30/04/2011 - 11:43

الربيع العربي المتعثر بغطاء الأمن القومي../ هيفاء زنكنة

توقع البعض، لأسباب كثيرة من بينها طول زمن الترقب والإحباط، أن تجر قطع دومينو التغيير في تونس ومصر معها العديد من أنظمة الحكم العربية التي جثمت على صدور شعوبها، كالتوابيت، على مدى عقود

الربيع العربي المتعثر بغطاء الأمن القومي../ هيفاء زنكنة

توقع البعض، لأسباب كثيرة من بينها طول زمن الترقب والإحباط، أن تجر قطع دومينو التغيير في تونس ومصر معها العديد من أنظمة الحكم العربية التي جثمت على صدور شعوبها، كالتوابيت، على مدى عقود. غير أن هذه الأنظمة التي بدا بعضها في بداية الثورات وكأنه في غرفة العناية المركزة، كما في ليبيا واليمن، تمكن في اللحظات الأخيرة من استعادة أنفاسه وتسليط سيفه، من جديد، على رقاب الناس.

وكان لفعل لملمة الأنظمة المهددة بالسقوط لأسلحة دفاعها الأمنية والعسكرية والإعلامية، وتكاتفها فيما بينها (كما في حماية درع الجزيرة للنظام البحريني) أثر كبير على إيقاف الانتشار السريع (مؤقتا) لبذور ما أطلق عليه اسم "الربيع العربي" الذي سبقه وضع حد لربيع مبكر، في المنطقة، وهو الربيع الإيراني الذي تمكن النظام من تحويله (بحجة حماية العقيدة والأمن القومي)، في 2009، الى خريف تساقطت فيه حياة الكثيرين من المعارضين السياسيين وإسكات أصوات كتاب ومثقفين، أبرزهم المخرج السينمائي المعروف جعفر بناهي، الذي حكم عليه بالسجن مدة ست سنوات ومنعه من العمل السينمائي ومغادرة البلد مدة 20 عاما.

وها نحن نشهد، في الأسابيع الأخيرة، تنامي سطوة نظام آخر على أبناء شعبه وبحجج مختلفة لا تختلف كثيرا عما سمعناه من قبل أنظمة سقطت ونسمعه من أنظمة اخرى تحتمي خلف زجاج مضاد لغضب شعوبها. إن قيام النظام السوري بقمع أصوات المتظاهرين (الذين أصابوه بالذهول لاعتقاده أن التظاهرات يجب أن تنظم رسميا)، وإطلاقه النار عليهم وقتل المئات بحجج، تتراوح ما بين "حماية الأمن القومي" و"منع التدخل الخارجي" و"استهداف الوطن" و"المشاريع التدميرية" التي تنفذها "عناصر مندسة"، تجعله، مهما حاول المدافعون عنه، يقف في صف واحد مع بقية الأنظمة القمعية في المنطقة التي سقط بعضها (تونس ومصر) ويسير بعضها الآخر في مسار التغيير (ليبيا)، بينما يستقوي بعضها الآخر بقوات الاحتلال ومرتزقته كما في العراق.

وكان بإمكان النظام السوري، لو أراد وامتلك الذهنية المنفتحة على تعددية الأصوات وتمثيل مصالح أبناء الشعب والوطن، حقا، وليس مصالح الحزب الوراثي الواحد، أن يحقق الإصلاح الذي طالب به المتظاهرون، بداية، لئلا تغسل دماء أبناء الشعب شوارع وساحات البلد.

غير أن من الواضح أن النظام السوري، الذي أدمن الاعتماد على الفساد وأجهزة المخابرات، قد ارتفعت لديه حمى الفيروس الجامع ما بين حكام المنطقة، الذي يدفعهم إلى اتباع سلوك أقرب ما يكون إلى سلوك المصاب بالسعار تجاه شعوبهم.

وهو ما يميزهم عن حكام الغرب (أمريكا خاصة) الذين يحولون سعارهم ضد شعوب أخرى وبمسميات "حضارية" كالحرب على الإرهاب أو نشر "الديمقراطية" مثلا، كما في غزو واحتلال العراق وافغانستان، واحتضانهم الكيان الصهيوني الإرهاب والقمع ضد الشعب الفلسطيني. لقد أصبح الهاجس الأمني لدى حكام المنطقة، حبلا يلتف حول أعناق أبناء الشعب، يشده الحاكم أو يرخيه حسبما يراه مناسبا، موحيا بأنه (وحزبه أو عائلته الحاكمة)، هو الوطني الوحيد أما بقية أبناء الشعب، خاصة إذا ما شقوا عصا الطاعة، فإنهم مشروع خيانة أو عمالة للأجنبي. ليعكس الحاكم، في هذه الحالة، صورة خنوعه هو في مرآة الأجنبي.

وكأن الهاجس الأمني والتهديد الخارجي ليس كافيا لخنق شعوب المنطقة، فتمت إضافة فيروس الطائفية بنوعيها السني والشيعي لتشويه هوية ومطالب المتظاهرين واستخدام الغطاء الطائفي لترويع الناس، حسب الضرورة. ففي حالة ليبيا التي لم نسمع سابقا بسجلها الطائفي، وجد العقيد القذافي أن من المناسب اتهام المتظاهرين (إضافة إلى تهم عديدة أخرى)، بأنهم من القاعدة الإرهابية السنية. وفي سورية، اتهم النظام ذو الحزب الواحد المتفاخر بعلمانيته "جماعات التكفير السنية"، وبعد أن قتل ما يزيد على 450 متظاهرا على أيدي رجال المخابرات. واتخذت حكومة الاحتلال العراقية اتخذت موقفا مساندا للنظام السوري ضد المتظاهرين، خشية "التدخل السلفي" الذي سيؤثر بدوره على العراق، إلا أنها أيدت المتظاهرين في البحرين ضد "الأقلية السنية الحاكمة"، وقامت، في ازدواجية مواقف متميزة باستحقاق، برش المتظاهرين من أبناء شعبها بالرصاص الحي واعتقلت وعذبت المئات منهم.

وفي اليمن حذر الرئيس علي عبد الله صالح بأن "تنظيم القاعدة يتحرك داخل معسكرات الجيش التي خرجت على الشرعية وفي أماكن الاعتصامات". وفي البحرين، ألقى النظام باللوم على عاتق إيران ليتم وصف المتظاهرين المطالبين بتوسيع نطاق الحريات بأنهم "معارضة شيعية".

وأكدت منظمة العفو الدولية أن اكثر من 500 شخص، اعتقلوا خلال الأسابيع الأخيرة في البحرين مشيرة إلى أن بعض المعتقلين عذبوا أو تعرضوا إلى سوء المعاملة بعد اعتقالهم. كما تمت إحالة 404 معتقلين إلى محاكم عسكرية. وقد أصدرت المحكمة، يوم الخميس الماضي، حكما بالإعدام على أربعة اتهموا بقتل شرطيين، وحكمت على ثلاثة آخرين بالسجن مدى الحياة.

إن ما يتعامى عنه الحكام هو أن غالبية المتظاهرين في البلاد العربية لم يتظاهروا للحصول على مكاسب طائفية أو عرقية. إذ لم يحدث، مثلا، أن رفع المتظاهرون العراقيون المعتصمون في مختلف ساحات المدن الممتدة من السليمانية إلى الموصل والرمادي وبغداد والكوت والبصرة، شعارا طائفيا واحدا على الرغم من مليارات الدولارات التي صرفتها حكومة الاحتلال الأمريكية ومستخدميها المحليين، لتقسيم العراق طائفيا وعرقيا.

وكان الهدوء الذي ساد مصر أثناء ثورة شعبها حين اختفى مليون ونصف المليون من رجال الشرطة والأمن من الشوارع ، مثالا آخر، على أن الأجهزة الأمنية، وليس الشعوب، هي مصدر الفتنة بأنواعها، وتستخدم الترويع من الاقتتال الديني غطاء لتسلطها.

إن ما تريده الشعوب العربية ويقابله الحكام بالقمع والقتل، بسيط بساطة أحلام أيام المواطنة والكرامة والعدالة الإجتماعية التي كانت من مسلمات مرحلة التحرر الوطني، في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، مع إدراكنا بأن الثورات والانتفاضات، وإن تجمعها عوامل مشتركة، لا يمكن استنساخها. إن التغيير الذي ناضلت الشعوب من أجله، حينئذ، لا يزال مطلبا ساري المفعول وهو الذي نسمعه في ساحات التحرير يوميا، الآن.

ومفاده أن يحكم الشعب نفسه بنفسه (لا أن يستبدل المستعمر بحاكم مستبد محلي بالنيابة)، وأن يمتلك مصادر ثرواته ليضع حدا للاستغلال الاقتصادي، أن يحقق العدالة الاجتماعية وأن يستعيد الشعب مدنه بشوارعها وساحاتها العامة، ليمارس حريته في التعبير عن رأيه بمسيراته وتظاهراته المنبعثة من صميم حاجاته ومطالبه هو وليست المنظمة بناء على أوامر حزب واحد أو حاكم أوحد.

إن ما لا يريد الحكام الإصغاء إليه هو أن الشعوب حريصة كل الحرص على سلامة بلدانها وأنها ضد التدخل الأجنبي بأنواعه وأنها متعبة من الاستغلال والفساد وأن استمرار قمعها لن يؤدي إلى حماية الوطن وسلامته بل سينخر أساسه ويجعله عرضة للسقوط والانهيار.

إن احترام حرية وكرامة وحقوق المواطن هو الضمانة الوحيدة لحماية الوطن وأمنه واستقراره. أما التسويغات التي تطرحها الأنظمة المستبدة بدعوى خصوصية وضعها، فذلك طمس لحقيقة ما يريده الشعب، وليس هناك حياد تجاه الموقف من الحقيقة.

ولم يبق أمام المتشبثين بالسلطة، رغما عن إرادة شعوبهم، غير خيارين فإما التخلي والرحيل لكي يجنبوا أنفسهم وشعوبهم المزيد من خسارة الأرواح أو الإصلاح السريع احتراما للمواطنين، والالتزام بأوليات الوحدة الوطنية وتحقيق العدالة، وها نحن نرى بدايات ذلك في فلسطين، في مصالحة قيادات فتح وحماس، وهي جزء من هذا الربيع العربي المتعثر.
"القدس العربي"
 

التعليقات