مؤلف هذا الكتاب باحث متخصص في تاريخ المغرب العربي، وهو من مواليد الجزائر عام 1939 وحاصل على شهادة الماجستير في التاريخ من جامعة الجزائر وله مؤلفات عديدة في التاريخ منها كتاب حول «القبائل الأمازيغية» الذي عرضنا له على صفحات «بيان الكتب» من قبل،


الى جانب سلسلة كتب تشمل «القبائل في المغرب العربي» و«القبائل البترية في المغرب والأندلس» و«دول البرانس في المغرب والأندلس»، الى جانب أعمال شعرية وقصصية.


ويبحث هذا الكتاب في العصبية القبلية كظاهرة اجتماعية وتاريخية على ضوء الفكر الخلدوني ويمكننا القول بأنه يعد من أحد الوجوه من بين الكتب المميزة في تقديم فكر ابن خلدون بشكل سلس يسهل فهمه حتى على القارئ العادي غير المتخصص. وحسب المؤلف فإن العصبية القبلية عبر العصور انحدرت بالمجتمعات المغربية الى منتهى التعفن والتفكك والإنهيار


وأنه اذا ما ظهرت في فترات قصيرة بعض الظواهر الإيجابية التي قد تصدر عن العصبية القبلية بين حين وآخر خاصة عندما تمكنت بعض العصبيات من تأسيس ممالك عظمى فلا يعني هذا حسب المؤلف أنها ظاهرة صحية وخيرة بل العكس هو الصحيح اذ يتضح بالمتابعة المتأنية أن تلك الظاهرة سرعان ما تتحول الى ظاهرة مرضية شريرة فتحتوي عندئذ الإيجابيات كافة وتلغيها ولا يبقي على السطح طافيا سوى العيوب التي تغمر المحاسن وتطمسها.


في البداية يتناول المؤلف مفهوم العصبية مشيرا الى أنه شغل الباحثين الذين اهتموا بفكر ابن خلدون اذا حاولوا إيجاد تعريف لها ومع هذا بقيت الكلمة لغزا يبحث باستمرار عن إجابة مقنعة. وبعد استعراض لملامح الجدل حول المفهوم يعرض لفكر ابن خلدون نفسه في محاولة لمعرفة كيف توصل الى ابتكار هذه المفهوم؟


وكيف أصبح هذا المفهوم نظرية اجتماعية شغلت علماء كثيرين شرقا وغربا؟. من بين الإجابات العديدة التي يرى أنها تفسر ما يذهب اليه يرجح التفسيرات التي ترى أن ابن خلدون عندما ابتكر نظريته كانت تدفعه حوافز عديدة يمكن حصرها في عاملين اثنين أحدهما خارجي والأخر ذاتي، فالخارجي تعبر عنه الأوضاع الاجتماعية في المغرب الإسلامي،


تلك الأوضاع التي تميزت بالصراعات العنيفة بين سكان البادية وأهل الحواضر والأمصار ويبدو أن هذه الظاهرة المؤسفة ذات الجذور العميقة في المجتمع المغربي شغلت تفكير ابن خلدون فاجتهد كي يبحث عن تفسير وربما عن علاج لها.


أما العامل الذاتي فقد تفاعل ونما داخل نفسية ابن خلدون الذي كان بحكم نشأته العائلية ميالا الى السلطة من جهة ومحبا للعلم والمعرفة من جهة أخري وعليه فقد انجذبت نفسه بحكم بيئته الحضرية وعائلته ذات الحسب والنسب نحو السعي السلطة سواء كانت في شكل إمارة قد يؤسسها أو مكانة مرموقة وسلطة واسعة في دولة ما. وإزاء فشله فقد سعى الى معرفة العلة ووجد أنها واحدة بالنسبة للعاملين وهي العصبية اذ كانت العائق الذي وقف حيال تحقيق طموحه في المنصب والسلطان وذلك نظرا لكونه يفتقر لشروطها بحكم أنه حضري المنبت أولا ومقطوع الجذور ثانيا.


يقول المؤلف أنه يبدو أن ابن خلدون لم ير في العصبية غاية في حد ذاتها لأن الموضوع الذي شغله وساقه الى التأمل في تلك الظاهرة هو محاولته بناء نظرية يصل بفضلها الى تفسير العلة التي تكمن وراء نشأة الدول فانطلق بالتفكير في النشأة التاريخية للدولة أولا بغرض معرفة الأسباب والشروط التي تنشأ بواسطتها الدولة بالتأمل العميق توصل الى الفكرة الأساسية التي تكمن ضمن ما لاحظه من ظواهر في محيطه الاجتماعي


حيث تبين له أن ظاهرة القوة والغلبة كانت بمثابة الفيصل القاطع والعامل الحاسم في الحياة بالمغرب الإسلامي آنذاك وذلك عندما لاحظ أن لا سلطان في تلك الديار إلا للقوي المتغلب.وبعد التأمل انتهي الى أن مصدر القوة والغلبة هو العصبية القبلية التي رأي أنها تسود بلاد المغرب كافة بحكم هيمنة النظم القبلية فيها.


ويستعرض المؤلف بعد ذلك النظريات الأخرى في نشأة الدولة والتي يجملها في نظرية التطور العائلي، والنظرية الدينية، ونظرية العقد الأجتماعي، ونظرية التطور التاريخي، والنظرية الماركسية.


وفي فصل تال يتناول بوزياني الدراجي موضوع أثر العصبية على استقرار الدولة مستعرضا أشكال الدولة عند ابن خلدون وهنا فإنه يتحدث عن ملك ناقص السيادة مثل الملك الذي شيدته القبائل والعصبيات في أماكن نائية عديدة داخل الدول الكبرى وملك كامل السيادة وهو ما يسميه بالدولة العامة.


كما يتناول بالتفصيل أحوال الدولة وأطوارها عند ابن خلدون من خلال الصورة التي رسمها في جملة من فصول مقدمته وهي الفصول التي تتوزع عليها فكرته حول هذا الموضوع الذي يتكلم فيه عن أحوال الدولة وأطوارها منذ نشأتها وحتى لحظة سقوطها.. فالملك محبب للنفس، واقتضت حكمة الله قيام الوازع بين الناس وهو الحاكم والذي لقيامه كان لا بد من العصبية، ومصلحة الرعية في السلطان ليست في شكله بل إن مصلحتهم فيه تكون من خلال قيامه بأمورهم ورعاية شئونهم.. الخ.


ويقدم المؤلف في هذا الإطار نحو 32 ملمحا من ملامح أطوار الدولة حسب ما ذهب ابن خلدون أخرها الكيفية التي تنتهي بالدولة الى سن هرمها وشيخوختها اذ يتم ذلك حينما يصل أصحاب الدولة الى حد متقدم من الإنفراد بالمجد والإنغماس في الدعة والسكون عندها تبدأ الدولة خطواتها المحتومة نحو الهرم المؤدي الى سقوطها ونهاية أمرها والعلة في ذلك تكمن في عندما ينفرد صاحب الدولة بالمجد دون عصبيته، الى جانب الأثار السلبية التي يخلقها الترف بين أصحاب الدولة، الى جانب تحكم عوائد الدعة والاسترخاء والسكون فيهم.


أما القسم الثالث في إطار حديث المؤلف عن أثر العصبية على استقرار الدولة فهو المتعلق بسقوط الدولة فهو يشير في ايجاز الى ما يقدمه ابن خلدون في فصول منها فصل أن الدولة لها أعمار طبيعية كما للأشخاص، وفصل في كيفية طروق الخلل للدولة، فصل في اتساع نطاق الدولة أولا الى نهايته ثم تضايقه طورا بعد طور الى فناء الدولة واضمحلالها، ثم فصل في حدوث الدولة وتجددها.


ينتقل المؤلف بعد ذلك الى استعراض الظواهرالاجتماعية والحركة التاريخية، مشيرا الى أن ابن خلدون توصل بعد تأمل واستقراء الى تفسير عام للحركة التاريخية التي يمكن أن تفسر بها العصبية القبلية، حيث وجد أن التفسير الأمثل ينطلق من ظاهرة البداوة التي تختلف اختلافا بينا عن الحضارة


حيث اكتشف أن العصبية القبلية تكون باستمرار قوية ونشيطة في الاوساط البدوية لأنها شعار لها بينما تضعف وتضمحل في المجتمعات المتحضرة وحتى اذا وجدت بعض أثارها في الحواضر فهي لا تصل في شدتها الى ما تصل اليه في البداوة وعليه فقد شرع ابن خلدون في دراسة الظاهرتين.


وقد وجد ابن خلدون مع تأمله في التحضر والحضارة أنها تكون باستمرار غاية للبداوة، لأن البداوة تسبق الحضارة وعلى هذا فقد تبين له أن البداوة هي الأصل اذ تقف في حدود الضروري بينما تقفز الحضارة لما هو كمالي. وعلى هذا وكما يشير المؤلف تتجلي من هنا ملاحظات ابن خلدون للظواهر الاجتماعية ضمن محيطه الجغرافي والتاريخي اذ وجد أن البداوة تغلب على بلاد المغرب وتكاد تسود في المنطقة كلها تقريبا ما عدا بعض المدن القليلة المتباعدة عن بعضها بعضا،


وعلل ذلك الأمر بكون العمران المتبع لدي سكان المغرب القدامي قبل الإسلام كان عمرانا بدويا وظل على تلك الصفة عبر الاف السنين وحتى إن ظهرت فيهم بعض الظواهر الحضارية فهي لا تستمر، كما أن الدول التي حكمت البلاد من إفرنج وعرب لم يطل أمدها في الملك وعليه فقد تعذر رسوخ الحضارة فيهم وبقيت عوائد البداوة وشئونها سائدة بين سكان المغرب فتقلصت نتيجة لذلك مبانيهم وانعدمت مصانعهم.


ثم ينتقل الكاتب الى تناول جانب آخر من الظاهرة التي يبحثها يتمثل في مقومات العصبية ومظاهرها مشيرا الى أن ابن خلدون أعطى مفهوم العصبية أبعادا أكثر شمولية ومنه القدرة على التلون واضفي عليه مرونة في الحركة. وحسب عرضه لفكر ابن خلدون فإن مقومات العصبية تتجلي بوضوح في عامل النسب وهو أمر استغرق فصول من المقدمة.


وعلى حد ما ذهب اليه فإن الرئاسة لا تكون في غير نسبهم لأن الرياسة تظل في نصابها المخصوص من أهل العصبية، ثم يصنف العصبية تبعا لقرب الانتساب الى صنفين الاول العصبية الخالصة وهي الكبرى ويكون النسب فيها أكثر صراحة والثاني العصبية العامة أو الصغري.


وقد تدرج في بناء تصوره لفكرة العصبية من منطلق مهم صنف فيه المجتمع تبعا لنمط الحياة ونمط الإنتاج والإستهلاك الى فئتين رئيسيتين وهما البدو وهم أهل القفار وسكان الأرياف ثم الحضر وهم سكان المدن والأمصار ذاهبا الى أن البداوة هي شعار العصبية.الى جانب ما سبق فإن ابن خلدون ينظر الى جانب العصبية ايضا من زاوية عسكرية اذ تعتبر العصبية في نظره بمثابة المولد الدائم لعملية القوة والتغلب والتي تتقمص الطابع العسكري في أغلب الأحيان.


واذا كانت للعصبية مقومات تعززها فإن لها ايضا عوامل تفسدها وهذا هو ما يتناوله المؤلف في فصل آخر حيث يوضح أنه يمكن إجمال علل العصبية ضمن بعض الظواهر التي ترجع أساسا الى قيام الملك وازدهار الحضارة والى عوامل دينية وعقائدية، فالملك والحضارة يفرزان بعض العلل التي تنعكس على العصبية القبلية فتضعفها وتفكك تركيبها مما يؤدي الى انهيارها وتلاشيها مع مرور الوقت.


أما العوامل الدينية والعقائدية فهي كفيلة بأفول العصبية القبلية وكبح جماحها اذ لا تترك تلك العوامل إلا ما يفيد ويصلح. ويلخص العوامل التي تنتاب العصبية بسبب الملك والمستوى الحضاري بما تفرزه الظواهر التالية: الدعة والترف، معاناة الاحكام، فقدان الشجاعة، المذلة والإنقياد، الإنفراد بالمجد، نهاية الحسب.


ورغم ما ذهب اليه ابن خلدون من ذم الشريعة للعصبية إلا أنه اعتقد أن الدعوة الدينية لن يتحقق لها النجاح دون عصبية وحاول إيجاد مسوغ عقلاني يوفق بين أحكام الشريعة والعصبية وذلك من خلال رؤيته للدنيا وأحوالها وكيف اتخذت مطية يركبها الناس الى الأخرة، ذاهبا الى أن الدين أداة تهذيب وإعتدال للعصبية.


في فصل آخير يحاول المؤلف نقد نظرية ابن خلدون مشيرا الى وجود دراسات عديدة في هذا الخصوص يأتي على رأسها من بين الأعمال العربية رسالة الدكتور طه حسين باعتباره أول من كتب عنه من علماء المشرق الإسلامي وهو هنا يشير الى قصور الرسالة بشكل كبير وبدرجة تثير الدهشة والحيرة منتقدا اتجاه طه حسين الى النبش بكل السبل عن الأخطاء واختلاقها من العدم. وقد لقيت هذه الانتقادات من قبل طه حسين ردا من كل من ساطع الحصري وعلي عبد الواحد وافي.


ويشير المؤلف الى أن الأبحاث الأخري التي تناولت ابن خلدون سواء اتفقت معه أو خالفته أقرت بما يتحلي به من عبقرية وما قدمه للإنسانية من خدمات علمية جليلة. ويذهب الى أن معظم هذه الدراسات لم تضيف جديدا الى موضوع العصبية وأحوالها سوى الاجتهاد في توضيحها وإزالة ما يكتنفها من غموض.


غير أنه يشير الى ما ذهب اليه وافي من نقص استقراء ابن خلدون في بعض القضايا مثل نظريته عن شئون السياسة وقيام الدول، ومبالغاته في أثر البيئة الجغرافية على شئون الاجتماع ، ومبالغاته في أثر القادة والحكام في شئون الاجتماع والتطورالاجتماعي

الكتاب: العصبية القبلية

الناشر: دار الكتاب العربي ـ الجزائر 2003

الصفحات: 270 صفحة من القطع المتوسط

(مصطفى عبد الرازق-"البيان)