بعد مرور 42 عامًا على يوم الأرض، ما زالت الأرض تشكل مكمن الصراع مع الدولة اليهودية، التي لا تنفك تؤكد على مسامعنا ليل نهار أن البلاد جميعها "أرض إسرائيل" وأنها ملك الشعب اليهودي حصرا، وخاصة في ظل الجهود المضنية التي تبذلها مؤسسات الدولة المختلفة لاستحضار المقولات والتصورات الدينية اليهودية واستبطانها في الخطاب السياسي وفرض الأسماء على الأمكنة.

هذا ما ورد في تقديم الطبعة الثانية من كتاب "يوم الأرض- ما بين القومي والمدني" للباحث د. نبيه بشير، التي صدرت عن مركز "مدى الكرمل". والتي يعيدنا فيها إلى الحلقة الأولى من حلقات الصراع، الأرض، مشيرا إلى أن التعامل مع قضية الأرض بوصفها جوهر الصراع يتطلب تطوير خطاب سياسي جديد ومغاير، إلى جانب تعزيز قوة وسلطة القيادات والأحزاب والمؤسسات التمثيلية التي تساهم في بلورة معالم هذا الخطاب.

ويعتبر الكتاب من الدراسات القليلة التي تتناول هذا الحدث، ويرى أن أهمية يوم الأرض لا تنبع من كونه يوم تحد للسلطة المغتصبة فحسب، وإنما لكونه يتمحور حول المركب الأكثر أهمية في الوجود الفلسطيني تاريخيا إنسانيا وحضاريا، ألا وهو العلاقة العضوية بين الشعب والأرض.

وفي سياق تحليله للعوامل التي أدت إلى انفجار "يوم الأرض" عام 1976، يشير البحث إلى نتاج عوامل داخلية تعود إلى تحولات تاريخية جرت في بنية المجتمع العربي الفلسطيني في البلاد في السياق الإسرائيلي، كبروز شريحة من الأكاديميين والتجار الصغار وطبقة وسطى بين العرب في البلاد منذ 1967، وإلى عوامل موضوعية تتمثل بالمد الوطني الفلسطيني، وعلو شأن منظمة التحرير الفلسطينية.

ويضع الباحث يده على بعدي الصراع اللذين مثلهما يوم الأرض، حيث شمل العنصر الحقوقي-المدني، والعنصر القومي؛ وذلك بحكم أن قضية الأرض تشكل موضوعا نموذجيا يوحد بطبيعته، بصورة موضوعية، هذين البعدين.

وفي سياق تقييمه ليوم الأرض كأسلوب نضال، يلحظ الباحث ملامح لعصيان مدني، كالإضراب العام وإغلاق طرقات وشوارع رئيسية، ومسيرات حاشدة، وتظاهرات، ومواجهة عنيفة مع قوات الجيش والشرطة، واستعمال زجاجات حارقة ضد الآليات العسكرية والشرطية.

ويؤكد الكاتب من خلال البحث الميداني والمقابلات التي أجراها لهذا الغرض، الاستنتاج الذي يقول إن العرب في إسرائيل شعروا في يوم الأرض بأنهم أقوياء، إلا أنهم "خافوا من قوتهم، فخشوا أن يمضوا قدما. وهو يشير إلى أن القيادات العربية المختلفة، لم تجرؤ على تكرار الإعلان عن إضراب عام بين السكان العرب في البلاد إلا عام 1982، بعد أن تراكمت أحداث عديدة: صدامات عنيفة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وغزو لبنان وتفاصيله المروعة".

وحول يوم الأرض وأثره في مسيرة جماهير الداخل الفلسطيني كان لنا هذا الحوار مع د. نبيه بشير.

قراءة مجددة لكتابك تكشف عن ارتباك في الخطاب السياسي الذي كان سائدا عشية يوم الأرض عام 1976، أو ما أسميته أنت "توتر بين البعد المدني والبعد الوطني"؟

نعم، لقد دفع الحزب الشيوعي الذي كان يشكل القوة السياسية الرئيسية، في حينه، باتجاه البعد المدني لموضوع الأرض ووضعه في سياق الحقوق والتمييز، بالمقابل كان المد الوطني الفلسطيني الذي يجتاح الوطن والمنطقة بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية يطغى على الحدث ويسبغه بالطابع الوطني، خاصة وأن الأرض شكلت وما زالت محور الصراع الأساسي مع الصهيونية ودولة إسرائيل.

التناقض المذكور بين المدني والوطني لم يكن نظريا أو مفتعلا، بل هو تعبير عن الواقع المركب الذي تعيشه جماهيرنا الباقية في وطنها، وهو صراع بين من يريد أن يسلخ عنها "جلدها الوطني"، ونقصد السلطة، وبين من يتمسك بهوية هذه الجماهير الوطنية، بين وبين يقع الخطاب المتلعثم للحزب الشيوعي الإسرائيلي؟

رافق يوم الأرض محاولة جادة للحزب الشيوعي الإسرائيلي لاختلاق طابع محلـي صرف للحدث، نابعة من التخوفات التي كانت تراود قياداته في تلك الفترة من ربطها بمنظمة التحرير الفلسطينية، وربط ما يحدث بين السكان العرب في إسرائيل من أحداث سياسية، بما يحدث في الضفة الغربية وقطاع غزة أو العالم العربي.

هذا ما يفسر عدم تغطية صحيفة الاتحاد "الانتفاضة" التي كانت في أوجها في شهر آذار/ مارس في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتجاهل الجهود الجبارة التي وضعتها منظمة التحرير الفلسطينية لإنجاح "يوم الأرض". وقد بذل الحزب جهودا كثيرة للحد من مساعي منظمة التحرير الفلسطينية وقوى فلسطينية وعربية أخرى للتدخل في مضامين وبرنامج يوم الأرض، أو ذكرها من على صفحات صحيفة الاتحاد، وذلك لإسباغ طابع المحلية على هذا الحدث وعدم ربطه بالمحورين القومي العربي أو الفلسطيني الوطني، لاعتقاده بأن ذلك يورط قيادة الحزب الشيوعي مع المؤسسات الإسرائيلية.

أشرت إلى صراع غير معلن داخل الحزب الشيوعي بين الجسم الرسمي وبين تيار قاده توفيق زياد وصليبا خميس هو من فرض قرار الإضراب على هيئات الحزب

يمكن الاستدلال على موقف الحزب الشيوعي من خلال اجتماعين داخليين للمكتب السياسي للحزب عقدا على وجه السرعة يومي الخميس والجمعة (25-26 آذار)، عقد الأول مباشرة بعد اجتماع شفاعمرو، وحضره كل من: مائير فلنر، توفيق طوبي، إميل حبيبي، إميل توما، سليم القاسم، جمال موسى، رمزي خوري، حنا نقارة ، وحضرا متأخرين كل من صليبا خميس وتوفيق زياد، حيث ساد الاعتقاد بين أعضاء المكتب السياسي قبل حضورهما بوجوب إلغاء الإضراب، تفاديا لما قد يحدث في ظل تهديدات أجهزة الدولة المختلفة، ولكن بحضور زياد وخميس اختلف الأمر، وخفت صوت أنصار إلغاء الإضراب.

أما الاجتماع الثاني، والذي حضره جميع المذكورين أعلاه، وعقد في بيت الرسام عبد عابدي بالقرب من مكاتب صحيفة "الاتحاد" في حيفا، فقد دار النقاش حول ضرورة الإضراب في مثل هذه الأجواء المشحونة، بعلم الحاضرين أن الإضراب هو مطلب ضروري وحاجة ماسة وناتج عن الواقع.

وقد استمع المجتمعون إلى تقديرات كيفية إنجاز الإضراب في مناطق وقرى عربية مختلفة. وكان توفيق زياد حازما جدا، حيث كان جوابه قاطعا: "يجب أن يجري الإضراب، وسينجح بالتأكيد". وأشار زياد إلى أن رؤساء السلطات المحلـية المعارضين للإضراب لا يعكسون الأجواء الحقيقية بين الجمهور العربي في البلاد وقد طرحت آراء مخالفة لذلك، وكان هناك من التزم الصمت ولم يعبر عن رأيه، فيما وقف غالبية الذين تكلموا في الاجتماع إلى جانب الاستمرار في الدعوة إلى الإضراب.

ولكن من وراء الكواليس كانت نقاشات ومواجهات بين التيار الرافض للإضراب والتيار المؤيد له

نعم، مائير فلنر والجسم الرئيسي للحزب حاولوا التراجع قبل يوم الأرض بأسبوع عن قرار الإضراب، عندما أدركوا أن "الموضوع كبير"، إلا أنهم لم يستطيعوا فتركوا القرار للشارع، ولكن زياد وخميس خاضا مواجهة داخلية حامية الوطيس مع التيار المناهض للإضراب.

إلى ماذا استندت في تبين هذه الحقائق؟

إضافة إلى المحاضر الرسمية وبينها شهادتي مائير فلنر وتوفيق طوبي، استندت إلى شهادات شخصية، بينها شهادتين هامتين لماجد أبو يونس من سخنين وعمر سعدي من عرابة، وقد نقلا على لسان توفيق زياد قوله إن "الحزب لا يريد الإضراب، أنتم قودوا العمل (المقصود فرعي سخنين وعرابة) وأنا أدعمكم".

في النهاية خيار الإضراب هو الذي انتصر؟

انتصر لأنه كان خيار الجماهير التي صنعته وصنعت يوم الأرض، ولكن موقف القيادات بعد يوم الأرض سجل تراجعا كبيرا على صعيد الخطاب القومي، فقد جرى التشديد على البعد المدني، وفي أحسن الأحوال اتسم هذا الخطاب بالتأرجح بين القومي والمدني، وهو غير بعيد من كونه خطابا متشائلا. علما أن ظروفا موضوعية، ولدت تصعيدا للصراع بين السكان العرب والدولة، بعد أن أغلقت الأخيرة بمؤسساتها وسياساتها جميع منافذ التسوية بين القومي والمدني، ناهيك عن نشوء جيل جديد لم يعد على استعداد للمضي في تلك السياسة.

*د. نبيه بشير: حاصل على الدكتوراه في الدراسات اليهودية (جامعة بن غوريون في النقب). أستاذ مساعد في كلية الدراسات العليا في جامعة بير زيت. وباحث في تفسيرات التوراة في العصور الوسطى. من إصداراته: حول تهويد المكان (مدى الكرمل، 2004)؛ الكتاب الخزري: كتاب الرد والدليل في الدين الذليل (لأبي الحسن يهودا اللاوي، بيروت: منشورات الجمل، 2012). يعمل حاليا على إعداد كتب يهودية صدرت في القرن العاشر بالعربية.