31/10/2010 - 11:02

حين يكون المثقف مثالاً للالتزام../ د.عبدالإله بلقزيز

حين يكون المثقف مثالاً للالتزام../ د.عبدالإله بلقزيز
قدم جوزف سماحة مثالاً استثنائياً لمعنى المثقف الملتزم بقضايا المجتمع والأمة والإنسان. دفعه التزامه أحياناً حرماناً وتشريداً ووضع مصيره الإنساني الشخصي أمام المجهول. ولقد كان هناك من ينتظر ضائقته حتى يجرب أن يستثمر فيها عساه يستدرج جوزف إلى قول ما لا يريد وما لم يرد قوله مرة في حياته. كان الإغراء المادي كبيراً، وكان جوزف كعادته أكبر من أي إغراء (ما خلا إغراء الجمال). كان زاهداً، وكان يكفيه ثراؤه الفكري والإنساني والأخلاقي ليعوضه عن ثراء مادي لم يسع إليه يوماً وهو الذي كان يمكنه بقلمه وقامته وسمعته أن يكون من أكثر أثرياء الكتّاب في البلاد العربية والعالم. نقاوته رصيده، وهو الرصيد الأضخم الذي رفض أن يسحب منه يوماً في أحلك لحظات الفاقة والعوز، بل سعى في تعظيمه بدأب ومثابرة كبيرين.

تغير أكثر رفاقه وأصدقائه من أبناء جيله والمدرسة الفكرية التي انتمى إليها، وخاصة بعد نكبة المشروع القومي والاشتراكي والثورة الفلسطينية، وبدلوا تبديلا، لكن جوزف ما بدل أو تراجع عن خط أحمر رسمه لنفسه مذ بدأ مناضلاً في “منظمة العمل الشيوعي” (1972) إلى آخر سطر سطره في زاويته “خط أحمر” في جريدة “الأخبار” قبل أيام معدودات من رحيله المفاجئ. داهمته وجيله واللبنانيين جميعاً حرب أهلية ملعونة أطلقت عفريت الطائفية في النصوص والنفوس (1975 1989)، فلم تحرك فيه غريزة طائفية بل رفعت في عقله ووجدانه منسوب العداء للطائفية. وهو في جملة قلة قليلة من اللبنانيين لا تكاد تذكر (أنت) أنه ينتمي إلى طائفة. الشيعي يحسبه شيعياً من فرط دفاعه عن المقاومة و”حزب الله”. والسني يحسبه سنّياً من فرط دفاعه عن التراث السياسي الناصري في أوساط سنة لبنان وولائهم التقليدي للعروبة. والدرزي يحسبه درزياً لتمسكه بتراث الزعيم الشهيد كمال جنبلاط. والماروني يحسبه مارونياً لحرصه على التذكير بتراث الموارنة الثقافي في خدمة الفكرة العربية منذ العهدين العثماني والفرنسي أو لدفاعه عن مواقف الزعيم الماروني ميشيل عون. والأرثوذكسي يحسبه أرثوذكسياً من فرط تشديده على تمسك أبناء هذه الطائفة بشرقيتهم وعروبتهم. أما أبناء طائفة الروم الكاثوليك التي أنجبت مثقفين ورجال دين كباراً مثل غسان سلامة أو مطران “لاهوت التحرير” غريغوار حداد، فيفاخرون بأن جوزف سماحة ابن طائفتهم. كان مع أبناء هذه الطوائف حين يلتزمون الموقع الوطني والقومي، وكان شديد النقد لزعمائها حين ينكفئون من هذين الموقعين، إلى أقفاصهم الطائفية يحكمون الإغلاق على أنفسهم وجمهورهم فيها.

وداهمته وجيله نكبة احتلال لبنان في العامين 1978 و،1982 فما أصابه يأس ما دامت في البلد إرادة المقاومة. وحين أجبرت المقاومة الفلسطينية على مغادرة لبنان في صيف عام ،1982 تحول جوزف إلى جانب محسن إبراهيم والشهيد جورج حاوي وفواز طرابلسي وآخرين إلى لسان من ألسنة “جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية” (مثلما كان لساناً من ألسنة المقاومة الفلسطينية في لبنان 1969 1982). وحين قامت “المقاومة الإسلامية” وتعاظمت بعد انفراط تجربة “جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية” في أعقاب تحرير صيدا من الاحتلال كاد يكون الوحيد من مثقفي اليسار الذي بلع تحفظاته وخشيته من تطييف المقاومة، فأصر على النظر إليها في رحاب الوطن لا في حدود الطائفة، وظل قلماً من أقلامها قبل أن يبدأ غيره من بقايا اليسار في اكتشافها بعد صمودها في حرب “عناقيد الغضب” (1996) ونجاحها في تحرير جنوب لبنان (25 مايو/ أيار 2000).

وداهمته وجيله نكبة الثورة الفلسطينية في لبنان بعد الاجتياح “الإسرائيلي” وحصار بيروت (1982) وخروج مقاتليها وقادتها ومؤسساتها وتوزعهم في المنافي، والمتاهات السياسية التي ذهبت في أنفاقها وصولاً إلى “اتفاق أوسلو” المشؤوم. فلم يستسلم مثلما فعل آخرون. ظل وفياً لفلسطين وشعبها فدافع عن المخيمات التي تعرضت للذبح في لبنان في الأعوام 1982 و1985 و،1986 ورأى في انتفاضة 1987 في الأرض المحتلة مدخلاً نحو تجديد حركة التحرر الوطني الفلسطيني، ورفض تسوية مدريد (1991) ومفاوضات واشنطن (1992 1993). وفيما كان رفاق قدامى له يهاجمون ياسر عرفات ويمدحون تسوية “أوسلو” فعل عكس ما يفعلون هاجم “أوسلو” وظل مدافعاً عن ياسر عرفات حتى استشهاده.

وداهمته وجيله مأساة انفراط “المعسكر الاشتراكي” وانهيار الاتحاد السوفييتي. هلل غيره من بعض اليساريين القدامى للحدث، فوضع عليه قسم منهم حجر التوبة الأساس الذي سيقيم عليه في ما بعد عمارة العودة السريعة إلى ضفاف الليبرالية قانعاً من “الثورة” بالإياب. أما جوزف، فقدّ الصخر بأنامله مستميتاً في الدفاع عن الاشتراكية كأفق وحيد مفتوح من أجل استئصال الاستغلال وبسط العدالة الاجتماعية في الأرض مشتداً في النكير على “الليبرالية” (الاسم الملطف للرأسمالية الوحشية) وعلى جرائمها في حق خبز الفقراء والكادحين وأمنهم وأمن أوطانهم. ولم ينس للسوفييت على ما كان لديه باستمرار من ملاحظات نقدية على نظامهم السياسي وقمعهم للحريات مناصرتهم لشعوب العالم الثالث وتأييدهم لقضايانا وحقوقنا العربية، ولا تجاهل ما دفعته منطقتنا من أثمان فادحة لانهيار كيانهم وخروجه من المسرح الدولي.

ثم داهمته وجيله مأساة تدمير العراق في حرب العام 1991 وغزوه واحتلاله في حرب العام 2003. هلل بعض اليسار ل “سقوط القومية” ول “سقوط الطاغية”، وأطلقوا ألسنتهم للتبشير ب “النظام العالمي الجديد” وب “نشر الديمقراطية” أما هو، فرأى في “النازلة” نكبة للأمة لا تعادل في الرزء والفداحة إلا احتلال فلسطين واغتصابها في عام 1948. كان يدرك أن سقوط العراق معبر نحو صعود متجدد للمشروع الصهيوني في الوطن العربي، وأن إسقاط الدولة في العراق مدخل إلى الطائفية والفتنة والحرب الأهلية، وأن “الديمقراطية” المحمولة على دبابات الاحتلال هي الاسم المستعار للتفتيت الكولونيالي الجديد، فما ادخر وسعاً أو وفر جهداً لفضح الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في عهد المحافظين الجدد تجاه العراق والمنطقة: التفكيك والتفتيت وإعادة التركيب على مقتضى هندسة انثروبو سياسية تضع الكيانات على مقاس العصبيات!

غيَّر غيره وبدَّل، أما هو فرابط عند ثغور الثوابت (الوطن، العروبة، فلسطين، الحرية، العدالة الاجتماعية، الأممية المناهضة للامبريالية والصهيونية والعنصرية، المواطنة والنظام الديمقراطي المدني...) يحرسها من التزوير والعبث الأيديولوجي المحمول على حوامل براقة خادعة أحياناً أو فاضحة مفضوحة في الأكثر من الأحيان. لم يكن درغمائياً متحجراً يأبى المراجعة والنقد الذاتي. كان سيد من فتحوا الملفات والمواقف كافة أمام المراجعة والنقد والتصحيح والتصويب، ولكن من دون انجرار إلى جلد الذات (المازوشية) كما فعل غيره، ومن دون إبداء ندامة على ماض قومي أو يساري كما يفعلون. المراجعة عنده ليست تحللاً من مبدأ، بل مزيد من التزامه بعد تطوير وإغناء في النظرة إليه. المراجعة أن تجدد الصحيح كي يصبح أصح، أن تحيطه بشبكة أمان من الوضوح الفكري تحميه من غائلة القراصنة والتائبين والمحبطين. المراجعة (عنده) أن لا ترتّل المبادئ ترتيلاً وتحولها إلى تميمة أيديولوجية تتعوذ بها من شيطان المتغير والمتحول من الواقعات والمعطيات، وإنما أن تزج بالتفكير والنقد في الذي يتغير ويتحول كي تسدد حركة الثابت (الثوابت المبدئية) وتؤقلمه مع المتغير.. حتى يستمر مبدأ ثابتاً.

هكذا كان جوزف سماحة مدرسة في الالتزام عزَّت لها الأشباه والنظائر. كان حزباً لوحده، أكبر من حزب وأبعد تأثيراً. كل حزب يؤثر في جمهوره الذي قد يضيق أو يتسع. أما جوزف، فأثره في الأحزاب كافة، يخترقها بخطابه من دون استئذان ويسرق انتباهها إلى شيء لا تقوله ولا تقوى على قوله: مبنى ومعنى. ووحدها لغة جوزف ومفرداته كانت تستطيع بعد صوت فيروز أن تخترق البيئات والمؤسسات والأحزاب والطوائف، فتجمع اللبنانيين على بعض المعنى المشترك الضائع في انقسامهم.

"الخليج"

التعليقات