عندما يُسأل عن اسمه، يصرّ الفلسطيني أبو خالد (80 عامًا)، أن تكون الإجابةُ شاملةً وافيّةً.

تقولُ له: 'ما اسمك يا عم؟'، فيجيب بالاسم الخماسي: 'محمد يوسف علي إبراهيم حمد'.

ولا يذكر أبو خالد، اسمَهُ الخماسيّ اعتباطًا، إنما ليدللّ على عمق ارتباطه وارتباط الفلسطينيين عامّة بأرضهم، فهم ليسوا 'أبناء اليوم'.

ولد أبو خالد في العام 1937، وعلى الرغم من تقدم العمر، ما زال يحتفظ بذاكرةٍ قويّةٍ يجمعُ فيها تفاصيلَ حياة الطفولة القصيرة التي عاشها في قريته لِفْتا، في محيط القدس، قبل أن يُهجّر منها قسرًا مع عائلته في نكبة عام 1948.

ويقول في نهاية التّعريف عن نفسهِ، أن جدّه الثالث، حمد، هو أول من بنى بيت العائلة، والذي هُجّرت منه العائلة عام 1948، وما زال موجودًا حتى اليوم على أراضي قرية لفتا.

وُلِد أبو خالد، في ذلك البيت وعاش فيه لست سنوات، ومن ثم انتقلت عائلةُ عمّه للعيش فيه.

أما والده فقد بنى بيتًا آخر في قرية لفتا، لكنه كان قريبًا من الشارع الرئيس للقرية، فكان نصيبه بعد الاحتلال الإسرائيلي، الهدم، لصالح المستوطنات والمرافق العامّة لدولة الاحتلال.

بين الفينة والأخرى، يختلس أبو خالد، القاطن حاليا، في مخيم شعفاط، بالقدس، لحظات، يتسلل خلالها إلى قريته لفتا، كي يبكي على أطلالها.

في عليّة البيت المُهجّر، والذي سَلِمَ من هدم الاحتلال حتّى اللحظة، وقفَ أبو خالد، تعتلي رأسه الحطّة والعقال، برفقة ثمانيةٍ من حفيداتِه، يشرح عن تفاصيل البيت وأقسامه.

يقول متحمسًا: 'هنا كانت النساء تُشعل النّارَ لتحضير الطّعام، وهنا كنّا نرتب الملاحف (البطانيات)، لم تكن هناك خزائن في ذلك الوقت، فكنا نضع ملابسنا مصفطةً (مرتبة) في أحد جدران البيت'.

كان أبو خالد، أول حفيدٍ، فكان المحظيّ وصاحب الاهتمام الأول من قبل الجدّ عليّ.

يشير أبو خالد بيده إلى المنطقة خارج البيت، ويقول إنه كان يلعب فيها مع ابنة عمه التي ولدتْ بعده.

ويضيف 'كان جدّي يقول لهم هاتوا بنت عمه يلعب معها، فكنت أخرج هنا ألعب معها'.

ويشير إلى بقية بيوت الجيران مستذكرًا أصحابها ومن عاشوا فيها.

وقد كبر أبو خالد، في لفتا، ووعى على حياةٍ اجتماعيةٍ نابضةٍ مليئةٍ بالتفاعلات، مما ترك في قلبه وجعًا بعد أن رأى الحال وقد تقلّب وغدت قريته في عداد القرى المُهجرة.

واشتهرت لفتا بين قرى القدس لكونها إحدى أكبر هذه القرى مساحة، ما يقارب 9 آلاف دونم، وواحدة من أكثر تلك القرى تعدادا في السكان في ذلك الحين، ما يقارب 3 آلاف نسمة، ولتطور حياتها الاجتماعية.

عن ذلك يقول أبو خالد، إن 'لفتا هي عاصمة قرى القدس، وأحيانًا نسميها بوابة القدس'.

وكان الناس من أهالي القرى المجاورة يأتون إلى وجهاء لفتا، ليساعدوهم في حلّ الخلافات وإحلال الصلح بين الناس، كما قال.

وقد اشتهرت لفتا، كذلك، بمعصرتي الزيتون اللتين كان أهالي القرى المجاورة يأتون إليهما لعصر الزيتون فيها وإنتاج الزيت.

بعد التهجير

هُجّر أبو خالد، مع عائلته في نكبة عام 1948، وحطّت العائلة رحالها على بعد أمتار قليلة من لفتا، وتحديدا في قرية شعفاط، التي لم تسقط بيد العصابات الصهيونية في حينه، وإنما احتلت لاحقًا في نكسة عام 1967.

عن التهجير، يقول أبو خالد، كما يروي الكثيرون من اللاجئين الفلسطينيين، بأنهم ظنّوا أنهم سيغيبون لبضعة أيام حتى تنتهي المعارك ومن ثم يعودون.

ويشير إلى قلّة السّلاح والدعم العربيّ في ذلك الوقت، مما أدى إلى سهولة سقوط بعض القرى في يد العصابات الصهيونية.

وفي إطار المقارنة التي لا مفرّ منها بين حياة الأمس وحياة اليوم، يستذكر أبو خالد 'خيرات لفتا'، قائلًا: 'لم نكن في حاجة للخروج من لفتا للحصول على حاجياتنا الأساسية'.

وبدأ يعدد الثمار والمحاصيل التي كانت تزرع في أراضي قريته، 'عنا سفرجل، تين، عنب، تفاح، زيتون، مشمش... وكمان كنا ننتج حليب'.

أما اليوم، فيلخصه أبو خالد بالقول: 'أعيش اليوم في واحد من أفضل الأحياء في القدس من ناحية الخدمات وأريحية الحياة، ولكنني لا أقارن ذلك بلفتا أبدًا'.

وبالقرب من بيته المهجور، يضيف 'أنا هناك (في شعفاط) غير مرتاح، راحتي هنا في بيتي الأصلي في لفتا'.

علاقة مميزة مع لفتا

في علاقته مع لفتا، لا يكتفي أبو خالد، بسرد الذكريات والتألم على ما ضاع من الفلسطينيين، إنما أنشأ لنفسه طقوسًا خاصّة يغذي من خلالها هذه العلاقة، إذ يحرص أبو خالد بين الحين والآخر على زيارة قريته، والسّير في وديانها وجبالها، وتفقد معالمها.

وفي كلّ مرة يتحايل أبو خالد على أبناءه، وأحفاده، حتى لا يصرّوا على مرافقته أو على اصطحابه إليها بالسّيارة، فيفضل الذهاب إليها مختليًا مع نفسه ومشيًا على الأقدام من بيته في شعفاط.

وعندما يأتي أبو خالد، إلى لفتا، فإنه يصلها من الجهة الشّمالية، وهي الجهة التي يقع فيها بيت العائلة المُهجّر.

وكجزء من طقوسه تلك، يبادر أبو خالد بمجرد وصوله بأداء ركعتين من الصلاة تطوعًا، إما داخل البيت، أو في أول مساحة تتيح له الصلاة مقابل البيت.

عندما سألناه عن ذلك، قال لنا وهو شديد الانفعال، يحبس دموعه، أنه في بعض الأحيان يتخيل جدّه واقفًا على سطح البيت ينتظر وصوله ويراقبه من بعيد، فيبادر بالصّلاة حيث يقف بعد أن يخنقه الشوق لجدّه وللطفولة التي عاشها في كنف جدّه في لفتا قبل التهجير.

وبعد تفقد البيت والصّلاة فيه، يمشي أبو خالد بين بيوت لفتا المهجرة، حتى يصل إلى عين الماء الواقعة وسط القرية، فيشرب من مائها، ويملأ بعض الماء في زجاجة يحملها معه.

ولاحقًا يكمل السير نحو بقايا مسجد القرية ليصلي فيه مرةً أخرى، ويزور ما تبقى من قبور في مقبرة القرية.

قرية لفتا

استهدفت العصابات الصهيونية قرية لفتا في 27 كانون الأول/ يناير من العام 1947، إذ ألقوا قنبلة على مقهى فيها يعود للفلسطيني صالح عيسى اللفتاوي، فدمروا جزءًا منه.

كما نسفوا معملًا للمشروبات وبيتا في القرية.

وفي اليوم الثاني، هاجمت العصابات الصهيونية نفس المقهى بالرشاشات، فقتل سبعة من أهالي القرية.

وبحسب ما يرو بهجت أبو غربية، أحد الفلسطينيين المشاركين في معارك عام 1948، فقد قتل في هذا الاشتباك في قرية لفتا 4 من المقاتلين الصهاينة.

وقد تبع ذلك مهاجمة العصابات الصهيونية لبعض بيوت القرية، التي كانت قريبة من المستوطنات.

وقد أدى ذلك إلى بدء نزوح أهالي القرية عنها نحو الشمال، فكانت لفتا من أوائل القرى التي هُجّر أهلها في النكبة في منطقة القدس.

وفي ذلك الوقت، قبل 69 عامًا كانوا ما يقارب 3 آلاف شخص، وها هم يعدّون اليوم ما يفوق 30 ألف شخص، كما يخبرنا بذلك رئيس جمعية لفتا الخيرية، ضياء معلا.

ورغم تعاقب السنين، ما زالت عائلات لفتا تحرص على زيارة القرية بين الحين والآخر، وتنظم من أجل ذلك الفعاليات والجولات في أراضي القرية، بالقرب من الساحة الرئيسية الموجودة في مركز القرية بالقرب من عين الماء.

وقد كان آخر هذه الفعاليات يوم الجمعة الماضي، حيث اصطحبت العائلات أطفالها إلى القرية للتعرّف عليها، ولأداء صلاة الجمعة فيها، ومن ثم الاحتفال بزفة أحد العرسان.

كل ذلك يأتي في محاولة لتأكيد استمرار ارتباط الأهالي بالقرية رغم التهجير.

يذكر أن هناك ما يقارب 55 بيتًا من بيوت لفتا ما زالت موجودة حتى اليوم.

ويلاحظ في تلك البيوت أن العصابات الصهيونية كانت تعمد إلى ثقب سقوفها لمنع أهلها المهجرين من العودة إليها، كما هو ظاهر في بيت عائلة أبو خالد.

ويذكر أن سلطات الاحتلال الإسرائيلية، حتى اليوم، تمنع الفلسطينيين من العودة إلى تلك البيوت وإعمارها.

يلخص مشهدُ تلك البيوت حكاية التهجير والنكبة الفلسطينية، وقصة أرض قاتل أهلها من أجل البقاء فيها، وما زالوا حتى اليوم متمسكين بحقّ العودة إليها، ومنهم أبو خالد الذي لا يرى معنى للراحة إلا في قريته.

بعد أن يؤدي أبو خالد جميع طقوسه في لفتا، تنتهي تلك 'الزيارة'، ويعود من بعدها إلى بيته الآخر في شعفاط، وتبقى لفتا أمامه على مدّ البصر، وبعيدًا عن متناول اليدّ.

اقرأ/ي أيضًا | حي استيطاني جديد 'للحريديم' بالقدس المحتلة