في انتخابات تشريعيّة تاريخيّة وصادمة، تمكّن حزب الحرّيّة النمساويّ FPÖ من الفوز بـ 28.8٪ من الأصوات في الانتخابات التشريعيّة النمساويّة الّتي أقيمت في نهاية أيلول/سبتمبر الماضي. وتعدّ تلك النتيجة الأفضل للحزب اليمينيّ المتطرّف في تاريخه! كما يعتبر هذا الفوز هو الأوّل لحزب "يمينيّ" منذ الحرب العالميّة الثانية في النمسا. حزب الشعب النمساويّ الحاكم ÖVP خسر حوالي 20 مقعدًا، وتراجع حزب الخضر وحزب الديمقراطيّين الاشتراكيّين SPÖ بشكل ملحوظ. وحصل المحافظون على 26.3% تلاهم الديمقراطيّون الاشتراكيّون في المركز الثالث بـ 21.1% فقط وهي أسوأ نتائج الحزب في التاريخ.

ويأتي نجاح "حزب الحرّيّة" بناء على مواقفه الصارمة تجاه قضايا الهجرة والاقتصاد، فقد نجح الحزب بكسب تأييد عدد كبير من المصوّتين. ويرى الخبراء أنّ تشكيل تحالف حكوميّ لن يكون سهلًا بالنظر لمواقف الأحزاب الأخرى منه.

وتأتي تلك الانتخابات بعد نتائج صادمة أيضًا في ولايات ساكسونيا وبراندنبورغ وتورينجا الألمانيّة، ولا زالت الموجة اليمينيّة المتطرّفة تجتاح أوروبا، وتؤثّر على بلدان مثل النمسا وألمانيا وإيطاليا وهولندا والعديد من الدول الأوروبّيّة الأخرى. ويرى الخبراء أنّه، بالرغم من أنّ النتائج في الانتخابات النمساويّة كانت متوقّعة إلى حدّ ما، إلّا أنّ حجمها كان صادمًا، ويمثّل كارثة ديمقراطيّة وحقوقيّة وسياسيّة وثقافيّة.

صعود التيّار اليمينيّ المتطرّف في أوروبا

شهد العام 2016 أحداثًا مفصليّة وتحوّلات ملحوظة أدّت إلى صعود التيّارات اليمينيّة المتطرّفة في أوروبا والولايات المتّحدة، وكان لتلك الأحداث تأثيرات كبيرة على سياسات تلك الدول الداخليّة والخارجيّة، وتعدّ بريطانيا والولايات المتّحدة من أوائل الدول الّتي ذهبت في ذلك الاتّجاه. بدا الأمر جليًّا في بريطانيا مع الاستفتاء العامّ للخروج من الاتّحاد الأوروبّيّ "بريكست" وانتخاب دونالد ترامب رئيسًا في الولايات المتّحدة، وبالتزامن مع هذه الأحداث، برز التيّار اليمينيّ في دول أوروبّيّة مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا وهولندا لتتشكّل حركة واسعة ذات توجّهات "قوميّة" وشعبويّة متطرّفة.

في حزيران/يونيو 2016 صوّتت الأغلبيّة في بريطانيا في الاستفتاء الشعبيّ للخروج من الاتّحاد الأوروبّيّ. في ذلك الوقت، وصف الاستفتاء على أنّه "انتصار للقوميّة الشعبويّة البريطانيّة"، وتحت قيادة نايجل فاراج، انتصر حزب الاستقلال البريطانيّ UKIP ونجح في الترويج لفكرة أنّ تدفّق المهاجرين من الأسباب الرئيسيّة للأوضاع الاقتصاديّة السيّئة الّتي تمرّ بها البلاد. وتمّ الترويج للخروج من الاتّحاد الأوروبّيّ على أنّه يعمل على حماية الهويّة البريطانيّة الثقافيّة. استفادت الحملة في ذلك الوقت من الاستياء الشعبيّ من النخب الحاكمة والأوضاع الاقتصاديّة السيّئة. وبنسبة 51.9% من عدد المصوّتين بمجموع 33.5 مليون شخص صوت البريطانيّون للخروج من الاتّحاد الأوروبّيّ.

وبعد البريكست البريطانيّ، في تشرين الثاني/نوفمبر من نفس السنة، تمّ انتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتّحدة الأميركيّة لتكون الصدمة الثانية للعالم في بضعة أشهر. ترامب، الّذي كان يتحدّث بخطاب شعبويّ، ركّز في حملته الانتخابيّة على قضايا الهجرة والهجرة غير الشرعيّة والإسلاموفوبيا و"التهديدات" الاقتصاديّة الناتجة عن اتّفاقيّات التجارة. وكان عنوان حملته الانتخابيّة أنّ "نجعل أميركا عظيمة من جديد" من خلال حماية البلاد اقتصاديًّا وتعزيز السيادة القوميّة الأميركيّة. وجاء دخول ترامب إلى البيت الأبيض ليؤكّد أنّ صعود اليمين المتطرّف ليس فقط في أوروبا وإنّما في الولايات المتّحدة، وعلى المستوى العالميّ.

أسباب صعود اليمين المتطرّف

يرجّح الخبراء أنّ صعود اليمين المتطرّف جاء كنتيجة لمجموعة أسباب، منها أسباب اقتصاديّة واجتماعيّة وثقافيّة. ولعلّ أهمّ الأسباب الاقتصاديّة الأزمة الّتي هزّت العالم في عام 2008، إذ ساهمت في زيادة معدّلات الفقر والبطالة مع إغلاق الكثير من الشركات أبوابها وتسريح أعداد هائلة من الموظّفين في أوروبا والولايات المتّحدة والعالم. استغلّ اليمين المتطرّف تلك الأزمة وبدأ الترويج لأفكار قوميّة وشعبويّة تعتمد على لوم الأطراف الأخرى في المجتمع على تلك المشاكل الاقتصاديّة مثل المهاجرين والمسلمين.

واستخدم اليمين المتطرّف الأزمة السوريّة وما نتج عنها من نزوح أعداد كبيرة من السوريّين إلى أوروبا في عام 2015 كشماعة للعديد من المشاكل الاقتصاديّة والثقافيّة، كما روّج اليمين إلى مخاوف كبيرة بشأن الهويّة والثقافة الأوروبّيّة الوطنيّة، واتّهم المهاجرون بأنّهم يشكّلون تهديدًا كبيرًا للأمن القوميّ والقيم الأوروبّيّة. ويضيف الخبراء أنّ من الأسباب الأخرى الّتي دفعت نحو صعود اليمين أسباب مثل العولمة وفقدان الهويّة الّتي ساهمت في تغيير معالم الاقتصادات المجتمعات في النظام العالميّ، فشعر الكثير من الناس في الطبقات العاملة في أوروبا وأميركا بأنّهم مهمّشين في ظلّ تلك التغيّرات والسياسات الّتي تدعم الشركات الكبرى على حساب العمّال الصغار، فتشبّثت تلك الطبقات باليمين المتطرّف كوسيلة للدفاع والعودة إلى "السياسات الوطنيّة" الّتي تحميهم.

صعود اليمين المتطرّف الّذي بدأ في بريطانيا مع البريكست، وتلاه فوز ترامب بالانتخابات الرئاسيّة الأميركيّة امتدّ نحو دول أوروبّيّة أخرى، فظهرت الأحزاب اليمنيّة في عديد من الدول الأوروبّيّة. في الوقت الحاليّ توجد الأحزاب اليمنيّة في الحكومة في بلدان مثل إيطاليا وهنغاريا وكرواتيا وسلوفاكيا والتشيك وفنلندا والسويد وفرنسا وهولندا وبلجيكا والنمسا مؤخّرًا.

بعد خروج بريطانيا من الاتّحاد الأوروبّيّ بداية تغييرات كبيرة وجذريّة في البلاد وتوجّهاتها السياسيّة داخليًّا وخارجيًّا، وبالرغم من أنّ حزب المحافظين هيمن على المشهد السياسيّ البريطانيّ لعدّة سنوات، إلّا أنّ البريكست فتح الباب أمام صعود تيّارات أكثر يمينيّة، وأدّى الفشل الحكوميّ في تنفيذ اتّفاق الخروج من الاتّحاد الأوروبّيّ إلى زيادة التوتّرات الداخليّة والسياسيّة والاجتماعيّة في بريطانيا. واستغرق الأمر أكثر من 4 سنوات لتنفيذ خطّة الخروج من الاتّحاد الأوروبّيّ.

وانعكس هذا التحوّل على باقي القارّة الأوروبّيّة، ففي ذلك الوقت ازداد نفوذ الجبهة الوطنيّة اليمينيّة، والّتي تسمّى الآن "التجمّع الوطنيّ" بقيادة ماريلوبان، وتقدّمت بشكل كبير في استطلاعات الرأي، وفي دول أخرى حصلت أحزاب يمينيّة أخرى في ألمانيا مثل "حزب البديل من أجل ألمانيا" وحزب "إخوة إيطاليا" في إيطاليا وحزب "الشعب" في الدنمارك وحزب "القانون والعدالة" في بولندا وحزب "الاتّحاد الوطنيّ" في لاتفيا على دعم أكبر وأصوات أكثر في الانتخابات. وبعد انتخابات أيلول/سبتمبر 2022 نجح الحزب الإيطاليّ المتطرّف بتشكيل حكومة ترأّستها جورجيا ميلوني بعد التحالف مع حزب "رابطة الشمال" وحزب "فورزا إيطاليا"

ويعدّ خطاب اليمين المتطرّف من الأسباب الرئيسيّة وراء استقطاب الكثير من الناس والحصول على الأصوات اللازمة الدخول إلى التشكيل الحكوميّ. وتعتبر فكرة "تبسيط المفاهيم" من أهمّ الأدوات الّتي يستخدمها اليمين، فلتلك الأحزاب القدرة على تبسيط المفاهيم المعقّدة وتقديم حلول سريعة للمشاكل المعقّدة مثل المشاكل الاقتصاديّة. وعندما تلتقي تلك الحلول السريعة مع جمهور غاضب وساخط على النخب الحاكمة، فإنّ ذلك يشكّل بيئة خصبة لتحوّل الناس إلى دعم الأحزاب اليمينيّة.

يقدّم اليمين المتطرّف خطابًا معاديًا للهجرة، ويعزّز أفكارًا مثل أنّ الحكومات الليبراليّة فشلت في حماية الهويّة الوطنيّة. مثال على ذلك ما روّج له فاراج في بريطانيا حول أنّ الخروج من الاتّحاد الأوروبّيّ سيساعد على فكرة "استعادة السيطرة" على الهويّة البريطانيّة من خلال السيطرة على الحدود والهجرة ومنع المهاجرين من الدخول، وفي الولايات المتّحدة روج ترامب للفكرة نفسها حول الجدار مع المكسيك، ومنع السفر من بعض الدول العربيّة والمسلمة.

في دراسة أعدّها الباحثان دافني هاليكيوبولو وتيم فانداس تحت عنوان "فهم الشعبويّة اليمينيّة وما يجب القيام به حيال ذلك" ذهب الباحثان إلى أنّ أهمّ الأسباب الّتي دفعت الناس باتّجاه الأحزاب اليمينيّة هي الأوضاع الاقتصاديّة.

"لمعالجة هذه القضايا، قمنا في تقرير جديد بدراسة التفاعل بين ما نسمّيه "العناصر الثلاثة": الأشخاص والأحزاب والسياسات، وفيما يتعلّق بالناس، فإنّ السؤال الرئيسيّ هو كيف تؤثّر المظالم الثقافيّة والاقتصاديّة على احتمالات تصويت الأفراد لحزب شعبويّ يمينيّ. وبالمثل، كيف يتمّ توزيع هذه المظالم بين ناخبي الحزب الشعبويّ اليمينيّ؟".

ويضيف الباحثان "نحن نرى أنّ الهجرة هي في الواقع قضيّة ثقافيّة؛ وبالتّالي تعدّ في أحسن الأحوال إشكاليّة وليست أساسيّة، ولكن تزيد المخاوف الثقافيّة والاقتصاديّة بشأن الهجرة من احتماليّة التصويت لصالح الحزب الشعبويّ اليمينيّ. ومع ذلك، في حين أنّ المخاوف الثقافيّة غالبًا ما تكون مؤشّرًا أقوى لسلوك التصويت الشعبويّ اليمينيّ، فإنّ هذا لا يعني تلقائيًّا أنّها أكثر أهمّيّة لنجاح الأحزاب الشعبويّة اليمينيّة من الناحية الموضوعيّة؛ لأنّ الأشخاص الّذين لديهم اهتمامات اقتصاديّة غالبًا ما يكونون مجموعة أكبر عددًا. القضيّة الرئيسيّة الّتي يجب الانتباه إليها هنا هي الحجم، فإنّ العديد من ناخبي الحزب الشعبويّ اليمينيّ ليست لديهم مخاوف ثقافيّة حصريّة بشأن الهجرة، بل لديهم مخاوف اقتصاديّة".

وعند النظر إلى السياق التاريخيّ الأوروبّيّ نجد أنّ "النازيّين" في ألمانيا، وعلى الرغم من ميولهم اليساريّة في الطيف السياسيّ، إلّا أنّ هناك الكثير من النقاط الّتي تتقاطع بها مع الأحزاب اليمينيّة الحديثة. من تلك النقاط استغلال النازيّين للأزمة الاقتصاديّة الكبيرة في الثلاثينات للوصول إلى الحكم إضافة إلى التركيز على الأفكار القوميّة وتعزيز التفوّق العرقيّ ورفض التعدّديّة الثقافيّة وقمع الليبراليّة.

وسائل الإعلام الحديثة بدورها تلعب دورًا مهمًّا في عمل تلك الأحزاب وظهورها على الساحة السياسيّة. فقد اعتمد الكثير من تلك الأحزاب على تلك الوسائل للتواصل مع لجماهير لتتجاوز وسائل الإعلام التقليديّة الّتي تنتقد تلك الحركات. واستخدمت الأحزاب منصّات مثل فيسبوك وإنستغرام وتويتر لنشر خطابها اليمينيّ وتعبئة الجماهير الّذي جعلها ذات تأثير أكبر وأوسع.

وعلى الرغم من أنّ اليمين المتطرّف لم يسيطر بعد على القارّة العجوز، أو على الحكم الكامل في بعض الدول، إلّا أنّ تأثيره في المعترك السياسيّ يزداد بشكل كبير وأصبح واضحًا جدًّا، فقد أجبرت تلك الأحزاب أن تنتهج الأحزاب الليبراليّة والوسطيّة سياسات متشدّدة تجاه قضايا الهجرة والهويّة الوطنيّة، ويمكن أن يرى تأثير ترامب مثلًا على السياسة الأميركيّة حتّى بعد انتهاء فترته الرئاسيّة.

ومع تزايد القلق عالميًّا بشأن صعود تلك الحركات وتأثيرها على قضايا الهجرة والاقتصاد يرجّح الخبراء أنّ اليمين سيستمرّ بالاعتماد على تلك القضايا للبقاء على الساحة السياسيّة.