كلما يأتي شهر أيار ويحتفل الإسرائيليون بعيد استقلالهم ويندب الفلسطينيون نكبتهم، يعيد تحقيق صحفي في جريدة "دافار" بعد احتلال "الهاغناه" للطنطورة إلى ذاكرتي نكبة الحصان المسكين هناك، فقد عثرت على تحقيق صحفيّ لشحوري، أحد مراسلي "دافار" خلال دراسة للخطاب الصحفي العبري قبل سنوات.
يندر أن يجد الدارس مثيلا له على صفحات الصحافة العبرية خلال 49 / 1948 نظرًا لما يلقي التحقيق الصحفي من أضواء على ما جرى في ذلك الحين، ورغم الضباب الذي يحجب دقائق ما حدث. لكنّ الضباب لا يخلو من أهميّة لما يطرحه من التساؤلات والدلالات، وبالتالي يستطيع الناظر تصوّر الواقع العيني لجذور دوافع وأسباب الاحتفالات والنكبة في آن واحد رغم المفارقة الهائلة بينهما.
فقد جرى "تحرير" الطنطورة – بلغة الخطاب العبري آنذاك في 1948/ 5/21 وثمّ "تطهيرها" من الفلسطينيين العرب. والجدير بالذكر أنّ "الهاغناه" كانت قد أحكمت سيطرتها على جميع المنطقة المجاورة لها وأصبحت الطنطورة معزولة تمامًا، بحيث لم تشكّل خطرًا عسكريًّا يستحقّ الذكر لقوات "الهاغناه". وقد استرعى طرد سكانها أنظار الدارسين وشكّلت موضوعًا لأطروحة الماجستير لثيودور كاتس، وأثارت أطروحته ضجّة واسعة في الرأي العام الإسرائيلي وصلت حدّ تقديم دعوى قضائية ضده.
لا تهمني هذه الدراسات في هذا السياق المحدود، لكن عرض شحوري الصحفي، خاصة إشارته إلى ذلك الحصان المسكين، سرعان ما يقفز إلى ذاكرتي من حيث لا أدري لكثرة التساؤلات، حقيقة أو متخيلة، التي تثيرها.
يذكر المراسل أنّه استقلّ سيارة برفقة رجل "هخشرات هيشوف"- كبرى شركات الأراضي لإقامة مستوطنات يهودية- وآخر من لجنة مراقبة أملاك "العدو" دون أن يحدّد من هو " العدو" – سكان الطنطورة؟- إلى الطنطورة بعد حوالي عشرة أيام من احتلالها.
تعيد ملاحظات رجل لجنة المراقبة وممثّل شركة الاستيطان اندفاع المستوطنين البيض نحو "الغرب الأمريكي" واقتلاع وطرد الهنود الحمر إلى الذاكرة. فقد لاحظ شحوري – مراسل دافار – شعور رجل مراقبة الأملاك العدو "الملتهب" و "انفعاله" العميق من وفرة محصول القمح مشيرًا إلى أن محصول "كلّ دونم" سيصل إلى " مائة وخمسين كيلوغراما"، "لكنّ شدّة حماس رجل شركة الاستيطان تجاوزت الغنائم المباشرة. فقد قدّر مساحة سهول الطنطورة بخمسة عشر ألف دونم. واكتسبت إمكانيات سهول الطنطورة لاستيعاب المستوطنين اليهود أولويّة خاصة لوكيل شركة الاستيطان، ويبدو أن "انفعاله" لم يقلّ حدّة عن زميله. فقد أخذ يجري "حسابات" لعدد القرى الجماعية التي يمكن إقامتها على أراضي الطنطورة "الخصبة".
يستعرض التقرير جولة شحوري في القرية وما وجده "من كلّ ما تشتهيه النفس" من الموادّ التموينيّة على الرفوف في المنازل المختلفة وغير ذلك من أثاث وأكوام الملابس التي تركها أهلها. ويبدو أنّه لم يكن لديهم متّسعًا من الزمن لجمع حاجاتهم الضروريّة. كذلك لم يستطيعوا نقل المواشي معهم واضطروا إلى تركها. فقد رأى شحوري " الشباب " – جنود "الهاغناه" على الأرجح- منشغلين بجمع المواشي في مكان خاص. ومما يؤكّد أنّ جنود الهغناه أجبروا الأهالي على ترك بيوتهم، ما رآهم شحوري من "جثامين عرب" ملقاة بين "الشجيرات والأشواك" خلال عودته من الطنطورة.
والواضح أنّ الجثامين المبعثرة بين الشجيرات والأشواك لم تثر اهتماما خاصا عند شحوري، إذ يبدو أنّ المشهد لا يستحقّ تساؤلا من وجهة نظره. هل كان المشهد مألوفا له كمراسل صحفيّ؟ لا أدري.
لم تقتصر المأساة على المواطنين الفلسطينيين، بل كانت شاملة. فقد روى أحد جنود "الهاغناه" لشحوري قصة حصان بدا غريب الأطوار لبعض جنود الجيش " الشباب" (ترجمة حرفية). كان الحصان واقفًا في حوض خال تماما. حاول البعض "طرده" مرارًا وتكرارًا، لكنّه كان يعود إلى نفس المكان. يمكن أن تبدو القصة لا أهمية لها ولا تحتاج إلى تعليق، لكنّها أثارت الفضول لديّ: لماذا أصرّ الحصان على الرجوع إلى نفس المكان؟ كيف يمكن تعليل إصرار الحصان على الرجوع؟ هل أراد أن ينتظر صاحبه ؟ من الأرجح أن الحصان يعرف المكان جيدا، وإلا يصعب تعليل الإصرار على الوقوف في نفس المكان. هل أراد أن يقول لـ"الشباب" أنا مصرّ على البقاء هنا ولن أترك؟ ماذا كان مصيره؟ كأرض الطنطورة الخصبة كما نظر إليها رجل شركة الاستيطان – هخشرات هيشوف – أم كالجثامين البشرية بين الشجيرات والأشواك. من الصعب الإجابة على أسئلة كهذه!
التعليقات