03/12/2012 - 18:11

عامود الرصاص المصبوب../ ماجد عزام

قال موشيه دايان ذات مرة إن إسرائيل تبدأ الاستعداد للحرب القادمة بمجرد الانتهاء من الحرب السابقة، وهذا ما تبدى في الحقيقة عبر العدوان الأخير "عامود السحاب" الذي لم يكن سوى نسخة ثانية مصغرة، كمّاً ونوعاً من عملية "الرصاص المصبوب" 1 /2008، علماً أن القادة الإسرائيليين لم يتوقفوا طوال الأعوام الأربعة الماضية عن القول إن خطة "الرصاص المصبوب" (2) جاهزة وإخراجها إلى حيز التنفيذ مرتبط فقط بقرار المستوى السياسي

عامود الرصاص المصبوب../ ماجد عزام

قال موشيه دايان ذات مرة إن إسرائيل تبدأ الاستعداد للحرب القادمة بمجرد الانتهاء من الحرب السابقة، وهذا ما تبدى في الحقيقة عبر العدوان الأخير "عامود السحاب" الذي لم يكن سوى نسخة ثانية مصغرة، كمّاً ونوعاً من عملية "الرصاص المصبوب" 1 /2008، علماً أن القادة الإسرائيليين لم يتوقفوا طوال الأعوام الأربعة الماضية عن القول إن خطة "الرصاص المصبوب" (2) جاهزة وإخراجها إلى حيز التنفيذ مرتبط فقط بقرار المستوى السياسي.

إذن فعملية "عامود السحاب" لم تكن في الحقيقة سوى النسخة الثانية، ولكن المخففة من عملية "الرصاص المصبوب" مع أوجه شبه واضحة، ولكن أيضاً مع اختلافات لا تخطئها العين.

بدأت إسرائيل عامود "الرصاص المصبوب 2" تماماً كما بدأت النسخة الأولى بمناورة أو خدعة إعلامية مع  هدف نوعي ونار كثيفة غير أن المتغيرات المحلية والإقليمية فرضت تنفيذ الحيلة من تل أبيب وعبر الوزير بيني بيغين، الذي خرج للإعلام صبيحة الثلاثاء الذي سبق العملية بيوم واحد للقول إن إسرائيل ليست بوارد التصعيد، وأن جولة القتال انتهت بالنسبة إليها، بينما لعبت وزيرة الخارجية تسيبي ليفني الدور نفسه في النسخة الأولى من  القاهرة؛ ومن منبر وزارة الخارجية، للقول إن بلادها ليست بوارد الرد عسكرياً على إنهاء حماس للتهدئة نهاية العام 2008.

مقابل كثافة النيران والانطلاق للحرب من غارات على حفل تخرّج لعناصر الشرطة التابعة لحماس في "الرصاص المصبوب 1" تكرر الأمر نفسه مع النسخة الثانية مع تغير طفيف نار كثيفة من الجو البر والبحر إثر اغتيال قائد كتائب القسام أحمد الجعبري لخلق حالة من الصدمة والرعب فى نفوس المقاومين، ودائماً ضمن التكتيك الذي ابتدعه إيهود باراك منذ عملية تصفية الحساب 1993 بالاعتماد على الغارات الجوية والنار الكثيفة عن بعد من أجل الضغط على الخصم، والحصول على أفضل تفاهم ممكن لوقف إطلاق النار.

غير أن التبدل النوعي في الجانب الإسرائيلي تمثل بالأثر الكبير لوزير الدفاع إيهود باراك على إدارة المعركة الأخيرة، كما بوجود حكومة اليمين التي لا تبحث عن تحقيق نتائج سياسية تتعلق باستئناف أو العودة إلى عملية التسوية، وإنما إلى تخليد أو تأبيد الواقع الحالي في غزة. وهكذا فرض إيهود باراك رؤيته في النسخة الثانية من "الرصاص المصبوب" عبر الاستعداد لوقف النار أياما قليلة بعد بداية العملية، علماً أنه كان وافق على الأمر نفسه في النسخة الأولى بناء على مبادرة فرنسية؛ وهو ما لاقى ممانعة شديدة من رئيس الوزراء  آنذاك إيهود أولمرت. وجود باراك في حكومة يمين متطرفة أدى للمفارقة إلى تخفيض السقف وبلورة حزمة متواضعة من الأهداف في السياق الفلسطيني تضمنت قتل أكبر عدد ممكن من القادة الميدانيين لفصائل المقاومة وتخفيف -وليس وقف- إطلاق الصواريخ على المدن الإسرائيلية للحد الأدنى واستخدام كثافة النيران لترميم قدرة الردع بما يسمح بالتوصل إلى تهدئة لأطول مدى زمني ممكن، بينما شملت أهداف عامود الرصاص المصبوب 1 تغيير المشهد السياسي بالكامل؛ إسقاط حكومة حماس بالقوة، واسترداد الجندي جلعاد شاليط، وخلق واقع جديد يسمح باستئناف عملية التسوية مع السلطة الفلسطينية بقيادة الرئيس محمود عباس من أجل التوصل إلى اتفاق سلام نهائي.

إيهود باراك لا يؤمن أن بالإمكان إزاحة وإسقاط حماس وحتى وقف إطلاق الصواريخ نهائياً بالأساليب والأدوات العسكرية، وإنما باستخدام كثافة النيران للتوصل إلى تفاهم سياسي غير مباشر مع الحركة؛ وطبعاً، لا تبحث حكومة نتن ياهو بأي حال من الأحوال عن التسوية أو استئناف المفاوضات، وإنما عن تأبيد الواقع الحالي الذي تراه ملائماً للمصالح الإسرائيلية  والاستفادة من الانقسام السياسي والجغرافي الفلسطينيي والتشكيك في شرعية الرئيس محمود عباس لخلق سيرورة تؤدي في النهاية إلى إلقاء مسؤولية غزة على عاتق الحكومة المصرية، وربما تصفية نهائية للقضية عبر إلقاء تبعة أو مسؤولية الضفة على الأردن.

اللافت أنه ومقابل الأهداف المتواضعة نسبياً في السياق الفلسطيني تم وضع حزمة من الأهداف الأكثر طموحاً في السياقين الإقليمي والدولي، وهكذا استخدمت الحرب ليس فقط بتوريط مصر الجديدة في الوساطة، وإنما للتأكيد على أهمية معاهدة السلام واستئناف التنسيق الأمني مع القاهرة، وحتى الحوار الإستراتيجي بعدما تحولت القيادة السياسية المصرية -وليست الأمنية- ليس فقط إلى ضامن لوقف إطلاق النار، وإنما لقضايا أخرى أكثر تعقيداً وصعوبة مثل وصول السلاح إلى غزة وفتح المعابر والعمل على تخفيف الحصار ضد غزة.

فى السياق الدولي سعت تل أبيب إلى تجيير عامود الرصاص المصبوب من  أجل إعادة الدفء للعلاقات مع الرئيس أوباما والحصول على حزمة ضمانات وتفاهمات؛ ليس فقط في السياق الفلسطيني؛ وإنما بملفات أخرى مثل إيران ومشروعها النووي، علماً أن إلغاء مؤتمر هلسنكي حول السلاح النووي في الشرق الأوسط كان جزء من هذه التفاهمات مع الانتباه إلى أن تفاهم وقف إطلاق النار تم عبر اتصالات مكثفة للرئيس أوباما مع نتن ياهو ومحمد مرسي، كما أصرت تل أبيب على تأخير إعلانه رسمياً إلى حين وصول وزيرة الخارجية الأمريكية إلى المنطقة.

في الجانب الفلسطيني تعاطت حماس أيضاً، بشكل مختلف مع الرصاص المصبوب 2، وبينما كانت أقل جرأة وثقة بالنفس في النسخة الأولى، ورغم احتفاظها بدور القائد أو رئيس الأركان إلا أنها سمحت بأدوار بارزة للآخرين، خاصة في التصدي للعملية البرية؛ بينما ظهرت في النسخة الثانية أكثر جرأة وثقة بالنفس، مقتنعة من أن المتغيرات الإقليمية بعد الربيع العربي تعمل لصالحها وتقيد في المقابل أيادي إسرائيل، ومن هنا كانت متأكدة تماماً أن العملية البرية لن تحصل، وأن العد التنازلي لوقف إطلاق النار بدأ عملياً مع اغتيال الشهيد الجعبري، وهي كما تل أبيب لم تضع سقفا عاليا لشروطها، ولم تمانع في تهدئة مقابل تهدئة؛ ولكن بضمانة القاهرة مع فتح جدي للمعابر ولو في الاتجاه المصري وهو ما تفضله  الحركة الإسلامية في الحقيقة كونها لا تريد دفع أي ثمن سياسي لا لتل أبيب ولا حتى لرام الله، كما أنها تعي أن لا فرصة لرفع نهائي للحصار دون إنهاء الانقسام وتوحيد القيادة السياسية الفلسطينية تحت قيادة الرئيس محمود عباس.

مع السقف المنخفض لتل أبيب وغزة ورغبة القاهرة في إنهاء العملية بأسرع وقت ممكن للتفرغ لمشاكلها وأزماتها الداخلية، ورفض واشنطن وبروكسل القاطع لأي عملية برية قد تؤدي إلى تصعيد أوسع كان التوصل إلى تفاهم وقف النار حتمياً، خاصة أنه تعاطى مع أهداف الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني بواقعية لجهة إلى التوصل إلى "تهدئة مقابل تهدئة" ما مثل عملياً العنوان العريض للتسوية، بينما تم وضع عنوان آخر لضمانات القاهرة للطرفين وهو السلاح مقابل الحصار، وهنا أيضاً تسعى القيادة المصرية إلى التوصل إلى حلول وسط أو الدفع من جيبها الخاص، تحديداً فيما يتعلق بمعبر رفح طالما أن هذا يراكم قوة سياسية وحتى اقتصادية لمصر الجديدة بقيادة الرئيس الإخواني محمد مرسي.

على عكس ما يعتقد كثيرون سيصمد تفاهم إطلاق النار، وسيمر وقت طويل نسبياً قبل عامود الرصاص المصبوب 3، وربما يؤدي التفاهم إلى تسريع سيرورة تموضع غزة في الحضن المصري، وإذا لم يتم مغادرة مربع العنجهية الغطرسة والتعالي فيما يخص المصالحة ولم يتم العمل سريعاً على إنهاء الانقسام وتنفيذ اتفاق القاهرة وإعلان الدوحة فسيذكر التاريخ "عامود الرصاص المصبوب 2" كأحد المحطات الرئيسية في سياق تصفية القضية الفلسطينية وتكريس بل وتأبيد الانقسام السياسي والجغرافي بين الضفة وغزة أو في الحد الأدنى خلق كيانين فلسطيين خاضعين للوصاية والاحتلال بدرجات متفاوتة وغير قابلين للتوحد أو إعادة الاندماج ضمن  منظومة سياسية اقتصادية واجتماعية واحدة.

التعليقات