05/03/2013 - 13:03

لماذا لم تندلع الانتفاضة؟../ هاني المصري

دار جدلٌ كبيرٌ في الأسابيع الأخيرة حول إمكانيّة تطور الاحتجاجات التي تشهدها الضفة الغربيّة ضد الاحتلال إلى انتفاضة، بعد تصاعد النضالات للمطالبة بالإفراج عن الأسرى، خصوصًا بعد الهبّة التي شهدتها مختلف مناطق فلسطين نصرة للأسرى المضربين عن الطعام، واحتجاجًا على استشهاد الأسير عرفات جردات تحت التعذيب، وما شهدته الضفة من قبل من احتجاجات ضد توسيع الاستيطان، واعتداءات المستوطنين وهدم المنازل وعزل الأغوار وتهجير سكانه الأصليين وأسرلة القدس وتهويدها، وضد الحصار والعدوان على غزة

لماذا لم تندلع الانتفاضة؟../ هاني المصري

دار جدلٌ كبيرٌ في الأسابيع الأخيرة حول إمكانيّة تطور الاحتجاجات التي تشهدها الضفة الغربيّة ضد الاحتلال إلى انتفاضة، بعد تصاعد النضالات للمطالبة بالإفراج عن الأسرى، خصوصًا بعد الهبّة التي شهدتها مختلف مناطق فلسطين نصرة للأسرى المضربين عن الطعام، واحتجاجًا على استشهاد الأسير عرفات جردات تحت التعذيب، وما شهدته الضفة من قبل من احتجاجات ضد توسيع الاستيطان، واعتداءات المستوطنين وهدم المنازل وعزل الأغوار وتهجير سكانه الأصليين وأسرلة القدس وتهويدها، وضد الحصار والعدوان على غزة.

وساهمت إسرائيل مساهمة كبيرة جدًا في النقاش الدائر حول اندلاع الانتفاضة، حيث شاهدنا تخوفًا إسرائيليًا كبيرًا من اندلاع الانتفاضة، فقد طغى الحديث عن ذلك في الأوساط السياسيّة والإعلاميّة، واهتم جيش الاحتلال والأجهزة الأمنيّة الإسرائيليّة بالموضوع اهتمامًا لافتًا، وأوصوا قيادتهم السياسيّة بعمل كل ما يلزم للحؤول دون اندلاع انتفاضة، لأنها ستضر إسرائيل ضررًا فادحًا وتنهي حالة الاحتلال الهادئ والمريح والمربح المستمرة منذ سنوات.

وبالفعل، استجابت الحكومة الإسرائيليّة لتوصيات الجيش وقادة الأمن، وقامت بتحويل العائدات الضريبيّة الفلسطينيّة التي احتجزتها، وأصدرت تعليماتها للجيش بالامتناع عن القمع المفرط وتجنب سقوط قتلى، وأرسلت الوفود وقامت بالاتصال بالسلطة لحثها على عدم دفع الأمور نحو الانتفاضة.

إن إسرائيل تخشى الانتفاضة الفلسطينيّة، سواء إذا جاءت مسلحة أو شعبيّة، وليس كما يروج بعض الفلسطينيين والسلطة، بأنها تدفع الأمور نحو الانتفاضة المسلحة والفوضى. فالاحتلال ضد جميع أنواع المقاومات والانتفاضات، مع أن الفلسطينيين هم الذين يجب أن يحددوا أشكال النضال المناسبة في كل مرحلة.
إن أي انتفاضة، خصوصًا الشعبيّة، تُظْهِر إسرائيل أمام العالم على حقيقتها كقوة احتلال استعماري عنصري إجلائي، وتجعلها تدفع ثمن الاحتلال، وتوحّد الشعب الفلسطيني وقواه السياسيّة وقياداته، وتجعل القضيّة الفلسطينيّة تحصل على أقصى دعم عربي وإسلامي ودولي، وتجعل القوى الدوليّة والإقليميّة تتحرك منعًا لتدهور الموقف.

لقد تصاعدت الاحتجاجات ولم تصل إلى انتفاضة، وذلك لعدة أسباب:

أولاً: الانقسام السياسي والجغرافي الذي يستنزف الطاقات الفلسطينيّة بصراع داخلي، ويجعل مقاومة إسرائيل بكل أشكالها ومستوياتها تخضع لحسابات المصالح الفئويّة والمنافسة الحزبيّة. فقد لاحظنا كيف أن "حماس" دعت في الأسابيع الأخيرة إلى توسيع الاحتجاجات إلى انتفاضة من دون أن تشارك بكل ثقلها في هذه الاحتجاجات، فما يهمها الآن المحافظة على التهدئة وقبولها عربيًا ودوليًا وإسرائيليًا كلاعب فلسطيني رئيسي، فيما حذرت السلطة من هذه الدعوات، وطالبت بضبط النفس وتجنب الاحتكاكات مع جنود الاحتلال وتفويت الفرصة على حكومة نتنياهو التي تدفع الأمور نحو الفوضى والعنف.

فأحد شروط اندلاع الانتفاضة هو إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، فالمقاومة توحد والصراع على السلطة يفرق، والانتفاضة يمكن أن تندلع من دون مبادرة الفصائل، لأن أسباب اندلاعها متوفرة وتتزايد باستمرار، ولكنها لا يمكن أن تستمر ولا أن تنتصر من دون الفصائل القديمة أو نشوء فصائل جديدة أو مجموعات جديدة.

ثانيًا: غياب إستراتيجيّة فلسطينيّة واحدة يقلل من احتمال اندلاع الانتفاضة، وكذلك غياب إستراتيجيات عديدة تقود الاحتجاجات والانتفاضات. فقد وصلت إستراتيجيّة المفاوضات الثنائيّة منذ سنوات إلى طريق مسدود، ما دفع القيادة الفلسطينيّة للذهاب إلى الأمم المتحدة من دون أن تعتمد إستراتيجيّة جديدة متكاملة، كما تم تعليق إستراتيجيّة المقاومة من دون التخلي عنها أو اعتماد إستراتيجيّة جديدة، وعقدت "حماس" التهدئة وراء الأخرى، بحيث أصبحت المقاومة المسلحة وسيلة للدفاع عن النفس في وجه الاعتداءات الإسرائيليّة، وأداة تستخدم لإثبات الوجود والفعاليّة والمنافسة الداخليّة على التمثيل والقيادة أكثر مما هي إستراتيجيّة طويلة الأمد للتحرير.

ثالثًا: خشية القيادة، والسلطة تحديدًا، من اندلاع الانتفاضة، لأنها تخشى من أن تخرج عن سيطرتها تمامًا أو من أن تستخدم ضدها، أو أن تدفع الأمور نحو الفوضى والفلتان الأمني وانهيار السلطة.

رابعًا: نشوء أوضاع اقتصاديّة ـ اجتماعيّة تعتمد النمط الاستهلاكي، ولا توفر مقومات الصمود والمقاومة، بحيث أن المشاريع التي تنفذ ونمط الحياة التي تعيشها الضفة وغزة، خصوصًا في مركز قيادة السلطة في مدينتي رام لله والبيرة؛ أوجد فجوة واسعة بين القيادة والمسؤولين والشعب، وخلق أفرادًا وجماعات وشرائح كبيرة داخل السلطة وخارجها لم يعد من مصلحتها اندلاع انتفاضة، ولذا ستقاوم اندلاعها أو ستمتنع على الأقل عن المساهمة فيها.

خامسًا: إن الشعب الفلسطيني يعاني من آثار فقدان المشروع الوطني الجامع والمؤسسة الواحدة والقيادة الواحدة، ومؤسساته الوطنيّة شاخت وتآكلت شرعيتها بعد سنوات طويلة على انعقاد آخر مجلس وطني، ومرور سنوات عديدة على الانتخابات التشريعيّة والرئاسيّة، وما أدى إليه ذلك من تفشي الفرديّة والفئويّة والجهويّة والمحسوبيّة والفساد وفقدان الثقة بين الشعب ومؤسساته وقياداته وأحزابه وفصائله. لقد أدى ذلك إلى تقطيع أوصال الشعب والأرض والقضيّة، بحيث أصبح كل فرد يعيش على ليلاه، وكل منطقة تقلع شوكها بأياديها، ولاحظنا النضالات المتقطعة والمحليّة والموسميّة.

سادسًا: إن الشعب الفلسطيني سيفكر مليون مرة قبل الانخراط في انتفاضة شاملة أو ثورة جديدة، لأنه لم يفهم لماذا يفجر الانتفاضات والثورات منذ أكثر من مئة عام ولم يحقق النصر؟
وما يزيد الأمور سوءًا أن الانتفاضات والثورات أوجدت فئات بيروقراطيّة متحكمة ينتشر فيها الفساد، وامتدت وزادت نفوذًا وثروة داخل المنظمة والسلطة وفي أوساط الفئات المستفيدة في القطاع الخاص والمجتمع المدني؛ ما جعل لسان حال المواطن العادي والفقير يقول: لن أضحي بنفسي أو بابني ليقطف ثمار تضحياتي أشخاص لا يضحون ويمنعون أبناءهم من التضحية.

إذا أجاب الفلسطيني عن سؤال: كيف تكون الانتفاضة القادمة قادرة على الانتصار أو التقدم على طريق الانتصار؟، فسنشهد انتفاضة عظيمة لم يسبق لها مثيل، فالأسباب التي تدعو إلى الانتفاضة كثيرة وتتزايد باستمرار، ولكن الانتفاضة تحدث عندما يكون هناك أمل عظيم أو يأس عميم، وأعتقد أننا في وضع لا يوجد فيه أمل عظيم ولم نصل إلى اليأس العميم، ونحن في حالة يمتزج فيها اليأس مع الأمل.

لقد انطلقت الانتفاضة الشعبيّة المجيدة في أواخر العام 1987 يحركها الأمل بإنهاء الاحتلال وإنجاز الحريّة والاستقلال، وكان يمكن لها أن تحقق أهدافها لولا أخطاء ذاتيّة فلسطينيّة وتدهور الأوضاع العربيّة بعد احتلال صدام للكويت وانهيار الاتحاد السوفياتي، ومنظومته الاشتراكيّة، الذي كان حليف الفلسطينيين.
وجاءت انتفاضة الأقصى ردة فعل على زيارة شارون للأقصى، وعلى فشل قمة كامب ديفيد التي أظهرت أن ما يسمى "عمليّة السلام" قد وصلت إلى طريق مسدود ولا بد من اعتماد بدائل أخرى لتحقيق الأهداف الفلسطينيّة.

ما أفشل هذه الانتفاضة أنها استهدفت تحسين شروط المفاوضات، وأن القيادة شجعت العودة إلى المقاومة المسلحة في وقت استمرت فيه بإدانتها بوصفها إرهابًا، ما جعلها غير قادرة على توظيفها، الأمر الذي ساعد "حماس" على الصعود، لأنها ساهمت في هذه المقاومة وتبنتها إلى أن دخلت في السلطة وبدأت في مسلسل التهدئة والصراع على السلطة والقيادة والقرار على حساب المقاومة.

لا يعرف أحد متى تندلع الانتفاضة؟ فهي لا تحدث بقرار ولا كبسة زر من أحد، فالانتفاضة عمل جماعي منظم يشارك فيه كل أو غالبيّة الفلسطينيين، ولكنها آتية عاجلاً أم آجلاً.
 

التعليقات