معنى وزخم مختلفان ميّزا الاستعدادات لإحياء الذكرى السبعين للنكبة هذا العام، في قطاع غزّة، بعد سنواتٍ من الانقسام الذي انعكس على الفعل الجمعي الوطني.

فعشيّة ذكرى النكبة، قبل الرابع عشر من أيّار/مايو، كان التحضير لمليونيّة العودة الكبرى في أوجه، مع إعلان حالة النفير والتوجه للحدود الشرقية، على أن يكون التجمّع في الساعة 10 صباح الإثنين. وكانت المساجد قد بدأت بالتكبير لحشد الناس وحثهم على التوجه للحدود، مع الإعلان عن إضراب شامل عم مدن القطاع، وسط حالة من الترقّب والانتظار والاستعداد ليوم المواجهة.

ومنذ السّاعات الأولى لصباح يوم الإثنين، بدأت الحشود بالزحف نحو السّياج الأمنيّ. وفي الثامنة صباحًا، بدأت المساجد بالتّكبير وأخذت أعداد الناس في التزايد رجالا ونساءً، كبارًا وصغارًا. المشهد بدا مهيبا، وفيه عزٌ وفخار وعندما يشاهد واحدُنا الأعدادَ الكبيرة يشعر بالرهبة، وأكثر ما يشدّ الانتباه هو الأمل المنبعثِ من عيونٍ لا تأبه لتهديد ووعيد قوات الاحتلال، وكأن المحتشدين يتجاهلون، أو بمعنىً أدقّ، يتحدّون ما ينتظرهم: رصاصة قناص، جندي غادر أو قنبلة غاز تحرق عيونهم وتسبّب ضيق التنفس فتفقدهم الوعي، كان أمل العودة مسيطر عليهم.

الشباب ينشطون وكأنهم في خلية نحل، يحضّرون الطائرات الورقية، تلك التي تعرفها غزّة باسم "الطبق"، لوّنوها بألوان العلم، وحمّلوها موادَّ حارقة. ليست الطائرات الورقية وحدها ما طغى على المنطقة، إنّما مكبرات الصوت التي تصدح بالأغاني الوطنية الثورية، تحفز الحضور وتبث الحماس في نفوسهم.

هل ذكرنا التنافس على صنع الطائرات الورقيّة؟ الآن، تنافس آخر، بعد إتمام صنعها يسيطر على المتظاهرين، وهي المنافسة في ما بينهم على إسقاط طائراتهم الورقيّة طائرات الاحتلال المسيّرة، التي تعمل على إسقاط الطائرات الورقية. يبدو من الحوار وكأنهم يلعبون ألعابا إلكترونيّة. ليس المهمّ كيف بدا الحوار، فالنتيجة الجديرة بالذكر، إنه تم إسقاط أكثر من 4 طائرات مسيرة.

"مرقوا، مرقوا!"

توجهت مع بعض الصحافيين والشبان نحو السلك الشائك، نحو مسافةٍ قريبة جدًا تبعد عن الجنود حوالي 100 متر، لم يكن الشباب يبالون بما سوف يحدث واستمروا بالتقدم دون خوف ومكبرات الصوت تعلو بالتكبير ومع كل تكبيرة كانت تخرج، كان المتظاهرون يزدادون حماسا واستطاعوا تجاوز الجدار الأمنيّ، كلمح البصر، الآن هم في الأراضي المحتلّة، لثوانٍ؟ لدقائق؟ غير مهم، المهمّ أنهم في الأراضي المحتلّة.

مصطفى الرّنتيسي طفل يبلغ من العمر 12 عامًا يحمل هاتفه، يصوّر الحدث، يركض ويبكي من شدة الفرح أو ربّما شدّة الحزن، صارخًا "مرقوا، مرقوا"!

وفي مقابلة أجراها موقع "عرب 48"، مع مصطفى قال "أنا من قرية يُبنى وموجود هان عشان بدي أرجع لأرضي وأرض أجدادي ولكسر الحصار، وخلي العالم يشوفوا أطفال غزة، أنا مش خايف الوطن غالي وبده شجعان ما في خوف طول ما إحنا أصحاب الحق".

مشهد أخر في المكان، شاب عشريني أصيب برصاص متفجر في القدم كان يتحدث مع المسعفين ويقول لهم" عالجوني بسرعة بدي أرجع وأوقف مع الشباب".

طفل آخر، لم يبلغ من العمر 15 سنة، بعد، كنّا متّجهين نحو الحدود لنرى الوضع عن قرب أكثر، وإذ به يحذرنا بألا نقترب أكثر خوفا علينا، وكان يحمل الحجارة ويدفع "عجل كاوتشوك" متجها به نحو السلك حيث يتواجد الشبان.

في المنطقة، حيث كنت أتواجد في دوار ملكة شرق حي الشجاعية "سقطت" شبكة الهواتف الخلوية وكذلك شبكة الإنترنت. وانقطعتُ، كغيري، من الصحافيين عن العالم الخارجي باستثناء ما نشاهده من إصابات وشم الغاز المسيل للدموع، ولم نعلم عدد الشهداء الذي كان يتزايد باضطراد وعلمت عن عدد الشهداء في الساعة الثالثة قبل العصر، وسمعت الأخبار من مذياع السّيارة التي كنا نستريح بها حيث أن الأخبار الواردة تفيد بقصف عنيف لأحد مواقع المقاومة في القطاع إلى جانب ارتفاع حصيلة الشهداء والجرحى. وفي الخارج، لم نسمع سوى صوت إطلاق النار وصوت صفارات الإسعاف وصراخ المتظاهرين.

تفاصيل مؤلمة عشتها، ستحفظها الذاكرة ومجزرة ارتكبها جنود الاحتلال المدججين بالسلاح ضد متظاهرين سلميين لم يشكلوا أي خطر عليهم خرجوا للمطالبة بحقّهم في العودة لديارهم ورفع الحصار.