13/02/2013 - 12:09

"سنربحهم بالفكر"../ علي جرادات

هنا، كلمتان بليغتان، تساويان في دلالاتهما، ما كان نطق به أمين عام الحزب الشيوعي السوداني، عبد الخالق محجوب، قبل ساعات من إعدامه، شنقاً، في 28 تموز 1971، حيث رد برباطة جأش وهدوء القائد المفكر على سؤال: ما الذي قدمته للسودان، قائلاً: "وعياً ما استطعت"

أبرز معضلات الشعوب العربية مع تيار "الإسلام السياسي" المرفوع إلى السلطة على أكتاف ثوراتها، هي أن هذا التيار يساوي (بوعي، وعن قصد)، بين السلطة والدولة، وبالتالي مساواة التداول المشروع للسلطة بالسيطرة غير المشروعة على الدولة، ما يعني الإلغاء العملي لسلمية تداول السلطة، وتحويلها إلى شكل بلا مضمون، ينتج ما تعيشه مصر وتونس، (مثلاً)، من استقطاب فكري وسياسي وشعبي ومجتمعي حاد، أنتج صراعاً ميدانياً مفتوحاً، يخطئ قادة تيار "الإسلام السياسي" في اعتباره مجرد صراع مع معارضيهم، وليس، تجديداً لثورات الشعوب ضدهم، ما يعني أن حسمه لصالحهم يساوي إفناء الشعوب، أو كسر إرادتها بعد انكسار حاجز الخوف لديها.

ففي مصر، أنتج "الإعلان الدستوري" للرئيس المصري، مرسي، نهاية العام الماضي، (إضافة إلى ما سبقه من قرارات مشابهة)، استقطاباً سياسياً، أنجب صراعاً ميدانياً، كبد مصر الشعب، خسائر بشرية ومادية ومعنوية فادحة. وعلى عكس توقعات مَن أوحى للرئيس مرسي بهذا الإعلان، لم يفضِ نجاح غرضه، (تمرير دستور يروم السيطرة على مفاصل الدولة)، إلى تهدئة هذا الصراع، بل، إلى اتساع رقعته، وزيادة حدته. فبتداعيات هذا الإعلان، وبما لدى الرئيس المصري و"جماعته" من صمم سياسي، وإصرارٍ على المغالبة ورفْضٍ للمشاركة، تحول إحياء الذكرى السنوية الثانية لثورة 25 يناير إلى طورٍ نوعي أعلى من التصعيد بين "ميدان ثائر بلا إخوان" و"سلطة قمعية يحتكرها الإخوان"، ما أفضى إلى سقوط عشرات الشهداء، (أحدهما سقط تحت التعذيب) ومئات الجرحى، (أحدهما سقط مسحولاً)، وإلى اضطرار السيد مرسي إلى فرْض حالة الطوارئ وحظر التجول على مدن القناة، وإلى خسائر كبيرة في الاقتصاد والممتلكات العامة والخاصة، وفوق هذا كله، بل، قبله، إلى الاقتراب أكثر، فأكثر، من حافة إحلال سيادة الميليشيات، محل سيادة الدولة، وإلى إصدار فتاوى "إسلاموية" تجيز قتل المعارضين، ما يؤكد أن، هنالك، (فعلاً) ما يدعو للقلق، (وربما للخوف)، على مصر الدولة التي "باتت على حافة الانهيار"، كما قال محذراً، (ومحقاً)، وزير الدفاع، الفريق عبد الفتاح السيسي.

وفي تونس، ما زالت حركة النهضة، ("إخوانية" الأصل)، الحاكمة تماطل في إتمام إعداد الدستور لإطالة أمد المرحلة الانتقالية، وتأخير أجل إجراء الانتخابات، بغرض التمكن من السيطرة على مفاصل الدولة، بما يساعد الحركة على  ضمان الفوز بنتائج هذه الانتخابات، بل، وذهبت الحركة إلى ما هو أبعد من ذلك، سواء بالسكوت على ما تقوم به ميليشيات سلفية من تخريب واعتداءات وجرائم لم تنقطع، أو بالإقدام على تشكيل ميليشيا قمعية خاصة بها، وموازية لقوى الأمن الداخلي، تحت مسمى "روابط حماية الثورة"، فيما هدفها الفعلي حماية سلطة الحركة، وقمع معارضيها، بل، وكل مخالف لها ومختلف معها في الفكر قبل السياسة، حيث قامت عناصر هذه الميليشيا بحرق مقرات أحزاب معارضة، والاعتداء على إعلاميين ومحطات إعلامية ومقرات نقابية، بما في ذلك الاعتداء على مقر الاتحاد العام للشغل، في يوم إحياء ذكرى استشهاد مؤسسه، فرحات حشاد. وكانت الكارثة الأكبر في وقوع جريمة اغتيال القائد الوطني التقدمي، والمعارض العنيد، شكري بلعيد. هنا، قد لا تكون حركة النهضة، متورطة، بالمعنى المباشر، أي الجنائي، في عملية الاغتيال السياسي هذه، لكنها، بما سبق ذكره من ممارسة، تتحمل، بلا ريب أو شك، المسؤولية السياسية الكاملة عن هذه الجريمة غير المسبوقة في تاريخ تونس المستقلة، وعن تداعياتها، وعن كل ما يمكن أن يتلوها، (وهذا وارد)، من جرائم مشابهة.                                       

على أية حال، لئن قاد عجز أنظمة حكم عربية وطنية شعبوية، وُصفت، (زوراً)، بالديمقراطية عن منافسة برامج المعارضين بالإنجاز، إلى ولادة سياسة الإقصاء وممارسة تكميم الأفواه والقمع، فإن من المنطقي أن يقود عجز أنظمة حكم "إسلاموية" عن مقارعة فكرة المعارض بالفكرة المقنعة، إلى تحويل سياسة الإقصاء إلى سياسة إلغائية مثقلة بإجراءات التنكيل والسحل والاغتيال والإعدام الفاشية، ضد كل مخالف ومختلف؛ كيف، ولمَ، لا، وهي الأنظمة الفاشلة في الإنجاز، والقائمة، بطبعها، على عدم الاعتراف بالمساواة بين البشر، وعلى التمييز بينهم على أساس الدين والمذهب والطائفة والجنس والعرق والمعتقد؟!

هنا، يثور سؤال: هل بوسع هذا التصعيد في ممارسة القمع أن يخمد موجات ثورات شعوب، كسرت حاجز الخوف، وعرفت طريق خلاصها، وسبيل استرداد حقها في السيادة والحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، أم أن من شأنه، (التصعيد)، أن يزيد هذه الشعوب المثقلة بالفقر والجوع والبطالة والأمية، إصراراً على التحدي، وإجتراح أساليب جديدة لبلوغ أهدافها ومطالبها المشروعة، حتى، وإن طال مشوارها، وتعرجت مسيرتها، وتعاظمت تضحياتها؟ بعيداً من التفاؤل غير المسنود بالوقائع، فإن ثمة في تحدي أهل مدن القناة المصرية، لقرار فرض حالة الطوارئ وحظر التجول، ما يشي بأن من أصدر هذا القرار، مرسي، ومن أوحى له به، قادة "الإخوان"، لا يعرفون الشعب المصري، ويجهلون مخزونه الحضاري، ولا يدركون، (كما يجب على الأقل)، دلالات ما أحدثته ثورة 25 يناير في أوساط شعبهم من جديد في الفكر والسياسة والتنظيم. وبالمثل، فإن المدلول ذاته ينطوي عليه الزلزال السياسي الذي أحدثته جريمة اغتيال القائد التونسي التقدمي، شكري بلعيد، كزلزال، هز تونس من أقصاها إلى أقصاها، وطال بتداعياته، حركة النهضة نفسها، وجعل وحدتها الداخلية قاب قوسين أو أدنى من التصدع، بينما أفضى، بالمقابل، إلى توسيع شعبية (الجبهة الشعبية)، المعارضة، حيث تحولت جنازة بلعيد إلى تظاهرة سياسية شارك فيها نحو مليون و400 ألف مواطن، (وفقاً لتقدير وزارة الداخلية التونسية). ولو شئنا تكثيف دلالات ما يجري في مصر وتونس، وتداعياته، على مستقبل شعبيهما، وثورتيهما، لما وجدنا أفضل من كلمات أرملة بلعيد، بسمة، حيث قالت: "سنربحهم بالفكر"، قاصدة حركة النهضة "الإخوانية"، وما تنامى، وتوالد، في رحم سلطتها الإقصائية الإلغائية من حركات سلفية تكفيرية أشد تطرفاً ودموية. هنا، كلمتان بليغتان، تساويان في دلالاتهما، ما كان نطق به أمين عام الحزب الشيوعي السوداني، عبد الخالق محجوب،  قبل ساعات من إعدامه، شنقاً، في 28 تموز 1971، حيث رد برباطة جأش وهدوء القائد المفكر على سؤال: ما الذي قدمته للسودان، قائلاً: "وعياً ما استطعت".

التعليقات