31/10/2010 - 11:02

الفكر السياسي للدكتور أحمد عبد الله/ د‏.‏ محمد السيد سعيد

الفكر السياسي للدكتور أحمد عبد الله/ د‏.‏ محمد السيد سعيد
بضربة مؤلمة وغادرة اختطف الموت أحد أبرز المفكرين السياسيين في مصر‏، وهو الدكتور أحمد عبد الله‏.‏ كان عاشقا للحرية حتى أنه لم يعمل أبدا بمؤسسة رسمية وهو أحد القلائل من المصريين الحاصلين على درجة الدكتوراه من جامعة كامبردج البريطانية الشهيرة‏،‏ بل كان عاشقا للحرية إلى حد أن أحد قراراته كانت مغادرة جسده نفسه لتتحرك روحه دون قيود‏.‏

وكان عاشقا للوطن إلى الحد الذي غادر فيه يوم‏5‏ يونيو احتجاجا على ذكري هزيمة وطنية صعقت جيلنا وشكلت إهانة لم تنمح من وجدانه حتى بعد نحو أربعة عقود‏،‏ وكانت إرادة التجاوز الجذري لهذه المهانة هي المحرك الأهم الذي جعل د‏.‏ أحمد عبد الله الزعيم غير المنازع للحركة الطلابية المصرية عامي‏1972‏ و‏1973‏ وهي الحركة التي أعادت الاقتران بين الديمقراطية والوطنية المصرية بعد انفصام أحدثته ثورة‏1952‏ لأول مرة منذ ستينيات القرن التاسع عشر‏.‏

ومع ذلك فليس من الصحيح أن يشغلنا الدور السياسي المباشر للدكتور أحمد عبد الله عن فكره الأكثر ثراء وتدفقا‏، لقد امتلك فعلا موهبة الزعامة‏، وكان أفضل الخطباء السياسيين الذين سمعت لهم‏،‏ وكان مناضلا من حيث الروح‏،‏ ولكنه لم يكن ينشط في السياسة بانتظام ولا على أي نحو منظم‏، بل كان يتعامل معها بطريقة الفنان‏،‏ الذي يندفع إليها في انبثاقات مفاجئة وينفر منها معظم الوقت‏،‏ ويرفض السعي إليها كما يفعل المحترفون أو النشطاء التقليديون‏،‏ وعلى العكس كان فكره السياسي متقدا‏،‏ ودافقا وهو ما يعرفه علماء السياسة الأجانب الذين اشتغلوا على فكره وتتلمذ الكثيرون منهم على يديه‏،‏ وكان معروفا لديهم ـ بكل أسف ـ عن أكثرية مواطنيه وزملائه‏.

تشكل الحرية البؤرة الضوئية في الفكر السياسي للدكتور أحمد عبد الله وهي بؤرة تقربه من الفكر السياسي الغربي‏،‏ ولكنه كان يتعاطى مع الحرية لا باعتبارها مبدأ مجردا‏، فحسب‏،‏ بل باعتبارها الفكرة الولادة لكل المعاني الحقيقية والملموسة اللصيقة بالوطن‏،‏ هو لم يهتم بتعريف السياسة في علاقتها بإشكالية النظام والسلطة‏،‏ بل بتعريفها باعتبارها الشعب في الحركة‏،‏ والواقع أن قضية السلطة التي شغلت الفكر الغربي انشغالا مطلقا وجوهريا للغاية لم تحتل الموقع المنتظر من خريج جامعة كامبردج‏،‏ فهو لم يكن قلقا مثل الغربيين على احتمالات الفوضى‏،‏ لأنه كان يثق ثقة عميقة بالدماثة والرقي المصري الموروث‏.‏

وبوسعي أن أقول إن السياسة عند الدكتور أحمد عبد الله لم تكن أبدا لعبة شد الحبل بين نخب حكم ونخب معارضة‏، ولا كانت فن الممكن‏،‏ ولا هي ساحة تتفاعل فيها إرادات أحزاب وفاعلين سياسيين أو تتم فيها عمليات التفاوض‏،‏ فهو لم يحصر نفسه أبدا في هذه الجوانب من التعريف الغربي للسياسة، ولم يفهم أبدا لماذا يتم تصوير السياسة وكأنها بورصة تتعامل مع أوراق السلطة بالتوازي مع أوراق المال‏.‏

وبينما قربه مفهوم الحرية من الفكر السياسي الغربي‏، فإن مفهوم السياسة ذاته كان يبعده كثيرا عن هذا الفكر ويقربه فعليا أكثر كثيرا من تراث الفكر السياسي الإسلامي والشرقي عموما‏، فمفهومه للسياسة احتفظ بعلاقة حيوية للغاية مع مفهوم الحضارة أو الإعمار‏، وكأن المطلوب من السياسة أن يكون لها غاية أساسية وهي استعادة أو بناء الحضارة‏،‏ أو ما سماه جيل المؤسسين للفكر السياسي العربي الحديث بـالنهضة‏،‏ فكان تعبير الحضارة والتحضر من أكثر التعبيرات تكرارا في كتاباته وكتبه وأحاديثه وخطبه ومحاضراته الكثيرة لجمهور بالغ التنوع يبدأ بأكثر الناس تخصصا في نيويورك وطوكيو وباريس‏، حتى أبسط الناس في عين الصيرة وقرى الجيزة والصعيد‏.‏ ومع ذلك لم يأخذ الدكتور أحمد عبد الله بالانطباعات الشائعة عن معني الحضارة‏،‏ فهو لم يهتم كما يفعل الإسلاميون السياسيون مثلا بالمجد العسكري كعنوان أو دليل علي الحضارة والتقدم‏,، بل لم تشغله كثيرا حتى الصناعة‏، والوفرة الاقتصادية‏،‏ ولم يكن كعالم سياسة منعزلا عن منجزات الفلسفة الإسلامية والغربية‏، وهي تشكل عصارة الحضارة ورونقها الفكري بالنسبة للمثقفين‏،‏ ومع ذلك فلم يقدم تعريفا فلسفيا للحضارة‏، فالحضارة عنده كان لها معنى ومقياس أساسي وهو مدى إشباع الحاجات الإنسانية‏،‏ المادية والروحية والثقافية لأبسط الناس وفقرائهم‏. وبتعبير آخر فالحضارة معني معاكس تماما للفقر‏!‏ كل من الفقر المادي والمعنوي‏، فالمجتمع الذي لا يلبي الحاجات الأساسية لفقرائه هو ببساطة مجتمع منزوع الحضارة‏،‏ والمجتمع الذي لا يلبي حاجة كل البشر فيه للتصرف بصورة أخلاقية وإنسانية هو مجتمع منزوع الحضارة‏،‏ وبتعبير آخر فإنه لا حضارة‏، بمعنى لا مجال للتهذيب الإنساني حيثما يعيش الناس خاضعين للاستبداد والفساد‏.‏ الاستبداد هو اللا حضارة لا لأنه يحرم الناس من الحرية فحسب‏،‏ بل ولأنه يقوم علي علاقات العنف وليس علي علاقة القبول العقلي والروحي والثقافي الحر‏، أما الفساد فهو أشد الأوبئة خطورة لأنه يحرم الفقراء من الطعام والتعليم والصحة‏،‏ ويحرم الأطفال من فرص الحياة الإنسانية‏،‏ ويدفعهم للجريمة والتشوه‏،‏ ولأنه بالطبع الأب غير الشرعي للاستبداد‏،‏ بكل ما يعنيه من إصابات لأي أمة‏، وخاصة لأطفالها‏،‏ أما الانتقال إلى الحضارة الديمقراطية فيجب أن يكون سلميا‏.

ولذلك فإن الدكتور أحمد عبد الله هو النقيض الموضوعي الكامل والمطلق لشخصية أبو مصعب الزرقاوي‏،‏ الذي انتقل إلى رحمة الله بعد يومين‏،‏ فبينما كان الزرقاوي يرفض الجميع ويكفرهم‏،‏ فالدكتور أحمد عبد الله كان يدعو لقبول الآخر‏، ولحرية جميع الناس في الاعتقاد والضمير والتعبير‏. وبينما كان الزرقاوي تجسيدا لفكرة العنف المطلق‏،‏ كان الدكتور أحمد عبد الله تجسيدا لفكرة السلام الكامل‏، ولهذا كانت فكرته عن الانتقال إلى النموذج الديمقراطي تنهض علي التفاوض والمشاركة بين الجميع‏،‏ ومن هنا انشغل بدور القوات المسلحة في رعاية وصيانة النظام الديمقراطي وجعل هذه الفكرة مقبولة من المدنيين والديمقراطيين‏، وجعل هذه الفكرة صلب كتابه المهم عن الجيش والسياسة في مصر‏.

ويبدو أنه كان يواصل هنا تقليدا مصريا يكن احتراما كبيرا للجيش كمؤسسة وطنية‏،‏ ولكن مدخله الأساسي لهذه المقاربة لم يكن عملية التغيير الاجتماعي الذي بدأه عبد الناصر والعسكريون، مثلما قال الدكتور أنور عبد الملك في كتاب شهير له‏، وإنما كان البحث عن ضمانات الانتقال السلمي ودعوته لمشاركة الجميع في هذه العملية‏.‏

كان مشروعه الأساسي هو التغيير‏:‏ التغيير الذي يجعل هزيمة يونيو‏1967‏ غير قابلة للتكرار‏، والتغيير الذي يعيد الديمقراطية ويعيد زمام المبادرة للحضارة المصرية‏،‏ ولكنه صار مع الوقت يائسا تماما تقريبا من النخب المصرية‏، الحاكمة والمعارضة على السواء‏.‏

ولذلك‏،‏ بدت له السياسة كطريق مغلق‏، مثلما بدت كذلك لسلسلة طويلة من المفكرين المصريين بدءا من الإمام محمد عبده‏،‏ وهذا هو ما يفسر اعتكافه السياسي‏،‏ وعزلته القصدية عن ميدان العمل السياسي والمدني المنظم‏،‏ كما يفسر أيضا صرف اهتمامه بصورة كاملة في تعليم الأطفال، خاصة صبية الورش‏، إذ تجمعت في هذا المشروع الميداني كل خيوط فكره السياسي‏:‏ إن لم تكن السياسة بالمعني التقليدي هي الطريق إلى استرداد الحضارة المصرية‏،‏ فالتعليم هو المساهمة الملموسة التي يمكن لأي مثقف أو مفكر تقديمها لشعبه وبلاده‏،‏ والأطفال هم أكثر مستحقيها‏،‏ ولهذا صار مركز الجيل بعين الصيرة هو المشروع الأهم في حياته بجانب البحث والتأليف،‏ ويشعر زملاؤه أنه يجب أن يستمر بعد رحيله المفاجئ‏.‏


"الأهرام"

التعليقات