04/10/2012 - 19:14

تركيا ترفض أن تكون نموذجا../ جميل مطر

تكررت في الآونة الأخيرة زيارات يتبادلها القادة الفعليون في بعض الحكومات الإسلامية في الشرق الأوسط، وأغلبها يتم في جو تحفظ، كالإعلان دائما أنها زيارات غير رسمية، أو تُقيَّد تغطيتها إعلاميا. وقد استقبلت مصر عديدا من هؤلاء القادة الاسلاميين، وأرسلت عددا لا بأس به يطلع على أحوال حكومات شقيقة، ويتفاوض معها ويجري مباحثات اقتصادية مع قطاع الأعمال، ويعقد صفقات استثمارية. وليس مستبعدا أن يناقش هؤلاء القادة الفعليون مسائل تتعلق بأمن أنظمتهم الحاكمة ومستقبلها

تركيا ترفض أن تكون نموذجا../ جميل مطر

تكررت في الآونة الأخيرة زيارات يتبادلها القادة الفعليون في بعض الحكومات الإسلامية في الشرق الأوسط، وأغلبها يتم في جو تحفظ، كالإعلان دائما أنها زيارات غير رسمية، أو تُقيَّد تغطيتها إعلاميا. وقد استقبلت مصر عديدا من هؤلاء القادة الاسلاميين، وأرسلت عددا لا بأس به يطلع على أحوال حكومات شقيقة، ويتفاوض معها ويجري مباحثات اقتصادية مع قطاع الأعمال، ويعقد صفقات استثمارية. وليس مستبعدا أن يناقش هؤلاء القادة الفعليون مسائل تتعلق بأمن أنظمتهم الحاكمة ومستقبلها.

لذلك كان لافتا للنظر أن يقوم الرئيس المصري بنفسه بزيارة تركيا بالرغم من كون المناسبة التي تجري الزيارة في إطارها، تتعلق باجتماع المؤتمر العام للحزب الحاكم ذي المرجعية الاسلامية، أي تأتي الزيارة الرئاسية تحت عنوان التعاطف الإسلامي، وربما لهذا السبب كان الإصرار على أن تتم كزيارة خاصة، فزيارة من هذا النوع وفي مثل هذه المناسبات يقوم بها "الزعماء" الكبار في الحزب الإسلامي الحاكم، لا المسؤولون الحكوميون.

لم ينكر أحد أنه في هذه الزيارات يتبادل القادة "الإسلاميون" المشورة، وربما يتطوعون بنصائح ويعرضون تجارب، ولا أحد ينكر أن بعضهم في الغالب سيؤكد أن الصعوبات التي تواجهها الحكومة الإسلامية في بلاده تعود إلى أن ظروف بلاده تختلف عن ظروف غيرها، وأن بعضا آخرَ، وأقصد تحديدا الأتراك، سيطلب من زواره الإسلاميين التوقف عن ترديد عبارة النموذج التركي، وسيصر على أن نظامه ليس نموذجا للإسلاميين العرب ليحتذوه بدون تحفظات. أعرف عن قرب أن بعض قادة الحزب الحاكم في تركيا كانوا سعداء في بداية الأمر، حين كانت القيادات الإسلامية الجديدة في مصر وتونس وغيرهما، تكرر صباح مساء، أن نجاح النموذج الإسلامي في تركيا سيظل حافزا لهم. وقتها راحت قيادات عربية تروج لفكرة الضغط على عبد الله غول والطيب أردوغان ليعلنا عودة نظام الخلافة الإسلامية. هنا انتبه القادة الأتراك إلى خطورة السير وراء قيادات إسلامية عربية، فالتجارب والخلفيات فعلا مختلفة، وأحيانا متناقضة.

***

كنت في تركيا، عندما كان المفكرون الأتراك من خلفيات إسلامية، سعداء بإقبال العرب على تركيا. اطلعت وقتها على جهود دولة عربية تدعو تركيا للوساطة في أزمة ناشبة في داخلها، وأخرى تستنجد بها لتكون طرفا وحليفا، ودول كثيرة تتسابق على دعوتها لتقبل أن تكون عضواً مراقباً في جامعة الدول العربية، رغم أن تركيا عضو مؤسس في منظمة التعاون الإسلامي التي تضم جميع الدول العربية، ويرأس أمانتها مفكر تركي مرموق. لا شك بأن الأتراك شعروا عندئذ بجاذبية فكرة التاريخ يعيد نفسه، فالأمم ضعيفة أمام قصص العظمة والقوة في تاريخها، وبالفعل سارع بعضهم بإطلاق تعبير "العثمانيون الجدد" على أحمد داود أوغلو ومريديه ومنهم الطيب أرودغان نفسه، الذي يحترم وزير خارجيته ويلقبه بالمعلم الذي تعلم أصول السياسة الخارجية وإغراءاتها.

أذكر أنني حذرت هؤلاء المفكرين من الاستسلام لحالة الانتشاء الطاغية التي سادت أجواء منتديات ومراكز الفكر والأكاديميات في تركيا. كلهم كانوا في انتظار استدعاء أو آخر لحل فتنة أو أخرى في بلاد العرب، باعتبار أنهم الأكثر خبرة في السلوكيات العربية والأكثر تقدما واستقرارا، والأقرب في الشرق الأوسط بعد إسرائيل إلى قلب الولايات المتحدة، وهي أيضا الأحدث "إسلاما سياسيا". قلت وقتها، أنتم لا تعرفون العرب، تحنّون ربما إلى أيام إمبريالية وخلافة وسلطة نفوذ، حين كنتم تفرضون الحلول بقوة السلاح أو الدين. وعلى كل حال فلن تكونوا أول من حاول إصلاح العرب فقد حاولت أميركا وحلفاؤها في الغرب ولم يفلحوا.

***

كان التفاؤل طاغيا، إلى أن اشتعلت ثورات الربيع، وكانت ليبيا الصدمة الأولى عندما اختار الثوار العلم التركي ليكون أول علم تحرقه الثورة. السبب كان لأن تركيا عارضت التدخل العسكري لحلف الأطلسي ضد القذافي. وبعد ليبيا جاءت مصر لتضع أحلام العثمانيين الجدد على محك واقع الإسلام السياسي الصاعد. كانت مصر الأسرع بين كل الفرق الإسلامية في طلب إعلان الخلافة الإسلامية في استانبول. لم يدرك الإسلاميون المصريون أن فكرة كهذه يمكن ان تشعل نيران حرب أهلية في تركيا وتجهض جميع إنجازات حكومة أردوغان في الحد من قوة العسكريين والتيارات العلمانية.

ثم كانت ثورة سوريا الصخرة التي تحطمت عليها منظومة السياسة الخارجة التركية. قامت المنظومة على قاعدة أن تركيا لا تواجه أي مشكلة مع أي دولة خارجية، وإن وجدت مشكلة فستقوم بإزالتها فورا. فإذا بتركيا، بعد سنوات معدودة من انفتاحها على العالم العربي، دولة تحاصرها المشكلات، وبعضها من أخطر ما تعرضت له تركيا في العصر الحديث.

كانت مشكلة الأكراد، وبخاصة الحرب الناشبة بين الجيش التركي و"حزب العمال الكردستاني"، المشكلة الرئيسية في تركيا، إلى أن تمكن أردوغان من إدخال إصلاحات لا بأس بها في مناطق الأكراد بشرق تركيا، واعترف لهم ببعض الحقوق، واستطاع تأمين حدوده الجنوبية باتفاقية مع سوريا ضمنت القضاء على أي دعم أو نشاط كردستاني في سوريا لـ"حزب العمال". الآن عادت المشكلة في شكل لم يتوقعه الأتراك، إذ يقترب أكراد سوريا من إعلان استقلالهم الذاتي، وهم الآن يتلقون مساعدات عسكرية كبيرة من حكومة بارازاني في شمال العراق. وعادت تنشط ميليشيات حزب العمال مكبدة الأتراك خسائر ضخمة ومنتهزة فرصة وجود عدد كبير من القيادات العسكرية التركية في معتقلات الحكومة، وانشغال قيادات أخرى بمراقبة الحدود الساخنة مع سوريا.

***

سوريا، وأقصد الحرب الناشبة فيها ودور تركيا إزاءها، مسؤولة عن تدهور مكانة تركيا الإقليمية، أو على الأقل مسؤولة عن الإحباط الذي تواجهه الديبلوماسية التركية بعد سنوات من النشوة العارمة والإفراط في التفاؤل. فإلى جانب تفاقم المشكلة الكردية، وهى الأصعب بين كل مشكلات تركيا، تحركت إيران من دولة كان هدف الديبلوماسية التركية التعاطف مع طموحاتها إلى دولة تسبب لها توترا شديدا، ساعد على هذا التوتر ضغط شديد من دول خليجية وعربية على تركيا، لتتولى "نظريا" قيادة ما يسمونه بالعالم السني في صراعه "المأمول" مع العالم الشيعي. لا أعرف تماما أو بالدرجة الكافية إن كانت مصر، بعد أن ترددت في قبول هذه الزعامة، ستشترك في إقناع تركيا، أو أن الرئيس المصري سيكتشف أن تركيا قد قبـلت بالفعل تولي المهمة.

***

لا أتصور أن تركيا الأردوغانية سعيدة بما آلت إليه سياستها الخارجية. لا يمكن أن تكون سعيدة ودولة على حدودها كسوريا في حرب أهلية لا أمل يبدو قريبا في الوصول إلى نهاية لها من دون أن تغوص تركيا في وحل الطائفية وربما الحرب الفعلية، وهى بالتأكيد ليست سعيدة بالموقف الأميركي في مجلس الأمن، بخاصة بعد أن أكد مفكرون أتراك في ندوات عديدة في دول غربية أن تركيا لن تلعب دور باكستان. تركيا ستسعى إلى أن لا تتحول الأزمة السورية إلى حرب طويلة الأمد، كمعظم حروب أميركا الحديثة، تكون فيها تركيا ممراً للسلاح والمتطوعين والجيوش الأجنبية، وتدفع تضحيات غالية تماما مثل باكستان، الضحية الأكبر لحرب أفغانستان.

تركيا لا يمكن أن تكون راضية تمام الرضا عن سياسة أدروغان الخارجية، فقد ابتعدت تركيا عن أوروبا، واقتربت من لهيب الطائفية وحروب القبائل والعشائر، ويبدو أنها مستعدة لتلعب دور الأخ الأكبر لحكومات إسلامية عربية، لم تستعد بالكفاءات والبراعة والخطط لحكم بلاد مكتظة بالمشكلات الاجتماعية وعدم النضوج السياسي، ولكن أيضا للتصدي لما هو أخطر، وأقصد التطرف المصاحب أو التابع عادة لأنظمة الحكم الإسلامية.
"الشروق"

التعليقات