03/10/2012 - 09:48

"الإسلام السياسي" حركة سياسية بامتياز../ علي جرادات

فضلا عن دعم شعوب أمريكا الجنوبية توجهات أنظمتها الديمقراطية الشعبية الجديدة لفك الارتباط بمركز السيطرة الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة، كشفت أيضاً حركة "احتلوا وول ستريت"، وموجات الاحتجاج الشعبي في أكثر من دولة غربية، عن رفض الشعوب لاقتصاديات الليبرالية الجديدة، بفعل ما جلبته لها من مشكلات البطالة والفقر والغلاء والفساد والأمية والحرمان وانعدام الأمن الاجتماعي، علاوة على الحروب وويلاتها

فضلا عن دعم شعوب أمريكا الجنوبية توجهات أنظمتها الديمقراطية الشعبية الجديدة لفك الارتباط بمركز السيطرة الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة، كشفت أيضاً حركة "احتلوا وول ستريت"، وموجات الاحتجاج الشعبي في أكثر من دولة غربية، عن رفض الشعوب لاقتصاديات الليبرالية الجديدة، بفعل ما جلبته لها من مشكلات البطالة والفقر والغلاء والفساد والأمية والحرمان وانعدام الأمن الاجتماعي، علاوة على الحروب وويلاتها.

وبالمثل، أيضاً، كشفت الانتفاضات الشعبية العربية، (فيما كشفت)، عن علاقة الاندراج في دواليب اقتصاديات الليبرالية الجديدة بما تعانيه المجتمعات العربية من مشكلات مماثلة، بل، وأكثر حدة، وعن علاقة هذه الاقتصاديات بأنظمة الاستبداد السياسي.

لذلك، وعليه، كان على معارضات "الإسلام السياسي" الفائزة لتوها بالسلطة باسم تلبية مطالب هذه الانتفاضات في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، عدم تجاهل إرادة شعوبها المنتفضة، وانتهاج سياسة اقتصادية اجتماعية جديدة بديلة تنشدها، وليس مواصلة سياسة سلطات الأنظمة المطاحة في مصر وتونس وليبيا والمغرب، إن كان على المستوى الاقتصادي الاجتماعي، أو على المستوى السياسي الخارجي، وطنيا وقومياً. هنا ثمة تناقض تفسره أطروحة نظرية، مفادها: حيث يلف العجز السلطة والمعارضة معاً يدخل المجتمع، (أي مجتمع)، في "أزمة عضوية" تدخله في سيرورة من التفكك والاستنقاع. أما وأن ما يوحد السلطة ومعارضات الإسلام السياسي في العالم العربي، هو، ومنذ الأصل، ليس العجز وحده، بل، تقاسمهما لبرامج وتطبيقات متشابهة، كما لو كانا وجهين مختلفين لعملة واحدة، فإن من الطبيعي حدَّ البداهة أن تتناوبا على تقييد حرية الشعوب ومصادرة إرادتها، وتسهما معاً في تجويف استقلالها وسيادتها الوطنيين، بإغراقها في مستنقع علاقات السيطرة والنهب والتبعية والإلحاق والخضوع لمراكز رأسماليات الغرب إياها، ما يجعل البحث عن أفق سياسي اقتصادي مجتمعي بديل، فتحت الانتفاضات الشعبية بابه، وكشفت عن ضروراته، يتجاوز الاتكاء على الدارج السهل المنتشر من تعابير الديمقراطية السياسية الليبرالية، إلى البحث عن صيغٍ لفك الارتباط مع هذه المراكز الاستعمارية الناهبة، كصيغ أمَّنت الأنظمة الديمقراطية الشعبية الجديدة في أمريكا اللاتينية بعض أشكالها، بينما تعجز عن تأمينها، أو تأمين شكل آخر لها، معارضات الإسلام السياسي التي تولت السلطة في أكثر من قطْر عربي بعد انتفاضات شعوبها المثقلة بمشكلات البطالة والفقر والغلاء والأمية والعيش في العشوائيات والمقابر وضواحي التهميش الجغرافي. 
                
في التشخيص أعلاه لتشابه، بل لتماثل، السلطة ومعارضات "الإسلام السياسي" في العالم العربي ما يجيب عن، ويفسر: لماذا جاء اندلاع الانتفاضات الشعبية العربية عفوياً، مدوياً، ومفاجئاً للسلطة كما للمعارضة أيضاً؛ ولماذا لم تشكل هذه الانتفاضات، (وهي الحدث التاريخي بامتياز)، عاملاً كافياً لإحداث التغيير المفترض في فكر السلطة والمعارضة وممارساتهما معاً، إذ بينما لم تجد السلطة غير القمع وتشديده سبيلاً لمعالجتها، فإن المعارضة، عموما، والإسلامية السياسية خصوصاً، لم تجد غير الاستخدام، وركوب الموجة، سبيلاً للتعامل معها؛ ولماذا جرى عسكرة بعض هذه الانتفاضات، والمطالبة بالتدخل الأجنبي في شؤونها؛ ولماذا ساوت معارضة الإسلام السياسي بين المطالب الوطنية العامة لهذه الانتفاضات وبين مطالبها الفئوية الخاصة، مختزلة إياها في مطلب الديمقراطية السياسية بمعناها الليبرالي الذي يلبي وصولها للسلطة ليس إلا؛ ولماذا، (وهذا هو الأهم والأشد خطورة)، تواصل معارضات الإسلام السياسي الفائزة بالسلطة باسم تلبية مطالب هذه الانتفاضات، إتباع سياسة الأنظمة المخلوعة ذاتها، من حيث ممارسات الفصل بين السياسي والاجتماعي من الديمقراطية؛ وممارسات "دولة لسلطة"، وليس "سلطة لدولة"؛ وممارسات التزاوج بين السلطة وشريحة رجال المال والأعمال والتجارة؛ وممارسات الاعتماد على المساعدات والمعونات المالية الغربية، والأمريكية منها بخاصة، بشروطها السياسية المعروفة، وعلى فتح أوطانها، إنتاجاً، وتبادلاً، واستهلاكاً، أمام استثمارات النهب الغربية وبضائعها الحرة والمحررة من أية قيود أو حماية وطنية طبقاً لوصفات منظمة التجارة العالمية، والبنك وصندوق النقد الدوليين؛ وممارسات الانكفاء على الذات القُطرية، وعدم التجرؤ على الاهتمام الجدي بقضايا الأمة، وأولاها القضية الفلسطينية.

في سياق البحث عن تفسير أعمق للتناقض بين خطاب حركات الإسلام السياسي وممارساتها ثمة مفكرون اقتصاديون اجتماعيون وسياسيون عالميون وعرب كبار يرون أن حركات "الإسلام السياسي" ليس في مقدروها أصلاً أن تكون بديلاً فكرياً سياسياً اقتصادياً مجتمعياً لأنظمة التبعية والاستبداد، بحسبان أنها إضافة إلى كونها ليست سوى الوجه الثاني لعملة هذه الأنظمة، فإنها تشكل وإياها شكلين معكوسين لأيديولوجية، (لا علمية)، "المركزية الأوروبية"، التي يشاركانها بالنتيجة تجاهل حقيقة تاريخية، مفادها، أنه كان في التاريخ احتمالات لولادة أشكال أخرى من "الرأسمالية التاريخية"، وبالتالي أشكال ملموسة أخرى من "الحداثة" الاجتماعية والسياسية، غير شكلها الغربي المحقق بالفعل، بل، وأن ولادة هذه الأشكال الأخرى باتت اليوم غير ممكنة إلا بفك الارتباط مع هذا الشكل المحقق الذي لم يكن بالضرورة، المتاح الوحيد في التاريخ، بل وأن المجتمع العربي الإسلامي في مرحلة ما قبل انحطاطه في نهاية العهد العباسي، (مثلاً)، كان، بما حققه من تقدم حضاري فعلي تنكره، (بوعي وبقصد)، أيديولوجية "المركزية الأوروبية"، مهيئاً، (كمخاض)، أكثر من أوروبا لولادة أشكال محددة من الرأسمالية والحداثة، وأن أسباباً تاريخية موضوعية وأخرى ذاتية، (ليس المجال هنا لذكرها)، حالت دون تلك الولادة، (التي كانت تعيش مخاضها آنذاك أيضاً مجتمعات آسيوية أخرى، كالمجتمع الصيني، مثلاً،) ما أفضى إلى أن تكون أوروبا، وغربها بالذات، موطن نشوء الشكل المُحقَّق بالفعل من "الرأسمالية التاريخية"، كشكل انتقل بالهجرة المستوطنة إلى أمريكا الشمالية، واتخذ منذ الأصل، سمة التوسع عبر "التراكم بالنهب" المنطوية، بالضرورة على الاحتكار، و"الاستقطاب" على النطاق القومي أولاً، ثم على النطاق العالمي ثانياً، وهو ما تجلى، إضافة إلى غزو واستيطان أمريكا الجنوبية، و"تجارة العبيد"، في استعمار أمم آسيا وأفريقياً، بكل ما أنتجه ذلك التوسع، وأفضى إليه، من تفاوت قسري في تطور الأمم وشعوبها، ومن لا مساواة مفروضة بالقوة العسكرية غالباً، في العلاقة بين "مراكز" مُسيطرة وناهبة و"تخوم" مُسيطر عليها ومنهوبة، بصرف النظر عن تحولات هذه العلاقة، سواء لناحية انتقال قيادة "المراكز" من رأسماليات أوروبا الغربية إلى وليدها في أمريكا الشمالية، الولايات المتحدة، أو لناحية تغير آلية النهب لـ"التخوم" من شكلها الاستعماري المباشر، إلى شكلها غير المباشر، التبعية، أو لناحية تفاوت مستويات النهب لدول "التخوم"، وكل ذلك ارتباطاً بتحولات ميزان القوى للصراع الذي خلقته هذه العلاقة، الناجمة عن التحولات في طبيعة القوى الاجتماعية والسياسية المنخرطة فيه، وفي ما أفضى إليه من حروب وثورات.

قصارى القول: تيار الإسلام السياسي ليس "بواقي من الماضي"، بل هو حركة سياسية بامتياز، ظهرت في المجتمع، كما حركات سياسية أخرى، في "تخوم" "المركز" الرأسمالي المحقق بالفعل المنطوي بطبيعته، ومنذ الأصل، على التوسع بالنهب، وبالتالي على خلق الاستقطاب واللا مساواة وتفاوت التطور على المستوى العالمي، ما يجيز، بل يفرض، محاكمة، ومساءلة، وانتقاد هذا التيار، (الإسلام السياسي)، وحركاته، "المتطرف" منها أو "المعتدل"، على أساس سياسي، حتى وإن اتخذت من الدين غطاء، كيلا لا نقول وسيلة، لبلوغ السلطة.                                          

التعليقات