31/10/2010 - 11:02

ثلاثون عاماً على محاورة "الداخل الإسرائيلي"!../ محمد خالد الأزعر*

ثلاثون عاماً على محاورة
في دورته الثالثة عشرة (آذار/ مارس 1977)، أقر المجلس الوطني الفلسطيني بأهمية الحوار والاتصال مع ما سمي بالقوى اليهودية الديموقراطية والتقدمية المناضلة ضد الصهيونية عقيدة وممارسة. حدث ذلك بعد إلحاح من الذين عُرفوا فلسطينياً بتيار اختراق الداخل الإسرائيلي بزعامة محمود عباس (أبو مازن)، وما أن تلقف هذا التيار الإقرار المذكور حتى أوغل في اتصالاته مع هذا الداخل، التي كانت تجري من قبل بدرجة عالية من السرية والكتمان.

وهكذا فإن القضية الفلسطينية تقف راهناً على مسافة ثلاثين عاماً بالتمام من بدايات الاعتماد على نُصرة «عقلاء إسرائيل وقواها السلامية». وإلى هذا المدخل يعود الفضل في إبرام اتفاق أوسلو وتوابعه وعدد آخر من الموادعات غير الرسمية ومن أشهرها تفاهمات جنيف 2003. وعليه، نكون مع القضية في وضع يسمح بتبصر مدى فعاليته لجهتي النظرية والتطبيق. وإن عزفنا عن التفاصيل المملة، واضعين أعيننا وأذهاننا على الخط البياني العريض برؤية شمولية (استراتيجية)، فسوف نتوصل إلى أن الحصاد العام كان سلبياً.

فالمحاورون عن الجانب الفلسطيني، أولئك الذين تحولوا من تَفَهُّم الداخل الإسرائيلي، ومعرفة تضاعيفه إلى التفاوض معه، أسرفوا في التخلي عن مواثيق حركتهم الوطنية وثوابتها من حيث الوسائل والأهداف وأنماط التحالف الداخلية والخارجية. هذا في حين ظل شركاؤهم عاكفين على حراسة قضايا الإجماع الصهيوني الإسرائيلي. وليس بلا مغزى على خلاصة كهذه، أن يكون يوسي بيلين كبير عرابي «التسوية التاريخية» وقوى السلام الاسرائيلية، هو الذي ابرم في كانون الثاني (يناير) 1997 وثيقة مع ميخال ايتان ممثلاً عن قطاعات «اليمين» الصهيوني الاسرائيلي، تحددت فيها الخطوط الحمر (الثوابت) التي لا ينبغي لأي كان في اسرائيل أن يتخطاها في التسوية الفلسطينية، وفي الوقت الذي نلمس فيه آثار هذا التوافق الاسرائيلي، تثور الشكوك حول ما إن كان المحاورون الفلسطينيون قد ابقوا على أي ثابت عندهم، بل ويسخر البعض من افتقاد الجانب الفلسطيني برمته الى استراتيجية كفاحية يُعقد بها من الاصل، وكذا من غلبة التكتيك على هذه الاستراتيجية إن وجدت، ومن صعوبة اجتراح الوحدة الوطنية.

لقد ارادت مدرسة اختراق الداخل الاسرائيلي الاشتغال على محور ما حسبته حالة تشظ اسرائيلية متعددة المصادر، بين شرقيين وغربيين، دينيين وعلمانيين، اغنياء مترفين وفقراء مضطهدين، مهاجرين قدامى وجدد، يساريين ويمينيين، مدنيين وعسكر، سلاميين وحزبيين واثناء الايغال في هذه التوصيفات، فاتها التمييز بين الانقسامات المؤذية والمؤدية الى صراعات اهلية، وبين التنوع الذي يمكن تنفيسه والتعبير عنه عبر آليات العملية السياسية والمشاركة والتزاحم على صناعة القرار، حدثت هذه السقطة على رغم اعتراف شيوخ هذه المدرسة بأن اسرائيل «دولة ديموقراطية» يسمح فيها للبعض بالتغريد خارج السرب ولكن في حدود قواسم مشتركة معلومة، كالتي اثبتتها وثيقة بيلين - ايتان ولم تنتهكها قوة حزبية او حركة حتى الآن.

والشاهد بعد التجربة الممتدة، أن «السلاميين الاسرائيليين» كانوا الاكثر فطنة ووعياً بحدود حركتهم، وبنوازع شركائهم الفلسطينيين. نفهم ذلك من ان الداخل الفلسطيني اليوم هو الاقل اجماعاً على اهدافه ووسائل تحقيقها، أو لعلنا نقول بصيغة اخرى، إن المحاورين الاسرائيليين تمكنوا بدورهم من التلاعب بالداخل الفلسطيني، بحيث بدا هذا الداخل مرشحاً للصدام الاهلي في مناسبات اكثر بكثير مقارنة بما يعتمل في احشاء اسرائيل، هناك شواهد تخرق العين على هذه الحقيقة المؤلمة، اقله خلال العام الاخير.

ويدعو للأسى ان جولات الحوار الفلسطيني مع معسكر السلام الاسرائيلي قد دارت لثلاثة عقود، وتنقلت في جهات الدنيا الاربع، من طوكيو شرقاً الى واشنطن غرباً ومن اوسلو شمالاً الى كيب تاون جنوباً، مروراً بمدريد واستكهولم وباريس وروما وبوخارست ووارسو وموسكو والقاهرة والرباط وطابا وشرم الشيخ ولندن واشبيلية وجنيف والبحر الميت، يدعو للاسى، انه مع ذلك كله، هناك من يتنطع بالقول إن هدف هذه الحوارات كان اقناع الجميع، الرأي العام الاسرائيلي بخاصة، بوجود شريك تفاوضي فلسطيني، هل تحتاج هذه الغاية الى كل هذا الجهد والوقت... ومسلسل التنازلات؟!

أدعى للمنطق والإنصاف أن يكف المحاورون الفلسطينيون عن لوم الذات، فالمشكلة لم تكن سابقاً وليست الآن عندهم بل هي عند شركائهم الاسرائيليين، هؤلاء المراوغين الذين لم يبذلوا جهداً حقيقياً في مخاطبة قواعدهم الشعبية، ولا حاولوا أن يستحثوها جدياً وبالقوة اللازمة، كي تهبط الى الشوارع ومواقع التأثير لتعلن براءتها من الدماء الفلسطينية، ولا سيما في لحظات ومناسبات مأسوية (كجريمة اجتياح جنين وكنيسة المهد عام 2002 أو ترميم مخيم رفح 2003 أو أخيراً محاولة تقويض الاقصى) هل هو كثير أو مستحيل الآن على بيلين المحاور المزمن وزملائه من «دعاة السلام» الاسرائيليين، قيادة عشرات الآلاف ممن يزعمون تمثيلهم لعقود الى حيث ورشات بناء سور الاستيطان العنصري، احتجاجاً عليه واستصراخاً لإيقاف زحفه على أراضي الدولة التي ينادون بها بجوار اسرائيل؟

لطالما مارست الحكومات الاسرائيلية المتوالية على مدار حقبة الحوار الفلسطيني - الاسرائيلي ونتائجه الرسمية وغير الرسمية حروبها على الفلسطينيين، محاورين وممانعين، فيما أبى هؤلاء الدعاة الا السكوت. والأنكى أنهم في مساجلاتهم وحواراتهم وثرثراتهم المملة، غالباً ما اتخذوا من نتائج هذه الحروب وسيلة لليّ الأذرع وحقائق يبنون عليها طروحاتهم. بمعنى أن كل أمر واقع تفرضه الحكومات الاسرائيلية، على صعيد الاستيطان أو تهويد القدس مثلاً، يمسي عندهم توطئة لموقف حواري جديد، فالتوسع الاستيطاني يمكن التغلب عليه بمبادلة الأراضي، وتهويد القدس نقطة إجماع اسرائيلي لا يسعهم معاكستها وإلا فقدوا صدقيتهم الوطنية (صدقيتهم السلامية أمر عرضي وغير مهم في هذه الحالة!)، وقرار اغتيال الفلسطينيين بأيدي الجيش والمستوطنين لا يستحق ثورة منهم ضد المحكمة العليا وحراستها للقتل خارج القانون والمحاكمة!.. هم عموماً، استخدموا مواسم الحوار للمجادلة عن سياسات دولتهم ومواقفها، وتبييض صفحة الاحتلال وإظهار وجه ليبرالي له، واستطلاع ردود الأفعال الفلسطينية وتنفيسها.

لقد مارس المحاورون الاسرائيليون دوراً مذهلاً في تطويع إرادة شركائهم الفلسطينيين، ويمكن تصوير هذا الدور كما يلي: بذريعة المرونة وثمن السلام، يحصل المحاورون الاسرائيليون غير الرسميين على تنازلات من الشركاء الفلسطينيين الذين هم من أصحاب المقامات الرسمية. وفي جولات التفاوض الرسمية ينطلق المفاوض الاسرائيلي من السقف المنخفض الذي انتهى إليه هؤلاء الأخيرون متوشحين العباءات غير الرسمية، مطالباً إياهم بالمزيد من المرونة (التنازلات). يفعل المفاوض الاسرائيلي ذلك وهو يهجس بأنه اذا كان «دعاة السلام والوئام» حصلوا على مواقف تنازلية بعينها، فكيف الحال بصقور اسرائيل وغربانها، ألا يستحقون الطمع فيما هو أكثر!!

وعليه، كان اضطلاع أنصار نظرية اختراق الداخل الاسرائيلي بدور المحاور والمفاوض عيباً جسيماً في تطبيق هذه النظرية. وهناك عيب آخر هو عدم الالتزام بقرار العام 1977، الذي شرَّع الاتصالات مع القوى اليهودية «المناهضة ضد الصهيونية» في حين جرت هذه الاتصالات والحوارات والمناظرات ثم المفاوضات وتوقيع التفاهمات والاتفاقات مع قوى صهيونية قحة. وبسبب التزامها الفكري والحركي، ما كان لهذه القوى أن تغادر خنادق الإجماع الصهيوني، وللسبب ذاته، يصح الاعتقاد بأنها سعت الى العمل بالفكرة الفلسطينية ذاتها عن التلاعب بالداخل الاسرائيلي ولكن بشكل معكوس، ولعلها كانت أكثر حنكة وأسعد حظاً في ذلك.


"الحياة"

التعليقات