المؤتمر القومي العربي: جدل وتبادل اتهامات سبقت بيانا ختاميا متفقا عليه
عكست المناقشات التي شهدتها الدورة الـ24 للمؤتمر القومي العربي، حالة التباين التي يعيشها التيار القومي العربي ومكوناته من القضايا العربية الساخنة، وكادت حدة المناقشات أن تودي بالمؤتمر الذي تأسس 1990 وحافظ طوال العقدين الماضيين على مسيرته رغم كل الصعوبات والتحولات التي عاشتها المنطقة العربية.
واختتمت مساء يوم أول أمس الأحد بالعاصمة المصرية القاهرة الدورة الـ24 للمؤتمر القومي العربي التي ناقشت تقريرا عن حال الأمة 2012 وقضية الحراك الثوري العربي بين ضرورات الديموقراطية وملف مخاطر التدخل الخارجي والمشروع النهضوي العربي خلال عام ضمن قراءة لملفات الوحدة العربية وملف الديموقراطية وحقوق الإنسان وملف الاستقلال الوطني والقومي وملف التجدد الحضاري وملف التنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية وهي ملفات قدمتها مجموعة من المفكرين والباحثين.
ويتكون المؤتمر القومي العربي من نخبة من المفكرين والممارسين السياسيين والإعلاميين والحقوقيين والمبدعين، كل بصفته الشخصية، يؤمنون بالفكر القومي الديمقراطي بمختلف مشاربه. ولعل تعدد المشارب خلقت مقاربات مختلفة من الحراك العربي الذي أدى في عدد من الدول العربية إلى تغييرات في أنظمة الحكم ووصول تيارات وأحزاب ذات مرجعية إسلامية لقيادة الدولة وتدبير الشأن العام فيها.
أمين عام المؤتمر: المؤتمر واحة لاحترام الحريات والتعدد
وظهر التباين واضحا منذ اللحظات الأولى لانطلاقة أعمال المؤتمر التي أعطت للقوميين الديمقراطيين مكانة بارزة بالمنصة، وهو ما أثار انتقادات ذوي المرجعيات الإسلامية، حيث انسحب عصام العريان أحد القيادات البارزة بحزب الحرية والعدالة وجماعة الإخوان المسلمين فور المناداة على مرشح الرئاسة المصرية حمدين صباحي قائد التيار االشعبي لإلقاء كلمة في الافتتاح وإعطاء الشاب المصري الذي أسقط العلم الإسرائيلي من فوق السفارة الإسرائيلية بالقاهرة ويقود حاليا حركة تمرد ضد حكم الرئيس محمد مرسي فرصة للحديث.
وتعرض الإسلاميون المنخرطون بالشأن العام في مصر وتونس وليبيا إلى حملة شرسة، فيما تركزت الهجمات على جماعة الإخوان المسلمين بمصر، وهو ما أثار، بالإضافة لإعطاء ماهر الطاهر أحد قادة الجبهة الشعبية كلمة المقاومة الفلسطينية، حفيظة قيادات بحركة حماس واستنكارهم وانسحابهم. وشوهد أسامة حمدان أحد قيادات حماس يحتج بصوت عال على ما تعرض له إخوان من هجمات.
وسمح لأسامة حمدان بأخذ الكلمة إلا أنه قوطع أكثر من مرة. وقال عبد الملك المخلافي الأمين العام للمؤتمر القومي العربي إن المؤتمر واحة لاحترام الحريات والتعدد، فيما دعا محمد فائق رئيس المؤتمر إلى تزاوج حرية التعبير مع لباقة التعبير. وكان للأجواء التي شهدتها الجلسة الافتتاحية تداعيات سياسية حيث قام أعضاء من الأمانة العامة بلقاء قادة حزب العدالة والحرية وجماعة الإخوان المسلمين لتوضيح ما جرى إلا أن اللقاء فسر اعتذارا وهو ما نفاه المخلافي الذي قال إن المؤتمر لم يعتذر، وأنه لم يرسل وفدا لقيادة الإخوان.
وإذا كان الأعضاء المصريون المنتمون لحزب الحرية والعدالة وجماعة الإخوان المسلمين واصلوا مقاطعتهم للمؤتمر فإنه لوحظ مواصلة أسامة حمدان للمقاطعة، فيما عاد محمد نزال أحد قادة حماس لأخذ مقعده في صفوف المؤتمرين.
الموضوع السوري: تباين في المواقف وحرب كلمات
الموضوع السوري شكل أيضا حرب كلمات بين أصحاب المواقف المتباينة من تطورات الأزمة السورية. وفيما تحدث سوريون عن الثورة وديكتاتورية النظام السوري تحدث آخرون عن ارتباط المعارضة السورية مع قوى خارجية تتآمر على سورية لصالح إسرائيل وأمريكا، وسميت قطر والسعودية وتركيا، فيما أكد أكثر من مشارك منتم لهيئة التنسيق المعارضة عن إدانته للعنف والديكتاتورية والارتباط بالخارج، واعتبر أن ما يجري في سورية يستهدف تدمير الدولة وتفتيتها. وقال رجاء الناصر إن الحسم العسكري ليس خيارا لصالح سورية وشعبها وأن لا خيار سوى الحوار السياسي.
ولم تقتصر الحرب الكلامية بين السوريين إذ دخلت أطراف عربية مشاركة من مواقع مختلفة لتقاسم المواقف من الأزمة السورية، والنفاذ من الزاوية الطائفية التي قال الجميع إنه يدينها ويتهم الآخر بممارستها.
بيان ختامي يشكل موقفا متوافقا عليه من مختلف القضايا العربية
ونجح القوميون العرب في الخروج من خلافاتهم ببيان ختامي شكل موقفا متوافقا عليه من مختلف القضايا العربية. وقال البيان إنه يلحظ تراجع الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية والكيان الصهيوني في ميزان القوى، فباتت كلها عاجزة عن امتلاك إستراتيجية موحدة ومتماسكة فضلاً عن فقدانها لزمام المبادرة وتتالي الإخفاقات في السيطرة، وبات لها منافسون دوليون وإقليميون كروسيا والصين والهند والبرازيل وإيران وجنوب إفريقيا، وهو ما يهيئ فرصة مؤاتية أمام تحقيق المشروع النهضوي القومي العربي بمرتكزاته ومساراته التصحيحية والتغييرية والتكاملية والوحدوية تتجاوز الانقسامات مهما كانت حادة فلا تتركها تنال من إرادة الشعب العربي في الوحدة والحرية والعدالة والديمقراطية والتنمية والتجدد الحضاري. فكلُّ ما في الأمّة الآن من حراك تغيري نهضوي ينمو ويقوى وله من يتربص به شراَ ويدفعه إلى مخاطر الوصول إلى ما يشبه الحروب الأهلية، إلا أنه أكد على تطوير آليات الحوار داخل مكونات الأمّة، كما داخل المكونات في كل الأقطار على قاعدة الالتزام المطلق للتغير الديمقراطي الشامل وإسقاط حكم الاستبداد والفساد والتبعية، وإغلاق كل الثغرات الكامنة في البنى الداخلية.
إدانة للاستبداد بذريعة حماية الاستقلال ورفض الاستعانة بالأجنبي للتخلص من الاستبداد
ورفض المؤتمر الاستعانة بالأجنبي للتخلص من الاستبداد، كما أدان الاستبداد كذريعة لحماية الاستقلال. وقال إن المؤتمر يعي أن تعقيدات الواقع العربي الراهن لا يمكن معالجتها عن طريق القبول بالاستبداد بذريعة مقاومة التدخل الاستعماري، ولا عن طريق استدعاء القوى الاستعمارية بحجة التخلص من هذا الاستبداد، وهو يرفض الاثنين معاً ولا يحابي أو ينحاز لأي طرف من طرفي هذه المعادلة، ويجد نفسه دائماً يغلّب في توجهاته الانصراف إلى معالجة التناقض الرئيس المرتبط بالصراع مع العدو على التعارضات الثانوية المرتبطة بهياكل الحكم والأنظمة بدون التخلي عن مسؤوليته في التطوير والتغيير والإصلاح الديمقراطي ودعم قواه في الأقطار المعنية، ودعم حق الشعوب في اختيار أنظمتها السياسية.
وقال البيان الختامي للمؤتمر إن الحراك الثوري العربي تمكّن من إسقاط الحاكم دون تغيير قواعد الأنظمة السياسية والسياسات الاقتصادية والاجتماعية، فضلاً عن أن بعض القوى التي وصلت إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع استأثرت بالحكم في المرحلة الانتقالية، وأقصت قوى أساسية كان لها الدور الرئيس في الثورة. ودعا هذه القوى للالتزام بوعودها بإقامة حكم الشراكة الوطنية الجامعة، لأن غير ذلك يسيء إلى مفهوم دولة الحق وحكم القانون القائم على دستور المشاركة والتعدد السياسي وفتح المجال أمام الكفاءات الوطنية.
دعم الحوار الوطني اليمني والتونسي والبحريني وقلق على ليبيا
وأعلن المؤتمر دعمه لأعمال الحوار الوطني اليمني الذي يضم الأطراف الوطنية كافة بهدف تحقيق الوفاق المأمول بتأسيس حكم ديمقراطي، ومشاركة شعبية حقيقية ضامنة لوحدة اليمن واستقراره، والمؤتمر الحوار الوطني التوافقي في تونس، ويدعو إلى تفعيل الحكم الائتلافي وخلق ظروف مؤاتية لإنجاح الحوار الوطني بالبحرين. وقال إن إطلاق سراح المعتقلين السياسيين والابتعاد عن سياسة التسعير الطائفي والمذهبي هي شروط لازمة لنجاح الحوار بما يحقق تطلعات شعبنا في البحرين إلى تحقيق الديمقراطية.
وعبّر المؤتمر عن قلقه تجاه ما يجري في ليبيا من انهيار للدولة وغياب للأمن. ويرى أن السبيل لتجاوز الواقع الراهن هو تحقيق المصالحة الوطنية، بما يؤمن وحدة التراب الليبي وقيام دولة المؤسسات وتحقيق التحول الديمقراطي، ويجنبها كافة الشرور التي نجمت وما تزال عن التدخل الأجنبي.
فلسطين: القضية المركزية للأمة
وأكد أن تحرير فلسطين وتحقيق الاستقلال الوطني والقومي ومشروع النهوض، تستوجب حوارات صريحة ونقدية بين تيارات الأمّة ومكوناتها السياسية بما يؤدي إلى إزالة التوترات وإزالة القطيعة التي من شأنها إضعاف الأمّة وتركها لقمة سائغة في فم أعدائها، وأن لا استقلال وطنياً ولا أمن قومياً، ولا مقاومة ناجحة، ولا تحرير لأرض ولا حماية لثروة، ولا إنجاز لتكامل ولا صد لإرادة استعمارية امبريالية، والصراع قائم بين مكونات الأمّة، ملتزما بالحوار مع الجميع كونه يضم مجموعة كبيرة من حكماء الأمّة كما فعل منذ مدّة وجيزة، ومفكريها الذين لا يصرفهم أيّ شأن عن المبادرة إلى ما يحقق المصالح القومية العليا.
ومن منطلق تحمله لهذه المسؤولية التاريخية يناشد المؤتمر جميع المعنيين مشاركته في التصدّي لهذه المهمة فيساعدون على الإقلاع عن سياسة التخوين والتكفير، والتحريض المذهبي والطائفي والعنصري أحياناً، وعلى وضع حد لمختلف أشكال العنف المادي واللفظي، واعتماد الحوار الديمقراطي وسيلة واحدة للنقد الذاتي البناء، ووضع برنامج أولويات وطنية وقومية أساسه التمسّك بالمقاومة خياراً استراتيجياً للأمّة، وأن النجاح في تكوين هذه الكتلة التاريخية يحقّق الانتصار للقضايا العربية التي تحتلّ نقطة المركز فيها القضية الفلسطينية.
وأكد أن قضية فلسطين، كانت ولا زالت وستبقى القضية المركزية للأمّة، التي لا يمكن نهوضها وتقدمها في ظلّ وجود الكيان الصهيوني المدعوم من الولايات المتحدة الأمريكية والذي شكّل خطراً داهماً على الأمن القومي العربي ومستقبل الأمّة بأسرها وأهمية وضرورة إعادة الاعتبار لشعار وهدف تحرير فلسطين، وفشل نهج التسويات والحلول السياسية والمفاوضات وسياسة التنازلات والاعتراف بالعدو، والتي كانت حصيلتها المزيد من الاستيطان وتهويد الأرض، ويجدد التأكيد بأن الصراع مع المشروع الصهيوني هو صراع وجود لا صراع حدود، مما يتطلب حشد طاقات الأمّة بأسرها وتقديم كل أشكال الدعم للشعب الفلسطيني مادياً وسياسياً وعسكرياً لدحر الاحتلال وتحرير الأرض.
التصدي لسياسة التنازلات والتفريط والتطبيع
ودعا الى التصدي لسياسة التنازلات والتفريط والاستجداء التي يمارسها بعض أطراف النظام الرسمي العربي، والتي عبّرت عن نفسها مؤخراً بموافقة ما سمي بلجنة مبادرة السلام العربية، والتي أعلنت في أمريكا موافقتها على مبادلة الأراضي، أي مبادلة أرض فلسطينية بأرض فلسطينية، أي فتح الطريق أمام تكريس وتشريع الاستيطان والتهويد. ودعا الجامعة العربية إلى سحب ما سمي بمبادرة السلام العربية وضرورة وأهمية إنهاء الانقسام الفلسطيني – الفلسطيني الذي طال أمده والذي لم يعد مقبولاً بأي شكل من الأشكال. مما يستدعي ضرورة إنجاز الوحدة الفلسطينية ـ الفلسطينية كمهمة عاجلة على قاعدة التمسك بكامل الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، ويجدّد استعداده لبذل كل الجهود مع الأطراف المعنية في الساحة الفلسطينية لتحقيق هذا الهدف، والتصدي لسياسة التطبيع مع العدو الصهيوني التي تمارسها بعض الأطراف الرسمية العربية، ويدعو إلى المقاطعة الشاملة للعدو، ويؤكّد ضرورة أن تتضمن دساتير الدول العربية ما يحرّم ويجرّم هذه السياسة إذا كانت فلسطين والأراضي العربية المحتلة في رأس الاهتمامات النضالية والقومية نظراً لموقعها في الاستهدافات الأمريكية ـ الصهيونية.
ورأى المؤتمر أن دائرة الاستهداف منذ كامب دايفيد، وغزو العراق واحتلاله بدأت تتسع لتشمل دولاً عربية عدّة، وفي مقدمها الدولة السورية نظراً لدورها المحوري في الصراع العربي الصهيوني، ولارتباطها الداعم بقوّة للمقاومة في لبنان وفلسطين، من هنا كان للمؤتمر مواقف ويعيد تأكيدها اليوم تدعم الدولة السورية في مواجهة الحرب عليها، وأن ثمّة حراكاً شعبياً في سوريا يطالب بإقامة نظام حكم ديمقراطي تعددي، مذكرا بدعم الشعب العربي السوري في نيل مطالبه المحقة في الحرية والكرامة والتغيير الديمقراطي، وبناء دولة الحق والقانون، والمواطنة المتساوية في الحقوق وفي الواجبات وفي إقامة نظام سياسي وفق إرادته الحرة، ورحّب بالتوافق الدولي لعقد مؤتمر جنيف 2، ويحثّ الأطراف المعنيين كافة على تلبية الدعوة للمشاركة فيه، خصوصاً وأنه يأتي بعنوان الحلّ السياسي للخروج من الأزمة.
وجدد موقفه الثابت من رفضه للتدخل الخارجي في الشؤون الداخلية السورية أجنبياً، إمبرايالياً وصهيونياً كان هذا التدخل، أو إقليمياً أو عربيا، رافضا الحلول العسكرية التدميرية التي تعمل لها أطراف داخل سوريا وخارجها والتي تدفع إلى التمويل والتسليح والتجنيد والتحريض.