31/10/2010 - 11:02

ذاكرة الأميركيين بين عُقدتي فيتنام والعراق../ محمد خالد الازعر*

ذاكرة الأميركيين بين عُقدتي فيتنام والعراق../ محمد خالد الازعر*
حين ساهمت الولايات المتحدة بالقسط الأعظم من الجهد السياسي والعسكري في تحرير الكويت عام 1991، قيل إن إدارة الرئيس جورج بوش الاب نجحت أيضاً في تحقيق هدف رديف آخر ثمين هو تحرير الاميركيين جزئياً من عقدة الهزيمة الفيتنامية، وفور ان غزت القوات الاميركية العراق واحتلت بغداد بعد أن قوضت نظام صدام حسين عام 2003، قيل إن إدارة جورج بوش الابن استأصلت هذه العقدة من جذورها وأودعتها كلياً خارج الوجدان الاميركي.

الآن، وبمناسبة توالي تجليات الورطة العراقية، وفي طليعتها بعض المشاهد التي سبق لكبار السن من الاميركيين ان عاينوها حرفياً إبان حرب فيتنام، يحق الاعتقاد في تسرع اصحاب تلك الاقوال وخطأ توقعاتهم على طول الخط، ذلك أن كل الجدل الموصول على مدار الساعة والمنداح في تضاعيف الاوساط الاميركية بلا استثناء، بخصوص الحالة المتردية في العراق وتوابعها على الاميركيين خلف أعالي البحار يبدو معطوفاً بصفة جوهرية على التجربة الفيتنامية، واللافت أن لعامة الاميركيين خبرات كثيرة مع تبعات منازلات عسكرية كبيرة ومحدودة خاضتها بلادهم في عوالم الآخرين، فليس جديداً عليهم القلق من استقبال بعض ابنائهم، جنودهم، وقد عادوا جثثاً في صناديق ملفوفة بعلم الوطن، ولا احتداد التناظر بينهم بسبب الاختلاف حول جدوى الانتشار أو العزلة عالمياً، ومع ذلك، فإن الرأي العام الاميركي لا يكاد يغادر مربع القياس على هذه التجربة بالذات، متخذاً منها ميزاناً شديد الحساسية لمدى صحة او اخفاق سياسات النخبة القيادية على الصعيد الخارجي.

وعليه، يسفه الاميركيون كل من ينكأ لديهم مشاعر ومرارات ايام الحرب الفيتنامية بوقائعها، ونتائجها السوداء، فيما يثيبون من يفعل العكس. ولنا أن نعتبر هذه القناعة دليلاً على تمييزهم بين حربي بوش الاب والابن، فلقد انتشلهم الاول نسبياً من وطأة هذه المشاعر والاحاسيس، بينما أعاد الثاني انغماسهم فيها وارتدادها اليهم بكل قسوة بل ولعله بصدد انشاء عقدة مضافة لديهم تتعلق بالعراق، سيتعين عليهم معايشتها والاكتواء بذكرياتها لاجل غير معلوم.

كأن فشل بوش الابن في العراق انتكس بالذاكرة الاميركية ثلاثين عاماً الى الوراء، مجدداً بين يدي احاديثهم ومناظراتهم جراحاً كان بوش الاب اوشك على مداواتها. هل يعني ذلك ان انتصاراً محدوداً واحداً لا يكفي لمحو آثار هزيمة كبيرة، وان الهزائم تستدعي ذكريات بعضها البعض في العقول الجمعية للامم؟ ربما كان الامر كذلك بالفعل.

نجادل عموماً بأن مجرد استحضار التجربة الفيتنامية وهواجسها بمناسبة التخبط الاميركي في المستنقع العراقي، هو مؤشر قوي على احتمال تحول الفشل في العراق الى هزيمة ثقيلة، والأهم أن تداعيات مثل هذا الاحتمال ستكون أقسى بكثير على العقل السياسي والشعبي الاميركي من تلك التي تمخضت عنها تجربة فيتنام.

لنتأمل هذه القناعة في إطار الملاحظات التالية:

1- كان بوسع النخب الحاكمة الاميركية وبطانتها السياسية والايديولوجية والعسكرية تبرير حربها على فيتنام باحالتها الى ظاهرة الصراع الدولي الاشمل مع المعسكر الاشتراكي، ولأن ذلك الصراع كان ملموساً وله تجلياته المنظورة في ساحات كثيرة اخرى فقد بدا هذا التبرير مقبولاً لدى قطاعات اميركية معينة، واستهلك مناهضو الحرب وقتاً وجهداً لتأكيد سخافته، لا سيما من الناحيتين الاخلاقية والقانونية. اين هذه المعطيات من حرب شنت على العراق لأسباب ومزاعم، تغيرت في وقت قصير من نزع أسلحة الدمار الشامل الى محاربة الارهاب الى نشر الديموقراطية وثبت تهافتها وبهتانها تباعاً؟ لم تكن الحرب على فيتنام عادلة، لكنها وقعت في بيئة مواتية أكثر للادارات التي اضطلعت بها في واشنطن وسعت في تسويقها للرأي العام الداخلي والخارجي وهذا شرط افتقد تماماً في المثل العراقي.

2- من شأن غياب الاسباب المعقولة او التي يمكن تفهمها ولو في حدود دنيا، اشتداد وطأة اي خسائر يبذلها الاميركيون بالمعنيين المادي والمعنوي (ولو في حدود دنيا ايضاً) في المعمعة العراقية ولقد جأر الاميركيون بالشكوى بالفعل جراء هذه الخسائر، لا سيما ما خص منها اعداد القتلى والجرحى، رغم أن الارقام هنا اقل بكثير من تلك التي عرفوها في الحرب الفيتنامية فالشعوب يسعها التضحية والعطاء ولكن ليس في حروب أو غزوات يصعب الدفاع عن حيثياتها ومغزاها، تغامر بها حكومات وقيادات مشكوك في بصيرتها ومواهبها السياسية والعسكرية.

3- في سياق المقارنة الاجبارية بين غزوتي فيتنام والعراق، سيتذكر الاميركيون ان بلادهم كانت بصدد طلائع فيتنامية مقاتلة تمدها جبهة من الدول القوية التي يُعتد بخصومتها ونديتها وعلى رأسها الاتحاد السوفياتي ومن كانوا يوالونه زمن الحرب الباردة، هذا في حين تنفرد الآلة العسكرية الاميركية الجبارة في العراق بمطاردة فلول وجماعات محدودة العدد والعتاد مقطوعة المدد الخارجي تقريباً، ولا يخلو محيطها الداخلي من مناوئين وخصوم، وفي غمرة هذين المشهدين لا يستوي معنى الهزيمة او الفشل، هناك فرق كبير بين ان يُهزم العملاق الاميركي من عدو قوي وبين ان يتراجع او يفشل امام عدو لا يكاد يتبين.

4- خسرت الولايات المتحدة معركتها في فيتنام، لكنها خرجت منتصرة في حربها العالمية ضد القطب السوفياتي ومعسكره، وكان في ذلك بعض العزاء لها ولحلفائها لكن فشلها (او هزيمتها) في العراق سينطوي على أصداء مؤلمة لمكانتها شرق اوسطيا، وبالتداعي والاستطراد عالمياً، هذا امر يحتاج لبحث مستفيض موجزه ان فشلاً كهذا سيقوض دعائم النزعة الامبراطورية التي ما انفكت الادارة الاميركية تهجس بها وتعمل لأجلها من ناحية، كما انه سيؤدي من ناحية اخرى الى تجرؤ قوى اقليمية ودولية على تحدي فكرة الاحادية القطبية الاميركية بما يفتح آفاقاً لنظام دولي جديد لا تكون لواشنطن فيه الكلمة الاخيرة تجاه قضاياه وسيرورة تفاعلاته، نظام يستعيد فيه العالم روعه الاخلاقي والقانوني الذي انتهك في عهد هذه الاحادية.

5- بعد هزيمة فيتنام لم تتغير صورة الاصطفافات الدولية ولا تحولت انماط العلاقة بين القوى والكتل الكبيرة في النظام الدولي، ولا تأثرت كثيراً القناعات الفكرية والسياسية على صعيد النظم الداخلية للمشاركين في هذه الكتل، هذا لا ينفي ان حركات التحرر اكتسبت مزيداً من الثقة، غير المشهد الدولي العام، حاور في إطار الثبات معسكراً رأسمالياً وآخر اشتراكياً ومجموعة عالم ثالث وعدم انحياز ونعتقد ان خيبة وفشل المشروع الاميركي في العراق لن يغيرا فقط المشهد الدولي لما بعد الحرب الباردة، وإنما سيهزان ايضاً بعض أسس وقواعد التعامل داخل النظام الاميركي وكذلك الحال بالنسبة الى الدول التي التحقت بهذا المشروع. ونحسب ان مظاهر هذا الاهتزاز بدأت في الظهور منذ توالي انسحاب المشاركين في حرب العراق، وسقوط احزابهم في المنافسات الداخلية وانهيار شعبية الرئيس بوش الابن ومحازبيه من المحافظين الجدد في الداخل الاميركي والغضب الشعبي، الاميركي بالذات، من انتهاك كثير من الثوابت القيمية والحقوقية للديموقراطية الاميركية بفعل مزاعم مختلقة وكاذبة.

والحال أن هذه العواقب ونحوها ستتجلى أكثر كلما طال أمد الغرق الاميركي في العراق من دون ان يعثر صانع القرار على مخارج مشرفة، وفي تقديرنا ان مساعدة الادارة الاميركية في سياق البحث عن هذه المخارج قد يسهم في تنفيس عُصاب الاستشراس والتوحش الذي ربما يدفع هذه الادارة الى حلول هروبية للامام، ومن ثم يقودها الى مغامرات اضافية (مع ايران مثلا) وذلك بحثاً عن انتصار فارق يزيل عقدتي فيتنام والعراق معاً... المقامرون يفعلون ذلك وفي واشنطن الكثير منهم.

"الحياة"

التعليقات