يفتح تورّط حزب الله في سوريا أسئلة كبيرة وجوهرية تكاد تصل إلى حد الجرح بالنسبة لأغلب السوريين الذين لا يكادون يصدّقون موقف الحزب بوقوفه إلى جانب نظام الاستبداد ضد حريتهم وحقهم بإسقاط نظام يحكمهم بالنار والحديد منذ عقود طويلة، وهم الذين احتضنوه (الحزب بوصفه مقاومة) طويلاً، بدءاً من سلاحه الذي يموّل من ضرائبهم، وليس انتهاءً باحتضانهم له حقيقة وعاطفة على مدى عقود، إلى درجة أن تحمّلوا أسوأ نظام تاجر بهم طويلاً باسم فلسطين وغيرها كرمى لـ"ممانعته" ودعمه "المقاومة"، وإلى درجة أن السوريين بكافة طوائفهم لم يرفعوا في بيوتهم وبملء إرادتهم ومحبتهم صورة لأحد منذ جمال عبد الناصر إلا للسيد نصر الله!
هنا في قراءة إشكالية المقاومة في ظل الانتفاضة السورية، سنتبيّن أمرين اثنين لم يعد "القفز" فوقهما بين أنصار المقاومة ضد إسرائيل مقبولاً إن أرادوا أن يحافظوا على صدقية المقاومة والدفاع عنها، وإمكانية استمرارها لاحقاً. الأول يتعلق بعلاقة المقاومة بالاستبداد، وعمّا إذا كان يمكن الاستبداد أن يدعم المقاومة من جهة، وإذا كان يمكن للمقاومة أن تقف بجانب الاستبداد ضد شعبه حفاظاً على المقاومة من جهة ثانية. والأمر الثاني هو العلاقة بين المقاومة والطائفية وعمّا إذا كان يمكن حزب أو حركة ذات جوهر طائفي أن تحمل مشروعاً مقاوماً، أو لا.
في مناقشة الفكرة الأولى، يبدو جلياً وواضحاً جداً أن المستبد لا يستخدم المقاومة إلا أداة لحكم شعبه، توسّلاً لإضفاء شعبية تعوّضه عما يخسره في الداخل من جهة، وسعياً إلى ضبط الداخل وتأجيل استحقاقاته في الحرية والديموقراطية تحت حجة "محاربة إسرائيل" و"لا صوت يعلو على صوت المعركة"، وهو ما يبدو واضحاً من بيانات السلطة السورية المستبدة تجاه الانتفاضة، حيث الربط دوماً بين تحركات الشعب في الداخل والمؤامرة وإسرائيل، لتسهيل عملية اتخاذ أيّ إجراء تعسفي ضد مطالب الداخل، وهو ما عبّر عنه بوضوح قول الديكتاتور بعد الغارة الإسرائيلية على دمشق: "بعد الغارة، بتنا مقتنعين بأننا نقاتل العدو الآن، نلاحق جنوده المنتشرين في بلادنا". يبدو واضحاً هنا تبرير عدم الرد على العدو مع تأكيد ملاحقة "جنوده المنتشرين في بلادنا"، وهو أمر يجري تحت ستاره تصفية البعد المدني السلمي للانتفاضة السورية، حيث تهدف الحرب المفتوحة إلى تجريف الحاضنات الشعبية للانتفاضة، ليس لأنها احتوت التسلح فحسب، بل بهدف عدم إمكان عودتها للنضال السلمي لاحقاً ولتصفية أي بعد سلمي للانتفاضة السورية، إضافة إلى تطبيق قانون الإرهاب الذي حلّ محلّ قانون الطوارئ على الناشطين السلميين عبر اعتبار النشاط السلمي يدعم المسلّح، وبالتالي هو إرهابي! كما كان سابقاً قانون الطوارئ يغطي على تهم "وهن نفسية الأمة" و"إثارة النعرات الطائفية"، وهذا ما يسكت عنه الجميع وعلى رأسهم حزب الله الذي يقول إنه مع مطالب المعارضة الوطنية المحقّة!
ورغم أن النظام هو فعلاً من قدّم السلاح ودعم المقاومة، إلا أن هذا الدعم محدود بحدود الحفاظ على السلطة والكرسي، فحين تقترب الأمور من هذه النقطة يجري التضحية بكل شيء في سبيل الحفاظ عليها، وهو ما رأيناه من خلال التدمير الممنهج للمقاومة في تورطها في سوريا. وهذا أمر جوهري في كل نظم الفاشستية الشعبية التي ينتمي إليها النظام السوري، إذ كان خير من حلّلها جيداً هو سمير أمين، حين التقط الجوهري في طبيعة هذه الأنظمة إذ قال: "نظام الحكم يميل إلى أن يكون بورجوازياً" بمعنى أنه يسعى إلى أن يكون ناجحاً في جمع السلطة والثروة، كما هو الشأن في البلدان الرأسمالية المتقدمة، وإذا أتاحت الظروف بعض التقدم في إطار الانتماء إلى المنظومة الرأسمالية العالمية، أي بمعنى آخر إذا فتحت هذه الظروف مجالاً للتحرك، فإن البورجوازية الحاكمة تتخذ مواقف وطنية في مواجهة الطرف الإمبريالي السائد عالمياً. أما إذا أصبحت هذه الظروف غير ملائمة، فإن البورجوازية نفسها تقبل التكيف والخضوع، فتصير "كومبرادورية"، وهنا يعيش النظام السوري مرحلة تكيّفه في سبيل الحفاظ على السلطة، وخاصة أنه يدرك جيداً أن رأس حزب الله هو المطلوب غربياً وإسرائيلياً. وهو أمر شهدناه في أنظمة مماثلة رفعت لواء فلسطين والمقاومة، حيث الترابط بين الاستبداد والممانعة بهدف تغطية الثانية على الأولى، بات أمراً مكشوفاً، بدءاً من القذافي وليس انتهاءً بصدام حسين الذي لم يطلق رصاصة واحدة ضد إسرائيل، إلا حين حاصرته قوات التحالف فأطلق صواريخ سكود (18/1/1991) بعد يوم واحد من بدء حرب الخليج الثانية دون أن يرد سابقاً على قصف المفاعل النووي العراقي (1981)، ليتشابه مع النظام السوري الذي لم يفكر بفتح جبهة الجولان إلا حين تهدّد عرشه، رغم قصف إسرائيل لموقع الكبر في دير الزور الذي قيل إنه محاولة لتطوير برنامج كيميائي سوري!
هنا لو كان النظام وطنياً صرفاً لكان قدم حلولاً وطنية لمشاكله الداخلية وأسهم في نقل سوريا من دولة الاستبداد إلى دولة المواطنة، مع بقاء دعمه للمقاومة وتحصينها، لحفظ البلد والمقاومة معاً، ولكنه (ولأنه مستبد) اختار طريق انتحاره الطوعي، حتى لو تمكّن من البقاء على رأس هذا الخراب لسنوات مقبلة!
أما من جهة المقاومة وانخراطها في الشأن السوري، فثمة تبريرات كثيرة يمكن تلخيصها وفق الآتي: الهدف هو المقاومة وتطويقها، وبالتالي فالمعركة استباقية ودفاع عن النفس، وأن التدخل في سوريا هو هدف إستراتيجي وليس تكتيكياً، وأن سوريا هي المستهدفة بوصفها دولة مقاومة وليس الاستبداد السوري بوصفه استبداداً، إضافة إلى أن سقوط سوريا يعني سقوط محور "الممانعة" أو إضعافه أو إضعافه بما يعني أن فقدان الحلقة السورية سيؤدي إلى حصار طهران لاحقاً، وتفكيك محور "المقاومة" لفرض حل غير عادل للصراع الفلسطيني/ الإسرائيلي.
هنا ثمّة إشكاليات كبرى، تبدأ من قراءة اللحظة الآنية/ التكتيكية ولا تنتهي عند البعد الإستراتيجي، فلا يحق لأية مقاومة أن تمرّ على ظهر حرية السوريين وكرامتهم التي تهان على يد نظام لا يزال حتى اللحظة غير معترف بأبسط حقوقهم. فحزب الله يغطي الأمر بالقول إنّه مع حرّية السوريين والمطالب العادلة لهم، ولكنّه عملياً يقاتل ويقف إلى جانب من لا يعترف بأبسط هذه الحقوق، فالنظام تحت ستار محاربة الإرهاب وحماية المقاومة، يذل شعبه ويحتقره؛ إذ بعد سنتين من "إصلاحات النظام" لا يزال خيرة المناضلين السلميين والسياسيين الرافضين للعنف في السجون (نحن هنا نتحدث عن السلميين فقط دون حملة السلاح!)، ولا يزال التظاهر ممنوعاً والمحاكمات شكلية، ولا تزال أغلب الصحف والمواقع الإلكترونية محجوبة، بما فيها صحف تصنّف على خط المقاومة (القدس العربي نموذجاً!) وما زالت سياسة زرع الخوف في قلوب المواطنين هي السائدة. إن نظاماً بمثل هذه القسوة تجاه شعبه لن يكون مقاوماً بأي حال من الأحوال. بل أكثر من ذلك، إن الطريق لإسقاط من يتآمرون على "المقاومة" يمرّ حتماً بإسقاط من جهّز الأرضية اللازمة لعملية إسقاطها وتوريطها في سوريا، وليس أن تكون المقاومة ستاراً لحماية الاستبداد الذي ورّط المقاومة وأذلّ الحاضنة الشعبية السورية لها على مدار عقود، فضلاً عن تشريدها وسجنها منذ بدء الانتفاضة السورية، فقط لأنها قالت: "سوريا لينا وماهي لبيت الأسد»".
وإن نظر "المقاومة" إلى الأمر من زاوية البعد الإستراتيجي والإقليمي في المنطقة، الذي هو يستهدف حقاً أي بعد مقاوم في المنطقة، فإنه يعالج بالطريقة الخطأ، أي كما كانت السلطات المستبدة تهرب للخارج من مشاكلها الداخلية، وهو أمر لن يفيد؛ "لأن ما تشهده المنطقة العربية الآن، لا يقل عن كونه بداية العد العكسي لسقوط الإمبراطورية الإيرانية الصغيرة، التي تمدّدت طوال العقود الثلاثة الماضية في منطقة الهلال الخصيب، مشكِّلة هلالاً شيعياً افتراضياً، امتد من طهران إلى الضاحية الجنوبية من بيروت، مروراً ببغداد ودمشق وغزة"، كما يقول سعد محيو، ولأن الصراع على المدى الإستراتيجي هو صراع بين الشموليات وبين النظام الديموقراطي الذي يتمدد منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، وهو أمر "لا ارتداد فيه" إذ جلّ ما يمكن الأنظمة الشمولية أن تفعله مقاومة التغيير لسنوات ليس أكثر، أي تأجيل الانفجار القادم لا محالة، وهذا أمر يعني إيران كما يعني منطقة الخليج بأسرها.
وفي ما يخص محور "الممانعة"، فقد كتب عماد مرمل في "السفير" حتى لو أراد أحد تحييد نفسه فإن "الجبهة المضادة ترفض تحييده"، وهو أمر صحيح؛ إذ آخر ما يهم الدول الداعمة للمعارضة السورية بالسلاح هو حرية السوريين، بل هي تريد تحقيق مكاسب إستراتيجية وإقليمية لحسابها على ظهر الانتفاضة السورية بعد أن انساقت بعض أطياف المعارضة السورية لهذا الأمر، إلا أنه لا يجوز بنفس الوقت للحزب أن يجعل من الأمر مطية للقفز على حرية السوريين وحقهم في الانتقال إلى دولة الحرية، وخاصة أن النظام يستغل البعد المقاوم (أو الذي كان مقاوماً) للحزب لإضفاء شرعية على أفعاله المستبدة في الداخل.
هنا يعمل النظام تحت ستار الرؤية السابقة التي تغطيها المقاومة على ضرب كل بعد مدني وسلمي في سوريا؛ إذ ثمة بديهيات يقفز فوقها الجميع: متى سمح النظام بالتظاهر لن يعود هناك حاجة للسلاح، ولن يعود بالإمكان استهداف المقاومة، فلم لم تدفع المقاومة بهذا الاتجاه بدل انضوائها تحت ستار النظام وروايته؟ لم قبلت الدخول في لعبة النظام بأن يجعلها ستاراً للاستبداد الذي يقتل السوريين، وهو الأمر الذي جعل منها شريكاً في القصير وحماية العتبات المقدّسة! الأمر الذي يجعل رؤية الحزب قاصرة وخاسرة حتى بالمعنى الإستراتيجي، فهو يُسهم بنفسه في تدمير فكرة المقاومة قبل أي شيء، لأنها خسرت الشارع الذي احتضنها ووقف إلى جانبها وكان سلاحها من عرق جبينه وضرائبه، وهو الذي تحمّل الجوع والفقر والقمع، ولهذا ثورته ثورة "كرامة وخبز". وهنا يبدو واضحاً أن حزب الله بتركيبته البنيوية ذو عمق استبدادي/ شمولي ينسب الدعم إلى الأنظمة بدلاً من الشعوب، مقترباً من مقاربة الأمور من منظار الأنظمة نفسها بإهمال أي بعد للداخل، فكل مقاربات الحزب وأنصاره والواقفين معه في معركته السورية تقارب الأمر من منظار المحور الذي ينتمي إليه الحزب، بعيداً عن أخذ أمر الدواخل الوطنية لتلك البلدان في الاعتبار، وعلى رأسها حق السوريين بالحرية، فضلاً عن فكرة الدولة وسيادتها التي ينتهكها الجميع، بدءاً من المعارضة المسلحة التي جعلت من بلدها مكب نفايات لدول العالم للتخلص من متطرفيها، إلى النظام السوري الذي سلّم مفاتيح بلاده لطهران وموسكو وحزب الله وغيرهم.
حزب الله فتح الجرح الطائفي
فتح موقف حزب الله ودخوله المعركة السورية الجرح الطائفي على مداه، وأطلق أسئلة كثيرة عن العلاقة بين "المقاومة" والطائفية. لا يختلف اثنان على أن بنية الحزب هي بنية طائفية مغلقة ومتشددة حتى بالنسبة إلى أحزاب أخرى شيعية تجاورها في الوطن اللبناني ("أمل" نموذجاً)، إلا أن البعد المقاوم في الحزب سابقاً أسهم في التغطية على هذه البنية لما تحمله قضية إسرائيل في أذهان العرب على كافة انتماءاتهم الطائفية والإثنية، ليكفّ هذا الغطاء عن أن يؤدي دوره بعد استخدام الحزب لسلاحه في الداخل اللبناني (7 أيار 2008)، فاقداً جزءاً من شرعية حمله السلاح لدى قسم غير قليل من اللبنانيين، وليأتي تدخل الحزب في القصير مكمّلاً لهذه الرؤية، حيث فقد الحزب بعده المقاوم لمصلحة الوقوف في محور طائفي يمتد من طهران حتى جنوب لبنان، مروراً ببغداد والبعد الطائفي للنظام السوري (دون أن يكون هذا النظام طائفياً في العمق، فهو يتوسل أي أداة لإدامة حكمه، بما في ذلك الطائفية). إلا أنّ أكثر ما أظهر البعد الطائفي للحزب هو تغليفه التدخل في سوريا بأبعاد طائفية تقوم على حماية "المراقد الشيعية"، واستخدام مفردات طائفية من نوع "الواجب الجهادي" في تشييع الذين سقطوا في سوريا، لنكون أمام تساؤلات مريرة: من أعطى حزب الله حق الدفاع عن المراقد الشيعية في سوريا؟ وهل يحق للسعودية أن تدافع عن المراقد السنية؟ وهل يحق لإسرائيل أن تدافع عن كنيس جوبر؟ ومن قال أصلاً إن هذه الأماكن مستهدفة ليُعمَد إلى حمايتها؟ لم يفعل هذا الأمر إلا أن كان أداة للتدخل من جهة، وهو ما كشفه تطوّر حجج حزب الله في التدخل من "حماية المراقد الشيعية" إلى حماية ظهر المقاومة، ليصبّ الأمر في خدمة النظام السوري في دفع الأمور نحو حرب طائفية مذهبية طالما سعى إلى تأجيجها ليقدم نفسه صمام الأمان منها! لنكون هنا أمام كارثية دخول الحزب في القصير من كونها أعطت الصراع في سوريا وعليها بعده المذهبي الكامل، مكمّلة ما أراده الخصوم على المحور الآخر (واشنطن، أنقرة، الخليج)، ليستهدف الطرفان أول ما يستهدفون الانتفاضة السورية التي يعمل الجميع على تحويلها لحرب مذهبية يراد منها تدمير الدولة السورية، وعدم نشوء دولة ديموقراطية لاحقاً، ومنع امتداد الربيع العربي إلى طهران ومنطقة الخليج لتلعب سوريا عامل كبح أمام المطالب الداخلية للشعوب التي باتت تتخوف من النتائج الكارثية للربيع، كما كان العراق عامل كبح عام 2003، ولكن التجارب أثبتت أيضاً أن هذا الكبح لن يدوم.
وهنا قد يتساءل البعض: لماذا يُدان تدخل الحزب في سوريا ويُسلَّط الضوء عليه دون أن يُدان التدخل السلفي الوهابي من كل بقاع الأرض ويُسلَّط الضوء عليه؟ التدخل الآخر مدان ومرفوض حتماً. وهنا كما وقعت أطياف من المعارضة السورية في فخ السماح بهذا التدخل وقع حزب الله في نفس الفخ. كان يجب على الانتفاضة لكونها انتفاضة ذات بعد أخلاقي متطور على النظام بالضرورة أن تمنع وترفض تدخل تلك القوى السلفية في سوريا، لأن من يريد أن يقاوم الاستبداد عليه أن يحرص على نظافة معركته لضمان تفوقه الأخلاقي، وإلا تحول إلى أن يكون أداةً في يد القوى الغربية وهدّد صدقية الانتفاضة التي يدعي تمثيلها (راجع بحثنا: الجيش السوري الحر: السر في مكان آخر. مجلة "الآداب"). وهنا حين انجرّ حزب الله إلى الصراع السوري لمواجهة جبهة النصرة فقد صدقيته وهدد صدقية المقاومة، متحوّلاً من حزب ذي بعد وطني إلى مجرد حزب طائفي ضيق جداً حتى على أنصاره!
هنا أيضاً، يؤدي حزب الله دور تعميق الحرب الطائفية في سوريا من جهة، وفي الإقليم ككل من جهة ثانية، عبر الإعلاء من شأن الصراع المذهبي في الداخل على حساب الشأن الوطني بين حزب الله الشيعي وجبهة النصرة السنية، وعبر تقديم الصراع المذهبي (سني – شيعي) أو الإثني الإقليمي (إيراني – خليجي) على حساب الصراع العربي الإسرائيلي في الإقليم، لتُدمَّر كل الأبعاد الوطنية لمصلحة الصعود المذهبي المخيف، لنكون أمام كارثية ما أنتجه البعد الطائفي للمقاومات العربية التي انشقت بين محور سني وآخر شيعي! وليتحول الجميع (بمن فيهم الحزب والجيش الحر وجبهة النصرة وحماس) إلى أدوات للقوى الكبرى، التي قد تعمل على إطالة أمد هذه الحرب المدمرة، بدل حلها، إذ تنبأ دبلوماسي غربي بمستقبل الصراع في سوريا قائلاً: "ستكتسِب هذه الحرب مع الوقت، روحاً وكيْنونة خاصتيْن... سيُولد اقتصاد الحرب الذي ستعتاش منه وعليه كل أنواع الميليشيات لدى النظام والمعارضة على حدّ سواء، فتصبح الحرب هدفاً في حد ذاتها لا مجرد وسيلة ستتسابق القوى الإقليمية على اقتطاع مناطِق نفوذ جغرافية وديموغرافية لها في سوريا، وستجِد الدول الكبرى مصلَحة جلّى لها في تحويل سوريا إلى مغناطيس، يستقطِب كل العناصر الأصولية المتطرّفة في العالم ودفعها إلى معارك لا نهاية لها في ما بينها، كما يحدُث الآن على سبيل المثال بين حزب الله اللّبناني وجبهة النّصرة في بلدة القُصيْر السورية الإستراتيجية".
انشقاق حماس ذات البعد الطائفي على الجانب المذهبي الآخر (السني) عن محور "الممانعة"، وبقاء حزب الله ذي العمق الطائفي على الجانب المذهبي (الشيعي) الآخر في محور "الممانعة" يطرحان إشكالية العلاقة بين المقاومة والطائفية، إذ تثبت تلك التجارب أنه يستحيل على حزب طائفي أن يكون ركيزة أساسية لمشروع وطني نهضوي تندرج المقاومة في إطاره، فكما دمّر الاستبداد كل ما قدّمه لمحور الممانعة في لحظة واحدة، فإن تلك الأحزاب الطائفية تدمّر في لحظتها هذه كل ما قدّمته للمقاومة، لأنّه في لحظة الخيار بين المقاومة والطائفية ستنحاز رغماً عنها لبنيتها العميقة كما انحاز الاستبداد لبنيته العميقة في سعيه إلى الحفاظ على الكرسي، أي إن المقاومة في بنية الاستبداد والأحزاب الطائفية هي لحظة عابرة (تكتيكية) تغطي على الجوهري العميق (الإستراتيجي). ولعل أكثر ما يكشف حزب الله هنا السؤال: عن سر ذهابه إلى القصير دون ذهابه إلى الجولان التي أعلن النظام السوري فتحه أمام المقاومة! وهل حقاً إن أرادت اليوم جماعة من السوريين أن تقاتل إسرائيل دون أن تكون أداة بيد الاستبداد سيسمح لها النظام بذلك؟ وهل يمكن حزب الله أن يعلن بوضوح دعمه لمطالب السوريين بإسقاط الاستبداد كاملاً وفتح المقاومة ضد إسرائيل من جبهة الجولان شرط رحيل الاستبداد حصراً، ليصار إلى إحراج حاملي المشروع الغربي الداعم مطلقاً لإسرائيل بين صفوف المعارضة السورية عبر العمل على تأصيل مشروع وطني سوري يبني الدولة السورية من جهة ويقاوم إسرائيل من جهة أخرى؟!
نحن الآن أمام حطام (وفق لغة المفكر طيب تيزيني) مقاوم وحطام وطني من جهة، مقابل انتفاضة يمكن أن تمثل نقطة ارتكاز لنهوض وطني محتمل، شرط مراجعة ما سبق في العلاقة بين الاستبداد والمقاومة والطائفية والمقاومة لمصلحة استيلاد مشروع وطني سيكون علمانياً بالضرورة تقف المقاومة بوصفها فكرة ضد الظلم والاحتلال والاستبداد في آن واحد، في جوهره دون أن تكون أداة أو غطاء لأحد.
"الأخبار"
التعليقات