الجزء الثالث: معارك الجيش العراقي عام ١٩٤٨ حتى الهدنة الأولى


"ماكو أوامر" أي ليس هناك أوامر، هي عبارة مشهورة قيلت على لسان أحد القادة العسكريين العراقيين الميدانيين في حرب فلسطين ١٩٤٨، وما زالت حتى اليوم تستعمل في سبيل ذِمّ الجيوش العربية في الحرب، والتعبير عن تخاذلها عن تحقيق النصر على الصهاينة المحتلين، فأصبحت تعبيرا شعبيا ممزوجا بالتهكم والمرارة في آن واحد، وصارت عبارة يستعملها كل من أراد أن يظهر للناس أن النكبة هي من فعل الدول العربية المتخاذلة، ومن أجل أن يبرر لنفسه وغيره من الفلسطينيين، موافقته على قرار التقسيم عام ١٩٤٧، في إشارة إلى أن هذا هو الحل الأمثل في ظل الضعف العربي الفلسطيني الشامل، ناسيا أو متناسيا، أن القرار كان قد صدر في إطار مشروع إمبريالي هدفه إضعاف العرب والسيطرة على مقدراتهم، باستعمال ذراعه الصهيونية المزروعة في المنطقة العربية.

"ماكو أوامر" هي عبارة قيلت في ظرف معين، وخلال حادثة واحدة، وبذلك لا يمكن أن نلخص دور الجيش العراقي في حرب ١٩٤٨ بهذه الجملة، والتي قيلت عندما نفدت الذخيرة بعد أن قصفت القوات العراقية مستعمرة "چيشر" في غور الأردن، لمدة خمسة أيّام دون أن تتمكن من اختراق تحصيناتها، فطلبت القيادة الميدانية ذخائر للمعركة، فكانت الإجابة "ماكو ذخائر"، فسأل القائد ما هي الأوامر؟، فكانت الإجابة "ماكو أوامر".

وقيل إن هذه الجملة كانت قد قيلت على لسان القائد العراقي في منطقة جنين، بعد المعركة الباسلة التي خاضها وجنده، وانتصاره على قوات "الهاغاناه" الصهيونية، عندها طالبه الفلسطينيون بأن يتقدم الجيش العراقي نحو القرى العربية شمالا من أجل استعادتها من الاحتلال، فأجابهم القائد: "ماكو أوامر"، فصارت تستعمل في السياق المذكور أعلاه. لكن هذه العبارة ومهما صعب فهمها على الشعب الفلسطيني المنكوب، والمتعلق بأحبال الجيوش العربية التي جاءت لتحريره، إلا أنها لا يمكن أن تلخص دورا كبيرا لجيش قدم خيرة شبابه في بعض معارك فلسطين، والذي امتاز شعبه وجنوده عَلى حدّ سواء بالحماسة والغيرة على القضية الفلسطينية، وإن كان قسم من قيادة العراق السياسية مهتما سوى بالشؤون العراقية المحلية، ولم ترد أ، تزج بالجيش في معارك خارج الحدود، ولكنها وتحت تأثير الضغط الشعبي الوطني، اضطرت لإرسال كافة وحدات الجيش إلى معركة فلسطين، بحيث وصلت أعداده، أي الجيش، إلى أكثر من ستة عشر ألفا ما عدا المتطوعين في إطار جيش الإنقاذ.

بشرى خير

كان قدوم الجيش العراقي إلى فلسطين عام ١٩٤٨ بمثابة حدث مهم وبشرى خير بالنسبة للشعب الفلسطيني، خاصة أن الشعب العراقي كان متحمسا لخوض هذه الحرب، ولأن هذا التدخل العسكري كان بفضل ضغط شعبي جماهيري، إذ أن المظاهرات كانت قد عمت العراق مطالبة بتحرير فلسطين من العصابات الصهيونية، حيث فهم الشعب العراقي أن جيش الإنقاذ لن يكون قادرًا على إنقاذ أي شيء، بل إنه لم يحقق أي انتصار يذكر، من شأنه أن يغير مجرى المعارك الدائرة في فلسطين.

كان جيش الإنقاذ يضم في صفوفه الكثير من الجنود والضباط العراقيين، الذين ذهبوا للتطوع تحت رايته، حيث ان أغلب المتطوعين كانوا من سورية والعراق. لم يكن هذا محض صدفة، إذ أن علاقات العراقيين من الثورة الفلسطينية كانت قد توطدت عندما توجه ثوار فلسطينيون مركزيون إلى العراق، خلال وعلى إثر ثورة ١٩٣٦-١٩٣٩ في فلسطين، هربا من ملاحقة سلطات الانتداب لهم، أمثال الشهيد عبد القادر الحسيني والشهيد حسن سلامة والشهيد عبد الرحيم محمود وغيرهم، بل إنهم بقوا في العراق، وشاركوا في ثورة رشيد عالي الكيلاني ضد بريطانيا والعائلة الملكية الهاشمية وذلك عام ١٩٤١، حيث أن رشيد عالي الكيلاني كانت تربطه علاقات قوية مع الحاج أمين الحسيني، وكانا متفقين على مبدأ التقارب مع ألمانيا، ومناهضة البريطانيين مستغلين الحرب العالمية الثانية.

ليس هذا فحسب، بل إن علاقات العراقيين مع الثورة الفلسطينية وثوارها، ابتدأت قبلها بكثير، حيث قام القائد فوزي القاوقجي والذي كان ضابطا في الجيش العراقي، بالتطوع في صفوف ثورة ١٩٣٦-١٩٣٩، بعد أن قدم استقالته من الجيش، وقدم إلى فلسطين مع أكثر من ٥٠٠ متطوع، منهم الكثير من العراقيين.

كل هذه الأسباب، جعلت الفلسطينيين سعداء بدخول الجيش العراقي الحرب الدائرة في فلسطين، خاصة وأنه كان أحد أحسن الجيوش العربية، ومجهزا بأسلحة قوية ولديه قوات جوية، من شأنها أن تساهم في قلب موازين القوى لصالح العرب.

قوام الجيش العراقي عشية الحرب

رغم أن بريطانيا هي من أسست الجيش العراقي في سنوات الثلاثينيات من القرن الماضي، إلا أنها صارت تنظر إليه نظرة شكٍّ وريبة، وذلك بعد ثورة رشيد عالي الكيلاني عام ١٩٤١، حيث صارت تخاف على نفسها من انقلاب الجيش عليها، كما حصل في معركة "مايس" في ذلك العام، حيث تواجهت بريطانيا مع الجيش العراقي وانتصرت عليه، ومن بعدها لم تعد تقوم بتسليحه تسليحا حديثا، يمكنه من الدخول في معارك هجومية جدية.

عشية حرب ١٩٤٨، كان الجيش العراقي مؤلف من لواءي مشاة غير مجهزين بأسلحة حديثة كافية من أجل حرب قوية، وتنقصهما الذخيرة اللازمة من األ معركة طويلة الأمد. كذلك كان في الجيش كتيبة مدرعة، تنقصها أيضا قطع الغيار والذخيرة الحية الكافية لخوض الحرب، رغم أنها ضمت ١٢٠ مدرعة ودبابة، ٧٠ منهم من نوع "هامبر ٤" و"دايملر"، مجهزة بمدافع ضد الدبابات عيار ٥٧ مم، أو ٤٠ مم.

كما وضم الجيش كتيبتي مدفعية مجهزة بمدافع قديمة من نوع "ڤابتسر" عيار ٣.٧ إنش أو ٤.٥ إنش، وكذلك مدافع عيار ٦ إنش. كانت معظم ذخائر هذه المدافع قديمة وغير صالحة تماما، حيث أن أغلبية القذائف كانت من النوع المستعمل في الحرب العالمية الأولى. بالإضافة إلى ذلك ضمت الكتيبة مدافع أكبر حجما عيار ٢٥ إنشا من النوع الحديث، مجهزة بما يقارب 18 ألفا من القذائف الصاروخية، بالإضافة إلى بعض المدافع ضد الدبابات والطائرات.

أما بالنسبة للطيران فكان الجيش العراقي يمتلك ٦٢ طائرة، نصفها طائرات نقل من نوع "أنسون"، وقاذفات خفيفة من نوع "چلادياتور"، وثلاث طائرات حديثة من نوع "فيوري"، أضيف إليها سبع طائرات أخرى في شهر أيار ١٩٤٨، ولكنها لم تجهز بالمدافع أو الذخائر لتكون حاضرة من أجل المشاركة في الحرب.

القوات العراقية التي خاضت معارك عام ١٩٤٨

ابتدأ الجيش العراقي الحرب في ١٥ أيار/ مايو ١٩٤٨، بجيش قوامه ٢٥٠٠ جندي وضابط، وهم يشكلون لواء مشاة واحد، ووصل هذا العدد إلى ١٦٠٠٠ ألفا في نهاية الحرب، وفِي روايات أخرى ١٢٠٠٠ ألفا.

كانت الخطة العراقية (خطة چلوب باشا)، تفيد بأن يصل اللواء الأول إلى المفرق شرقي الاْردن، ومن هناك يجتاز النهر من جسر المجامع بعد انتهاء الانتداب البريطاني لفلسطين، أي في ١٥ أيار / مايو ١٩٤٨.

وصلت كتيبة المشاة الأولى إلى المفرق في ١٤ أيار/ مايو ١٩٤٨، وكانت هذه الكتيبة تمتلك سرية مدفعية مجهزة بمدافع عيار ٤.٥ إنش، وسرية مدرعات، وكان قائد الكتيبة هو العقيد الركن نجيب الربيعي.

وبعدها قدم إلى فلسطين رتل "الأسد"، ويقوده المقدم الركن نوح عبدالله الحلبي، وتمركز هذا الرتل في جنين. ورتل "النمر" بقيادة المقدم الركن طارق سعيد فهمي، وتمركز في طولكرم. ورتل "قريش" بقيادة الرئيس سعيد القريشي وتمركز في قلقيليه، ورتل "فهد" والذي بقي في نابلس كقوة احتياط، وكان يقوده رفيق العارف. وكل هذه الأقسام كانت تابعة للواء الأول.

في الثاني من حزيران/ يونيو ١٩٤٨، قدمت إلى جنين كتيبة مشاة تابعة للواء الرابع بقيادة العقيد الركن صالح زكي توفيق. وفِي نفس الوقت تقريبا قدمت إلى نابلس، الكتيبة الثانية من اللواء الخامس بقيادة المقدم عمر علي، الذي قاد معركة جنين المشهورة. وكذلك قدم فوج آخر من اللواء الخامس بقيادة شلمون الآشوري وتمركز في منطقة جنين.

الجيش العراقي يهاجم مستعمرة "چيشر"

في الحادي عشر من أيار/ مايو ١٩٤٨، أبلغ متصرف لواء عجلون في الاْردن، بيفوستين بهاراف، سكرتير شركة الكهرباء في فلسطين، بأن على كل العمال المسلحين في محطة الكهرباء "روتينبرچ" في جسر المجامع، (يسميها الصهاينة محطة "نهارايم")، ترك المنشأة قبل انتهاء الانتداب البريطاني وإلا تم اعتقالهم، حيث أن محطة الكهرباء كانت تقع داخل الأراضي الأردنية.

كان هذا بمثابة إنذار للصهاينة بأن الهجوم وشيك ومن ناحية جسر المجامع، ولذلك قاموا بتفجير الجسرين الواقعين على النهر، لمنع القوات العربية أيا كانت من عبورهما. يدعي الأردنيون أن التفجير كان بسبب أن الجنود العراقيين وبعد وصولهم واعتقال اليهود العاملين في المشروع، قاموا بعمليات سلب ونهب، غافلين عن مفجري الجسور، أما العراقيون فيؤكدون أن التفجير حصل قبل وصولهم، وهذا ما تؤكده المصادر الصهيونية.

بسبب تفجير الجسرين، وعدم قدرة العراقيين اجتياز النهر من نقطة جسر المجامع، والتي تقع في مرمى المدفعية الصهيونية، ذهبت القوة العراقية جنوبا على بعد أربعة كيلومترات، وذلك في نقطة ممر وادي البيرة، وأقامت هناك جسورا مؤقتة من أجل عبور المدرعات والجنود. في نفس الوقت قامت المدفعية العراقية بقصف مستعمرة "چيشر" ومحطة الشرطة القريبة منها، والتي كانت مشرفة على نهر الاْردن، وتضمن للمدافعين الصهاينة أفضلية قتالية في نقطة العبور عند جسر المجامع.

استمر القصف خلال النهار كله، مما مكن الجنود العراقيين من عبور النهر، من النقطة الجنوبية ومن نقطة شمال كيبوتس "چيشر"، وتمكنوا من السيطرة على تلة "الجمل" في اليوم التالي، وهاجموا المستعمرة ونقطة الشرطة القريبة منها، بمشاركة طائرات حربية عراقية. كانت المقاومة شديدة، مما منع تقدم العراقيين إلى داخل المستعمرة، بل لم يستطع الجيش العراقي الاقتراب منها، متكبدا خسائر في العتاد والأرواح.

معركة كوكب الهوى وخسارة إستيراتيجية

كانت قرية كوكب الهوى تشرف على غور الاْردن كله، وتشكل منطقة إستيراتيجية حربية لمن يريد السيطرة على المنطقة، ولذلك قامت كتيبة "چولاني ٣"، من الهاغاناه بمهاجمة القرية في ١٣ أيار/ مايو ١٩٤٨، لتمنع أهل القرية من الهجوم على مستعمرة "چيشر" بهدف مساعدة الجيش العراقي.

سقطت القرية بالرغم من مقاومة مناضليها القلائل، حيث واجهوا قوة عسكرية نظامية مدربة جيدا ومجهزة بأحسن العتاد، مما مكن قوات "چولاني" من التمركز في القرية على ارتفاع ٤٠٠ م، وعلى بعد كيلومترين من مستعمرة "چيشر".

في الخامس عشر من أيار/ مايو ١٩٤٨، قام الجيش العراقي بالهجوم على كوكب الهوى من أجل حماية الجناح الأيسر للوحدات التي تهاجم مستعمرة "چيشر"، فنشبت معركة حامية الوطيس بين الطرفين، وتقدم العراقيون بقيادة الرئيس الأول طالب جاسم العزاوي، واستطاعوا السيطرة عليها، ولكن وحدات چولاني بقيت تنفذ هجمات مضادة لمدة ثلاثة أيّام متعاقبة، وخلال ذلك كانت تأتيهم نجدات جديدة، وحاصروا القوة العراقية المتمركزة على التلة من كل جانب. وبعد أن تكبد العراقيون خسائر فادحة في الأرواح، تزيد عن ثلاثين شهيدا، منهم قائد السرية الاولى الرئيس طالب جاسم العزاوي، انسحبوا في الثامن عشر من أيار/ مايو ١٩٤٨ من الهضبة الإستيراتيجية، ولَم يعاودوا محاولة احتلالها بل اكتفوا بقصفها بالمدفعية ومدافع الهاون، وكانت لخسارتهم كوكب الهوى، أكبر الأثر على استمرار المعارك ونتائجها في منطقة الغور.

فشل في معركة "چيشر" وانسحاب من المنطقة

في فجر يوم السابع عشر من أيار/ مايو ١٩٤٨، شن الجيش العراقي هجوما على كيبوتس "چيشر" من موقعين، الأول من شمال المستعمرة عند المضخة المنصوبة على النهر لشركة البترول العراقية، وهناك عبرت المدرعات العراقية؛ ومن جنوب المستعمرة حيث هاجمت المصفحات من هذه الناحية مطلقة النار بكثافة. في الوقت نفسه قامت الطائرات العراقية بالإغارة على المستعمرة.

في ذات اليوم قامت وحدة عسكرية من كتيبة "چولاني" بهجوم مضاد من أجل احتلال تل الجمل، ولكنها فشلت نتيجة الكثافة النارية العراقية، ولكن هجومها هذا خفف من وطأة الهجوم على مستعمرة "چيشر".

رغم ذلك استطاعت المدرعات العراقية اختراق السور المحيط بمركز الشرطة، وهدم قصفها جدران من المركز، وقتلت عددا من الحامية المتمركزة في المكان، ولكنها تعرضت إلى وابل من قنابل المولوتوف عند اقترابها من المدافعين، مما أدى إلى إعطاب ست مدرعات، ولكن القصف العراقي للمستعمرة ولمركز الشرطة استمر، بينما ابتدأ المشاة بالزحف من هضبة الجمل، حتى وصلوا إلى مسافة ٤٠٠ م من جدار المستعمرة، ولكن اليهود قاموا باستعمال الرشاشات والمدافع في صد المهاجمين، وأوقعوا فيهم خسائر كبيرة، تقدر بستين شهيدا، وكانت هذه الخسائر كافية لوقف الهجوم على المستعمرة، ولكن العراقيين استمروا في محاصرتهم لها ولكوكب الهوى حتى ٢٢ أيار/ مايو ١٩٤٨، مكتفين بالقصف المدفعي للموقعين.

في ٢٢ أيار / مايو ١٩٤٨ صباحا، أحضر الصهاينة مدفعي ٦٥ ملم من نوع "نابوليونتشكيم" (وهو اسم أطلقه الجنود الصهاينة على هذه المدافع)، وهي من نفس نوع المدافع التي استعملت ضد الجيش السوري في معركة "دچانيا" (انظر الحلقة السابقة عن معارك الجيش السوري في حرب ١٩٤٨)، وقوموا بوضعها في كوكب الهوى، وصوبوها باتجاه الجيش العراقي وصاروا يقصفونه بشكل عشوائي، وبذلك تعرضت قوات المشاة العراقية لنار هذه المدافع القاتلة، وصار الجنود يتفرقون بشكل غير منظم، كما وحصل أن أصابت إحدى القذائف صهريج وقود عراقي، وأحدثت انفجارا كبيرا، اضطر المدرعات العراقية إلى الانسحاب لأنها كانت في مرمى المدفعية الصهيونية.

خسر العراقيون الكثير من الشهداء، وبعد أسبوع ونيف من دخولهم الحرب لم يحققوا أي انتصار كبير، فتقرر أن ينسحب الجيش من هذه المنطقة "المليئة بالقلاع الحصينة"، كما وصفها بعض القادة العراقيين، وفِي اليوم التالي انسحبت كل القوات العراقية إلى ما وراء النهر من الناحية الشرقية، وفِي اليوم التالي احتلت الهاغاناه هضبة الجمل، ولَم يبق شيء مما سيطرت عليه القوات العراقية في فلسطين.

وهكذا منيت القوات العراقية بخسارات فادحة، وأصابها ما أصاب قبيلها، الجيش السوري، ولنفس الأسباب: الخطة العسكرية المليئة بالأخطاء، ورداءة الأسلحة وقلة الذخيرة، وعدم دراسة قوة العدو ومواطن ضعفه، فدخل الجنود في مغامرة محفوفة بالمخاطر، وغامضة المعالم.

معارك في منطقة المثلث الجنوبي

انسحب الجيش العراقي من منطقة غور الاْردن في ٢٣ أيار/ مايو ١٩٤٨، ودخل من جديد إلى فلسطين من جسر "دِمية"، وانضمت إليه تعزيزات عراقية جديدة، وانتشر في منطقة جنين - طولكرم - قلقيليه، ونصب مدافعة في مناطق مرتفعة نسبيا في كفر قاسم، والجبيلات قرب طولكرم. مما يجدر ذكره هنا أن قادة الجيش العراقي، وحسب سير المعارك فيما بعد، لم تكن لديهم أي خطة عسكرية هجومية واضحة المعالم، بل إنه، أي الجيش العراقي، اتخذ موقف الدفاع في أغلب الأحيان.

بعد تمركز الجيش في المنطقة المذكورة، فتح نيرانه على لواء "إسكندروني" (لواء في الجيش الإسرائيلي)، وذلك بهدف تخفيف الضغط عن الجيش الأردني في معركته في منطقة اللطرون ضد قوات الهاغاناه، كان الهجوم موجها نحو مستعمرة "كفار يونا"، و"چئوليم"، و"كفار يعبتس"، و"عين ڤيرد"، وذلك جنوب شارع طولكرم - نتانيا. تكلل الهجوم العراقي بالنجاح، إذ أنه سيطر على "چئوليم" في ٢٨ أيار/ مايو ١٩٤٨، ولكن هجوما مضادا من قبل قوات "الهاغاناه" و"الإيتسل" أدت إلى خروجه من هذه المستعمرة، بل إن الإيتسل قام باحتلال رأس العين مع مضخات المياه الهامة فيها، وذلك في ٣٠ أيار/ مايو.

قام الجيش العراقي بأكثر من هجوم مضاد على القوات الصهيونية، مستعينا بمناضلين فلسطينيين، وعلى رأسهم الشهيد القائد حسن سلامة، والذي قضي بعد إصابته بشظية في رئته اليسرى، حتى استطاع المناضلون والجيش إرجاع رأس العين إلى سيطرة العرب، بعد أن تكبدت قوات الإيتسل خسائر فادحة.

خطة صهيونية لدحر الجيش العراقي

سحبت القوات الصهيونية قسما كبيرا من جنودها، ووحدة "چولاني" خصوصا، من غور الاْردن بعد انسحاب الجيشين السوري والعراقي من هذه المنطقة، وصارت تعد العدة من أجل تحقيق ضربة استباقية على الجيش العراقي، وتكبيده خسارات فادحة، ومنع أي تقدم له باتجاه العفولة القريبة من مكان تواجده، خاصة أنها تقع بين الناصرة، حيث يتمركز جيش الإنقاذ، وبين جنين وهي في حدود سيطرة الجيش العراقي.

كانت الخطة تقضي بأن يتم التحضير للهجوم على مدينة جنين، بعد أن يتم احتلال القرى العربية الموجودة على جانبي جبال الجلبوع، وذلك على يدي الكتيبة الرابعة من لواء "چولاني"، ثم تقوم وحدات من لواء "كرملي" باحتلال الطرق المؤدية إلى مدينة جنين، والمواقع والمرتفعات المحيطة بها، خاصة المرتفعات الجنوبية الغربية والشرقية، والتي تضمن لمن يسيطر عليها، احتلال المدينة وتمكنه من حمايتها من هجمات محتملة من الفلسطينيين أو القوات العربية. أطلقت القيادة العسكرية اسم حملة "إيرز" على خطة لواء "چولاني"، وحملة "يتسحاك" على خطة لواء "كرملي".

في ليلة ٢٨-٢٩ أيار/ مايو ١٩٤٨، هاجمت كتيبة الرابعة من لواء "چولاني" قرية زرعين، واحتلتها بعد مقاومة ضعيفة، ثم فجرت بيوتها بعد أن هجرها أهلها كي لا يعودوا إليها، ثم قامت في الليلة التالية باحتلال القرى نورس والمزار وصندلة وعربونة، وفِي نفس الليلة قامت الكتيبة الثالثة من "چولاني" باحتلال قرية اللجون ومفرق اللجون ومركز الشرطة الذي يقع عند المفرق.

في الليلة التالية، أي ليلة ٣١ أيار/ مايو - ١ حزيران/ يونيو ، ابتدأت حملة "يتسحاق" على يد الكتيبة ١٣ من "چولاني" باحتلال قرية عرابة والجلمة ومقيبلة.

الخطة الصهيونية لاحتلال جنين

كانت ترابط في جنين حامية عربية قليلة العدد والعدة، ولا يتجاوز عدد مناضليها أكثر من ٢٥٠ من جنين والقرى المجاورة، بينما كانت قوات "كرملي" و"چولاني" والتي انطلقت من أجل احتلال جنين تعد أكثر من ٤٥٠٠ جندي موزعة على أربع فرق، كل منها مكون من ١٠٠٠-١٢٥٠ جنديا وضابطا، وهما الكتيبة الأولى من لواء كرملي والتي اتجهت لاحتلال التلال الجنوبية الغربية لجنين، والكتيبة الثانية لنفس اللواء والتي انفصلت عن الكتيبة الأولى بعد مقيبلة، إذ وصلت الكتيبتان هناك بواسطة السيارات، وسارت الكتيبة الثانية باتجاه الجهة الجنوبية الغربية للمدينة، وبذلك تحكم الكتيبتان طوقا عسكريا على جنين من جهة الغرب لمنع وصول أي نجدات عراقية من هذه الجهة، أي الجنوبية. الكتيبة ١٣ من قوات چولاني احتلت القرى التي تعترض القوات المتجهة إلى جنين، بينما كان على قوة أخرى من الدبابات أن تقتحم المدينة من شارعها الرئيسي، فتخليها من أهلها وتقضي على كل مقاومة داخل المدينة.

بالإضافة إلى كل هذا، كان منوطا بكتيبة من لواء "اسكندروني" أن تهاجم القوات العراقية عند طولكرم، فتمنعها من منع احتلال المدينة، ولكن ذلك لم يحدث بسبب أن قوات "اسكندروني" استنفرت للمشاركة في معارك القدس الضارية.

كذلك كان على القوات الصهيونية زرع الألغام في الطرق المؤدية لجنين من أجل تعطيل مدرعات أو قوات مشاة عراقية وإبطاء تدخلها في المعركة، ومن وحي هجوم الإيتسل على يافا، كان مقررا أن تقوم المدفعية الصهيونية بقصف المدينة قصفا شديدا، بالإضافة إلى قصف بالطائرات، مما يجعل أهلها يفرون منها، فتضعف همم المدافعين عن المدينة، كي يتركوا المدينة لقمة سائغة لوحدات كرملي وغيرها.

الهجوم الصهيوني واحتلال المدينة

ابتدأ الهجوم في ليلة ٢-٣ حزيران/ يونيو ١٩٤٨، وكما تقرر في الخطة، هاجمت الوحدة الثانية للواء كرملي من جهة الشرق من المزار وعربونة، والوحدة الأولى هاجمت عن طريق وادي برقين من الجهة الغربية للمدينة. في نفس الوقت قامت الطائرات بإجراء طلعات قتالية، وألقت بقنابلها على المدينة والمقاتلين المتمركزين في نقاط الحراسة حول المدينة، وابتدأت المدفعية بقصف شديد بكل المواقع العربية، مستعملين مدافع عيار ٦٥ ملم من نوع "نابوليونشيكيم"، والتي نجحت في معارك الغور، كما تقدم في هذه الحلقة والحلقة السابقة.

في الساعات الأولى، بل في اليوم الأول للمعركة، تمت الأمور كما أرادها الصهاينة، فقد انسحبت القوة العراقية المتمركزة في تل الخروبة، بعد اشتباك عنيف مع وحدة "كرميلي"، حيث أن قلة السلاح وقلة العدد حسمت المعركة لصالح المهاجمين.

في الناحية الغربية كانت الأمور أصعب بالنسبة للوحدات الصهيونية، بسبب وعورة المنطقة وصعوبة قيادة سيارات "الجيب" التي أحضرت مدافع الهاون معها. مع فجر الثالث من حزيران/ يونيو ١٩٤٨، ابتدأت هذه الوحدات بقصف التلال التي يتمركز فيها الجيش العراقي بواسطة مدافع الهاون، وخلال فترة قصيرة انسحب العراقيون من هذه الجهة أيضا، مما أدى إلى محاصرة جنين من جميع الجهات تقريبا.

في هذه اللحظة كان على قوات الوسط أن تحتل المدينة، وأن تهاجم قوات اسكندروني في طولكرم، ولكن هذا الهجوم لم يحصل بسبب معركة اللطرون، أما المدرعات الصهيونية فقد انطلقت باتجاه وسط المدينة، وصارت تقصف بعشوائية في طريقها لإسكات أي مقاومة، وكانت مجموعات من المشاة تتقدم بحافلات مدرعة، ولكن هذه تعرضت لألغام أرضية مما عطلها، وأجبر الجنود الصهاينة على التقدم راجلين.

عند الظهر كانت جنين محتلة وخالية من أهلها، ما عدا مقر قيادة الجيش العراقي في القلعة، وهناك لجأ مواطنون في المدينة خوفا على حياتهم، ولكن ذلك لم يردع القوات المحتلة من الهجوم وقصف القلعة بقوة.

كان عدد أفراد الكتيبة العراقية في القلعة حوالي مئتين وخمسين مقاتلا بقيادة المقدم نوح الحلبي، والذي دافع وجنوده عن مواقعهم بشراسة حتى ابتدأت ذخيرتهم بالنفاد، فطلب النجدة من وحدات الجيش العراقي في المنطقة، لأن سقوط القلعة معناه سقوط جنين بيد الصهاينة، وسيكون من الصعب تحريرها بعد ذلك.

الهجوم العراقي المضاد

لبّت كتيبة المقدم عمر علي النداء، وكانت هذه الكتيبة على وشك التمركز في المثلث الجنوبي، وكان ذلك في ساعات الفجر الأولى من يوم الثالث من حزيران/ يونيو ١٩٤٨، وابتدأت هذه القوات بالتحرك فورا من جهة الجنوب باتجاه جنين، مما أدى إلى هجوم صهيوني بالطيارات على هذه الكتيبة، بل وقصفت نابلس ودير شرف من أجل إلهاء هذه القوة عن التقدم إلى جنين، ولكن هذا القصف لم يردع الكتيبة العراقية من التقدم، مما أدى بالصهاينة إلى استعمال مدافع الهاون و"نابولينشيكيم" سيّئ الذكر علهم يفلحون في ثني القوة العراقية عن هدفها، ولكن القائد المقدم عمر علي استمر في التقدم وقصف القوات الصهيونية في التلال الجنوبية التي احتلتها، وكان ذلك في صباح الثالث من حزيران/ يونيو ١٩٤٨، حيث وصلت الوحدة العراقية في "الدقيقة التسعين" قبل أن تنفذ ذخيرة القوة العراقية في القلعة، وبذلك خففت الهجوم عليها.

تعرضت القوات الصهيونية المتمركزة في تلال جنين الجنوبية الغربية إلى قصف شديد من قبل القوات العراقية، والتي استعملت المدافع الرشاشة ومدافع الهاون والطائرات. في البداية تركز الهجوم على الكتيبة الأولى لكرميلي في المرتفع الجنوبي الغربي، والتي أصبح وضعها صعبا أمام الهجمات العراقية، حيث أن إحدى القذائف أصابت مركز قيادة الكتيبة، فقتل الكثير من قيادتها، منهم نائب قائدها، فابتدأت هذه القوة بالانسحاب، خاصة أن الحر والعطش الشديد ساهما في زيادة خطورة الوضع، ولكن القوات المنسحبة تعرضت لخسائر فادحة بنيران المدفعية العراقية.

اندفع المشاة العراقيون إلى التلة، واشتبكوا مع الكتيبة الصهيونية بالسلاح الأبيض، وكان قائد السرية التي هاجمت التل هو الرئيس الأول ادريس عبد اللطيف، الذي أبلى بلاء حسنا في المعركة، والتي دحر فيها الصهاينة حتى محطة السكة الحديدية، تاركين وراءهم جثث قتلاهم.

حاولت القوة الصهيونية المرابطة على الجهة الأخرى من التلال، أي الجهة الشرقية، اعتراض القوات العراقية بالمصفحات في مداخل المدينة من الناحية الشمالية بجانب الجامع الكبير، ونشبت معركة طاحنة بين هذه المصفحات والجنود العراقيين، وانتهت بمقتل أكثر من عشرين جنديا صهيونيا واندحار القوة المعتدية.

في اليوم نفسه، وعند ساعات بعد الظهر، وصل إلى جنين الفوج الثاني للواء الرابع بقيادة شليمون ميخائيل، وزج في المعركة معاونا لفوج المقدم عمر علي، واستمرت المعارك كل النهار والليل، والقوات العراقية مع المناضلين الفلسطينيين والعرب الذين انضموا إلى المعركة، تقصف وتهاجم القوات الصهيونية حتى اضطرتها إلى الانسحاب في فجر الرابع من حزيران/ يونيو ١٩٤٨، حيث أن قائد القوات الصهيونية في الشمال، موشي كرمل، قرر الانسحاب خوفا من سقوط المزيد من القتلى تحت وقع الهجمات العراقية، وذلك بعد رفض القيادة العسكرية الصهيونية العليا تنفيذ هجوم على طولكرم وذلك لعدم قدرتها على ذلك.

استمرت المعركة حتى الساعة الأخيرة قبل الظهر، بعد أن لاحق الجيش العراقي الفلول الصهيونية لتطهير مدينة جنين منها، حيث تكبدت هذه القوات، أي الصهيونية، خسائر فادحة في الأرواح، أمام شجاعة وإصرار الضباط والجنود العراقيين والعرب على النصر، رغم أن القوات المحتلة كانت أكثر عدة وعتادا.

تعتبر هذه المعركة علامة فارقة في حرب عام ١٩٤٨، إذ أنها أجلت احتلال منطقة جنين إلى عام ١٩٦٧، ولو أن الجيش العراقي استمر في المعركة لكان قد استرد كل منطقة مرج ابن عامر وجبال الجلبوع، ولكن أوامر جاءت من بغداد بوقف التقدم، وعدم التوغل في الأراضي التي احتلها الصهاينة، مما أدى إلى بقاء هذا الوضع حتى الهدنة الأولى، والتي دخلت إلى حيّز التنفيذ أيّاما معدودات بعد هذه المعركة التي انتصر فيها العرب على اليهود، بفضل بسالتهم وقوة إصرارهم على النصر.


المصادر:

١. "بيني موريس"، ١٩٤٨ تاريخ الحرب العربية الإسرائيلية الأولى؛

٢. عارف العارف، نكبة فلسطين والفردوس المفقود، ١٩٤٧-١٩٥٢؛

٣. ترجمة أحمد خليفة، حرب فلسطين ١٩٤٧-١٩٤٨، الرواية الإسرائيلية الرسمية، مترجم عن تاريخ الهاغاناه؛

٤. أفراهام أيالون، مقالة بعنوان "التدخل العراقي في حرب الاستقلال"؛

٥. "معرخوت"، تاريخ أرض إسرائيل، حرب الاستقلال.