14/11/2012 - 10:02

إسرائيل نتنياهو بين طمأنينة الأيديولوجيا وقلق الواقع../ علي جرادات

حيث تحل القناعات الأيديولوجية محل الواقع، كأنها هو، في معالجة الصراعات السياسية، لا يعود السياسيون سياسيين إلا بمعنى الإصرار على حسم السياسة بالحروب، وعدم الإقدام على المساومات السياسية إلا مجبرين، وبقدْرِ ما تعينهم على حل التناقض بين الأيديولوجيا الثابتة أهدافها والقلق من الوقائع السياسية المتحركة والمعقدة معطياتها

إسرائيل نتنياهو بين طمأنينة الأيديولوجيا وقلق الواقع../ علي جرادات

حيث تحل القناعات الأيديولوجية محل الواقع، كأنها هو، في معالجة الصراعات السياسية، لا يعود السياسيون سياسيين إلا بمعنى الإصرار على حسم السياسة بالحروب، وعدم الإقدام على المساومات السياسية إلا مجبرين، وبقدْرِ ما تعينهم على حل التناقض بين الأيديولوجيا الثابتة أهدافها والقلق من الوقائع السياسية المتحركة والمعقدة معطياتها.

ولئن كانت تلك هي، عموماً، حال قادة المشروع الصهيوني، بألوانهم، قبل وبعد قيام إسرائيل، في ممارسة السياسة، فإن نتنياهو قد أثبت أنه، بعد بيغن وشامير، القائد الصهيوني الأكثر تطرفا في إحلال الأيديولوجيا محل السياسة في إدارة الصراع العربي الإسرائيلي عموماً، وجوهره الفلسطيني، خصوصاً. أما لماذا؟

ناهض نتنياهو "اتفاق أوسلو"، ووصفه بـ"كارثة قومية"، وحرَّض على مَن وقَّعه، (رابين)، حدَّ التغطية السياسية على اغتياله، رغم أن رابين وورثته في قيادة حزب العمل، وفقاً لممارستهم في إدارة المفاوضات، قد أثبتوا أنهم لم يكونوا في وارد التوصل إلى تسوية سياسية للصراع يعاد بموجبها "كل الأراضي المحتلة عام 1967 مقابل السلام"، إنما "جزء صغير من هذه الأراضي مقابل كل السلام". وأنهم لم يقدموا على ذلك إلا من قبيل استغلال فرصة تفوق إسرائيل الإستراتيجي الشامل بعد انتصار الولايات المتحدة في الحرب الباردة وسيطرتها على السياسة الدولية ومؤسساتها في مطلع تسعينيات القرن الماضي، وبما لا يمس الفكرة الصهيونية الثابتة: "فلسطين ملك للشعب اليهودي"، ما يعني أن الحفاظ على إسرائيل "دولة لليهود"، هو مقتضى "التنازل" عن جزء بسيط منها بسبب تعذُّر وصعوبة، وربما استحالة، جلب أعداد إضافية كبيرة من المهاجرين اليهود الجدد، و/ أو طرد أعداد إضافية كبيرة ممن تبقى من الفلسطينيين على أرضه، أي أن "التنازل" هنا، لم يكن سوى شكلاً لحل التناقض بين الهدف الأيديولوجي الثابت والقلق من وقائع الصراع السياسي المتحركة والمعقدة في آن.

يكشف باراك عن هذا في مقابلة أجريت معه في مطلع تشرين أول 1996، حيث يقول: "إن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني معقد جداً ويخترق كل أبعاد هوية الإسرائيليين وهوية الفلسطينيين، لأنه صراع بشأن الوجود، ويرجع إلى سنة 1982"، وإنه: "متحرر من الإحساس بالذنب إزاء الفلسطينيين ومؤمن بأن العمل الصهيوني كان عملاً مهماً جداً وصحيحاً وأن كل ما حدث كان ضرورياً، وأن الظلم الذي حل بالفلسطينيين يبقى أقل من العدل الذي حصل عليه اليهود، وأن للإسرائيليين كامل الحق في الاستيطان في أراضي الضفة الغربية لأن لديهم ارتباطاً عميقاً بتلك الأراضي"، و"إن استعداده للنظر في عدم التطبيق الكامل لما يعتقد أنه حق له يرجع فقط إلى رغبته في خلق توازن مستقر بين الإسرائيليين والفلسطينيين"، ويضيف، بعد الإشادة بخطوة  رابين وبيرس، (يقصد توقيع اتفاق أوسلو)، "أن على إسرائيل أن تستغل اليوم تفوقها الإستراتيجي الشامل من أجل تفكيك مكونات الصراع، وتطبيق مشروع آلون"، أي إقامة كيان فلسطيني يكون أقل من دولة ويمكن أن يرتبط كونفيدرالياً بالأردن، ليس لأن إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة "ستشكل تهديداً لوجود إسرائيل"، بل لأنها "ستنشئ واقعاً ينطوي على نزعة تحرير قومية فلسطينية، ستمس مشكلات معقدة جداً بينها مشكلة العاصمة"، (يقصد القدس). وأكثر، فقد ناهض نتنياهو خطوة شارون الانفصال عن غزة من طرف واحد حدَّ شق حزب الليكود، رغم أن الانفصال لم يأت على قاعدة الإقرار بأن غزة، (ناهيك عن الضفة والقدس)، أرض محتلة، بل، ولا حتى "متنازع عليها"، إنما على قاعدة استمرار خضوعها للسيادة الإسرائيلية، وبما يساهم في حلّ مأزق الحفاظ على إسرائيل "دولة لليهود".

بمناهضة نتنياهو لخطوتي رابين وشارون في التخلي عن جزء بسيط من "أرض الشعب اليهودي"، رغم استمرار خضوعه للسيادة الإسرائيلية، يكون نتنياهو قد أثبت، بشكل لا لبس فيه، أنه أكثر القادة الصهيونيين الحاليين تطرفاً في أيديولوجيته، وأنه ما انفك يعتقد أن حل مأزق الحفاظ على "إسرائيل" "دولة لليهود"، يجب ألا يكون بخيار"التنازل"، (ولو)، عن جزء بسيط من "أرض الشعب اليهودي"، بل، بخيار المزيد من عمليات اقتلاع الفلسطينيين وابتلاع أرضهم وتهويدها وزرعها بالمستوطنات، لاعتقاده بأن هذا الخيار ما زال خياراً ممكناً، بل، ويمكن فرضه على الأرض، وفي السياسة، في آن. يقول نتنياهو الرافض لفكرة باراك: "عدم التطبيق الكامل لما يعتقد أنه حق له"، في مقابلة أجريت معه عام 1996: "إن نزعة التحرير القومية الفلسطينية ستشكل تهديداً داخلياً لإسرائيل، إلى جانب التهديد الخارجي الإسلامي"، مطالباً بـ"تنصل فلسطيني شجاع" من هذه النزعة التي "لن ينحصر مجالها في "يهودا والسامرة وغزة"، بل، "ستمتد إلى أماكن الجوالي الفلسطينية، وتتغلغل بين عرب إسرائيل، وتنطوي على رغبة في تحرير فلسطين وعودة اللاجئين".

هنا، لئن كان طبيعيا حدَّ البداهة اعتبار البحث عن تسوية سياسية للصراع في ظل تربع نتنياهو الأيديولوجي هذا على سدة الحكم في إسرائيل، هو بمنزلة الحرث في البحر، وأن شن إسرائيل بقيادته للمزيد من الحروب هو بمنزلة نتيجة طبيعية، ووجه ثانٍ لعملة استبعاد السياسة سبيلاً لتسوية الصراع،  فإن الأهم من هذا وذاك، إنما يكمن في البحث في سؤال: كيف السبيل لمواجهة هذا الخيار الأيديولوجي السائد والمُسيطر والمتنامي كالفطر في يوم ماطر في المجتمع والسياسة الإسرائيليين؟ يحيل السؤال هنا إلى الأبعاد الإستراتيجية للصراع، وليس إلى أبعاده التكتيكية، فحسب. ويواجه بما ينطوي عليه، وينبئ به، من تحديات منظورة وبعيدة، لا الفلسطينيين، رسميا وشعبياً، فحسب، بل، والعرب، على المستويين الشعبي والرسمي، والجديد من الأخير بالذات، أيضاً. فالتحديات الناجمة عن تجديد نتنياهو لشباب الخط الأيديولوجي للمشروع الصهيوني، لم تعد تقوى على مواجهتها لا سياسة عربية صارت مستهلكة، كان أرسى دعائمها النظام الرسمي العربي القديم، ويتبناها بحذافيرها الجديد منه اليوم، فحواها: "نقبل بما يقبل به الأخوة الفلسطينيون"، ولا سياسة التنسيق والتعاون الأمني والتوسط الرسمي المصري لتثبيت "تهدئة" من طرف واحد، كلما ضغط الجيش الإسرائيلي على الزناد في غزة، مع تجاهل تام لحرب التهويد والاستيطان والطرد والتمزيق والقتل والاعتقال في الضفة والقدس، وهي السياسة التي أرسى دعائمها نظام مبارك، ويتبناها بحذافيرها، إن لم يكن بصورة أسوأ، النظام المصري الجديد، ولا سياسة الرهان، بلا فعلٍ، على امكان أن تضغط الولايات المتحدة على قادة إسرائيل، كسياسة ثبت عقمها على مدار عقود من التجريب بقيادة نظام مبارك، بينما لا يجرؤ على تغييرها، بل ويواصل السير على دربها، القافزون إلى السلطة المصرية على أنقاضه بعد انتفاضة شعبية، ساووا أهدافها الوطنية والقومية والديمقراطية السياسية والاجتماعية العامة، بأهدافهم الفئوية الخاصة، واتخذوها، بميكافيلية زائدة، وسيلة للفوز بالسلطة، متناسين أن استتبابها، (كبقية سلطات "دول الطوق")، يبقى موضع شك من دون التجرؤ على مواجهة التحديات الإسرائيلية المفروضة، وعدم الخضوع لها، والتبعية لراعيها، الولايات المتحدة، كما فعل "ذخر إسرائيل الإستراتيجي"، مبارك، تجاه "قضية العرب الأولى"، فلسطين، بل، وتجاه قضايا الأمن القومي العربي كافة، ومنها قضية الأمن القومي لمصر، كأكبر دولة عربية، تواجه اليوم، شاء نظامها الجديد أم أبى، تحديات خيار نتنياهو الأيديولوجي، ومخاطره، واستحقاقاته التي صارت بادية حتى لمن لا يعرف من السياسة غير اسمها؟!                                              
                                      

التعليقات