«القبرصة» في 1975 «والعرقنة» في 2007 ../ كمال ذبيان
قبيل اندلاع الفتنة الداخلية في لبنان عام 1975، كان العميد ريمون اده يحذر من «قبرصته»، اذ قبل عام كانت وقعت الاحداث الطائفية في قبرص بين «القبارصة الاتراك» (مسلمون) و «القبارصة اليونان» (مسيحيون)، وانقسمت الجزيرة الى شطرين، وصدق ما توقعه رئيس حزب الكتلة الوطنية الذي كان معروفا بكثرة قراءاته واطلاعه ومواكبته للاحداث ومتابعته للمعلومات بدقة، واصبحت مواقفه تعني اشارة لما قد يحدث.
وبعد الاحتلال الاميركي للعراق، وانهيار الدولة والمؤسسات فيه لا سيما الجيش، وبروز امتثال سني - شيعي، وتطهير عرقي وطائفي، بدأ الحديث وقبل اكثر من سنتين عن «عرقنة» لبنان، بعد ان كان الكلام عن «لبننة» العراق. والعرقنة اصبحت مصطلحا لصراع سني - شيعي، ولفوضى امنية، وعدم قيام الدولة او تعثرها، وكل ذلك بفضل السياسة الاميركية المتبعة في المنطقة لتفتيتها من خلال «الفوضى الخلاقة» التي تعني بالقاموس الاميركي حرباً اهلية، وهو ما يحصل في العراق، وانتقلت الى غزة، وبدأت تطل في لبنان، وكان «الخميس الاسود» «بروفة اولية» لها.
لقد دخل لبنان عمليا في الفتنة المذهبية، التي تجري محاولات لمنعها، ولكن سياق الاحداث منذ سنوات وتحديدا بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، كان يشير الى ان البلاد تتجه نحوها، وان الخطاب السياسي كان يؤكد على ذلك. ومع بروز رجال دين يدلون بمواقف علنية تكشف عن مدى الانقسام المذهبي السني - الشيعي، ويؤجج ذلك ما يجري في العراق، اضافة الى فتاوى واراء تصدر عن مراجع دينية سنية او شيعية يكفر كل طرف الآخر.
فالحديث عن الفتنة والتحذير منها كان الغالب على كل المواقف والتصريحات، الا ان الواقع على الآخر كان يترجم بعملية تخويف كل طائفة ومذهب من الآخر. فالشيعة بدأوا يقلقون من تحالفات «تيار المستقبل» مع «المحور العربي المعتدل» المرتبط بالسياسة الاميركية، والتي تصب في محاصرة المقاومة وتجريدها من سلاحها وافتعال ازمة معها وعزلها داخليا، وزاد من توجس «حزب الله» بالذات ان سلوك الحكومة ورئيسها فؤاد السنيورة ليس مطمئنا لجهة اعطاء ضمانات لاميركا بانه سيسحب سلاح المقاومة، وهذا الامر كان قبل عدوان تموز عندما كشف مندوب الامم المتحدة تيري رود لارسن تعهد السنيورة، وزاد الامر خطورة عندما خرج الامين العام «لحزب الله» السيد حسن نصر الله يتحدث بعد انتهاء العدوان الاسرائيلي عن تواطؤ في فريق السلطة مع الادارة الاميركية على استمرار اسرائيل في حربها لانهاك الحزب وفرض تسليم سلاحه، وذهب نصر الله في تشكيكه واتهامه الى القول ان الفريق الحاكم هيأ السجون لقيادة المقاومة وعناصرها.
هذه المخاوف عند «حزب الله»، يضاف اليها شعور شيعي عام، بأن من يحكم لبنان هو «السنية السياسية» التي لا تريد شراكة لها في الحكم، ليس مع الشيعة فقط، بل مع المسيحيين ايضا، وهي تنكرت للتحالف الرباعي وانقلبت عليه، وعلى مضمونه السياسي الذي ورد في البيان الوزاري للحكومة.
في مقابل عدم الثقة عند الطرف الشيعي، فإن «تيار المستقبل« بما يمثل من ثقل سياسي وشعبي داخل الطائفة السنية، فانه شعر ايضا بأن شريكه في الوطن لا يريده ان يكون معه في قرار الحرب والسلم، وانه يتصرف كأنه «دولة ضمن الدولة» ولا يساعده في بناء الدولة، كما انه يقف حجر عثرة في تشكيل المحكمة الدولية باغتيال الرئيس رفيق الحريري، مما اوحى وكأنه يعمل لحماية النظام السوري.
هذه اللاثقة المتبادلة، بين الطرفين وحلفائهما، شلت عمل المؤسسات وتحديدا الحكومة التي استقال منها وزراء «امل» و «حزب الله»، وانعكست على مجلس النواب ومن ثم على مؤسسات الدولة، ولم تنفع جلسات الحوار والتشاور في ردم الهوة بينهما، فكان الشارع للتعبير عن الاحتقان القائم، والذي ترجم هذا الاسبوع تصعيدا سياسيا وامنيا خطيرا.
الى اين من هنا؟ الى الاقتتال الداخلي، اذا لم تتحرك المبادرة العربية التي اطلقها امين عام جامعة الدول العربية عمرو موسى، او اذا لم تتوصل ايران والسعودية الى عدم اشعال الخلاف بينهما في لبنان، لان للدولتين نفوذا قويا على الطرفين المتنازعين، واذا لم يحصل تطور ايجابي بين سوريا والسعودية، كل هذه العوامل تشعل الحرب الاهلية، يضاف اليها ان اميركا التي لا تقبل ان تخسر حلفاءها في «ثورة الارز»، وتسقط حكومة السنيورة، وهو ما يعني رفض اي تسوية مع المعارضة التي تمثل بالنسبة للادارة الاميركية عودة النفوذ السوري وصعود الحضور الايراني، وهذا الامر لن يحصل.
فكل هذه التعقيدات الدولية والاقليمية والعربية، يضاف اليها حدة الصراع الداخلي الذي يتخذ طابع «الحياة او الموت»، لا سيما عند الفريق الحاكم، فإن الوضع اللبناني يتجه نحو التصعيد، لأن كل طرف يتمسك بمطالبه وشروطه، ولن تقبل المعارضة بالتراجع عن مطلبيها حكومة وحدة وطنية بثلث ضامن. وانتخابات نيابية مبكرة. وفي المقابل فإن الفريق الحاكم يرفض تسليم السلطة لأطراف سياسية يعتبرها امتدادا للمحور السوري - الايراني.
فالاحتراب الداخلي بدأ، وما ظهر من سلاح واستخدامه في اكثر من منطقة، تأكيد على ان الميليشيات عادت الى السيطرة، وما كان يحصل مع بداية الحرب الاهلية السابقة يتكرر، لجهة المطالب السياسية، حيث كان السنة يطرحون المشاركة في الحكم مع الموارنة، يقابلهم اليوم الشيعة الذين يطالبون السنة بالمشاركة، ولذلك يأخذ الصراع طابعه المذهبي وتصبح الدعوة للشراكة انتقاصاً من رئيس الحكومة السني وصلاحياته، والاعتصام امام السراي محاصرة للموقع السني من قبل الشيعة، واستمرار الاعتصام في وسط بيروت اجتياحاً شيعياً لبيروت السنية، والاضراب هو انتهاك لحرمة بيروت السنية ومحاصرتها، وقد عبر عن ذلك مفتي الجمهورية محمد رشيد قباني، ورئيس «تيار المستقبل» سعد الحريري والرئيس السنيورة، وشاركهم وليد جنبلاط في انه سيجتاح الحواجز اذا استمرت بيروت محاصرة، وهذا ما دفع الى اندلاع المواجهات في جامعة بيروت العربية ومحيطها في الطريق الجديدة وانتقالها الى احياء سنية وشيعية مختلطة، وقدوم عناصر من الضاحية الجنوبية الى تخوم الطريق الجديدة، فظهر المشهد المذهبي مضرجا بالدماء بين الطرفين، وانتشر القناصة، وقامت حواجز تدقق بالهويات على اساس مذهبي، وبدأت ملامح انتقال عائلات شيعية من مناطق سنية وبالعكس، وكل ذلك مع ظهور خط تماس داخل بيروت، حيث يتمركز الشيعة شرق كورنيش المزرعة والسنة غربه، مع وجود جيوب مشتركة.
انها بغداد، التي تشهد عمليات اقتتال مذهبي وتقمصتها بيروت هذا الاسبوع وكادت الساعات الست التي شهدتها بعض مناطقها، ان تفجر حربا مذهبية، لولا تداركها من قبل القيادات السياسية ومعرفة خطورتها، وقد لامسوا الخط الاحمر. فهل يدرك هؤلاء السياسيون ماذا جنت ايديهم وماذا فعلت تصريحاتهم واعلامهم وماذا اثر الكلام السياسي المغطى بتاريخ الصراع المذهبي السني - الشيعي، الذي تم ايقاظه على وقع الدخول العسكري الاميركي للعراق، وتخويف دول الخليج من الخطر الفارسي وظاهرة التشيع في العالم الاسلامي السني.
انها عناوين لأزمات وصراعات تاريخية لا يمكن ان تحلها مبادرات، او حلول من الخارج، بل امر واحد هو تطبيق المادة 95 من الدستور بإلغاء الطائفية السياسية، فهل يفعلها الطائفيون؟ هذا ما يسأله فريق ثالث من اللبنانيين لا يعنيه الصراع الطائفي او المذهبي.
"الديار"