوئية في الفكر السياسي للدكتور أحمد عبد الله وهي بؤرة تقربه من الفكر السياسي الغربي، ولكنه كان يتعاطى مع الحرية لا باعتبارها مبدأ مجردا، فحسب، بل باعتبارها الفكرة الولادة لكل المعاني الحقيقية والملموسة اللصيقة بالوطن، هو لم يهتم بتعريف السياسة في علاقتها بإشكالية النظام والسلطة، بل بتعريفها باعتبارها الشعب في الحركة، والواقع أن قضية السلطة التي شغلت الفكر الغربي انشغالا مطلقا وجوهريا للغاية لم تحتل الموقع المنتظر من خريج جامعة كامبردج، فهو لم يكن قلقا مثل الغربيين على احتمالات الفوضى، لأنه كان يثق ثقة عميقة بالدماثة والرقي المصري الموروث.
وبوسعي أن أقول إن السياسة عند الدكتور أحمد عبد الله لم تكن أبدا لعبة شد الحبل بين نخب حكم ونخب معارضة، ولا كانت فن الممكن، ولا هي ساحة تتفاعل فيها إرادات أحزاب وفاعلين سياسيين أو تتم فيها عمليات التفاوض، فهو لم يحصر نفسه أبدا في هذه الجوانب من التعريف الغربي للسياسة، ولم يفهم أبدا لماذا يتم تصوير السياسة وكأنها بورصة تتعامل مع أوراق السلطة بالتوازي مع أوراق المال.
وبينما قربه مفهوم الحرية من الفكر السياسي الغربي، فإن مفهوم السياسة ذاته كان يبعده كثيرا عن هذا الفكر ويقربه فعليا أكثر كثيرا من تراث الفكر السياسي الإسلامي والشرقي عموما، فمفهومه للسياسة احتفظ بعلاقة حيوية للغاية مع مفهوم الحضارة أو الإعمار، وكأن المطلوب من السياسة أن يكون لها غاية أساسية وهي استعادة أو بناء الحضارة، أو ما سماه جيل المؤسسين للفكر السياسي العربي الحديث بـالنهضة، فكان تعبير الحضارة والتحضر من أكثر التعبيرات تكرارا في كتاباته وكتبه وأحاديثه وخطبه ومحاضراته الكثيرة لجمهور بالغ التنوع يبدأ بأكثر الناس تخصصا في نيويورك وطوكيو وباريس، حتى أبسط الناس في عين الصيرة وقرى الجيزة والصعيد. ومع ذلك لم يأخذ الدكتور أحمد عبد الله بالانطباعات الشائعة عن معني الحضارة، فهو لم يهتم كما يفعل الإسلاميون السياسيون مثلا بالمجد العسكري كعنوان أو دليل علي الحضارة والتقدم,، بل لم تشغله كثيرا حتى الصناعة، والوفرة الاقتصادية، ولم يكن كعالم سياسة منعزلا عن منجزات الفلسفة الإسلامية والغربية، وهي تشكل عصارة الحضارة ورونقها الفكري بالنسبة للمثقفين، ومع ذلك فلم يقدم تعريفا فلسفيا للحضارة، فالحضارة عنده كان لها معنى ومقياس أساسي وهو مدى إشباع الحاجات الإنسانية، المادية والروحية والثقافية لأبسط الناس وفقرائهم. وبتعبير آخر فالحضارة معني معاكس تماما للفقر! كل من الفقر المادي والمعنوي، فالمجتمع الذي لا يلبي الحاجات الأساسية لفقرائه هو ببساطة مجتمع منزوع الحضارة، والمجتمع الذي لا يلبي حاجة كل البشر فيه للتصرف بصورة أخلاقية وإنسانية هو مجتمع منزوع الحضارة، وبتعبير آخر فإنه لا حضارة، بمعنى لا مجال للتهذيب الإنساني حيثما يعيش الناس خاضعين للاستبداد والفساد. الاستبداد هو اللا حضارة لا لأنه يحرم الناس من الحرية فحسب، بل ولأنه يقوم علي علاقات العنف وليس علي علاقة القبول العقلي والروحي والثقافي الحر، أما الفساد فهو أشد الأوبئة خطورة لأنه يحرم الفقراء من الطعام والتعليم والصحة، ويحرم الأطفال من فرص الحياة الإنسانية، ويدفعهم للجريمة والتشوه، ولأنه بالطبع الأب غير الشرعي للاستبداد، بكل ما يعنيه من إصابات لأي أمة، وخاصة لأطفالها، أما الانتقال إلى الحضارة الديمقراطية فيجب أن يكون سلميا.
ولذلك فإن الدكتور أحمد عبد الله هو النقيض الموضوعي الكامل والمطلق لشخصية أبو مصعب الزرقاوي، الذي انتقل إلى رحمة الله بعد يومين، فبينما كان الزرقاوي يرفض الجميع ويكفرهم، فالدكتور أحمد عبد الله كان يدعو لقبول الآخر، ولحرية جميع الناس في الاعتقاد والضمير والتعبير. وبينما كان الزرقاوي تجسيدا لفكرة العنف المطلق، كان الدكتور أحمد عبد الله تجسيدا لفكرة السلام الكامل، ولهذا كانت فكرته عن الانتقال إلى النموذج الديمقراطي تنهض علي التفاوض والمشاركة بين الجميع، ومن هنا انشغل بدور القوات المسلحة في رعاية وصيانة النظام الديمقراطي وجعل هذه الفكرة مقبولة من المدنيين والديمقراطيين، وجعل هذه الفكرة صلب كتابه المهم عن الجيش والسياسة في مصر.
ويبدو أنه كان يواصل هنا تقليدا مصريا يكن احتراما كبيرا للجيش كمؤسسة وطنية، ولكن مدخله الأساسي لهذه المقاربة لم يكن عملية التغيير الاجتماعي الذي بدأه عبد الناصر والعسكريون، مثلما قال الدكتور أنور عبد الملك في كتاب شهير له، وإنما كان البحث عن ضمانات الانتقال السلمي ودعوته لمشاركة الجميع في هذه العملية.
كان مشروعه الأساسي هو التغيير: التغيير الذي يجعل هزيمة يونيو1967 غير قابلة للتكرار، والتغيير الذي يعيد الديمقراطية ويعيد زمام المبادرة للحضارة المصرية، ولكنه صار مع الوقت يائسا تماما تقريبا من النخب المصرية، الحاكمة والمعارضة على السواء.
ولذلك، بدت له السياسة كطريق مغلق، مثلما بدت كذلك لسلسلة طويلة من المفكرين المصريين بدءا من الإمام محمد عبده، وهذا هو ما يفسر اعتكافه السياسي، وعزلته القصدية عن ميدان العمل السياسي والمدني المنظم، كما يفسر أيضا صرف اهتمامه بصورة كاملة في تعليم الأطفال، خاصة صبية الورش، إذ تجمعت في هذا المشروع الميداني كل خيوط فكره السياسي: إن لم تكن السياسة بالمعني التقليدي هي الطريق إلى استرداد الحضارة المصرية، فالتعليم هو المساهمة الملموسة التي يمكن لأي مثقف أو مفكر تقديمها لشعبه وبلاده، والأطفال هم أكثر مستحقيها، ولهذا صار مركز الجيل بعين الصيرة هو المشروع الأهم في حياته بجانب البحث والتأليف، ويشعر زملاؤه أنه يجب أن يستمر بعد رحيله المفاجئ.
"الأهرام"
التعليقات