سيرين الحسيني شهيد هي سيدة فلسطينية من مواليد عام 1920 عاشت في القدس حتى عام 1936 حيث اضطرت للنفي القسري وذهبت مع أسرتها الى بيروت التي تعيش فيها حتى الآن.. وهي والدة ليلى شهيد مندوبة فلسطين في فرنسا منذ عام 1994. في هذا الكتاب «ذكريات القدس» تحكي سيرين الحسيني شهيد قصة اسرة فلسطينية، اسرتها في مدينة القدس حيث امضت سنوات طفولتها ومراهقتها وكانت قد كتبت مخطوطة «ذكرياتها» باللغة الانجليزية وذلك لأنها ارادت، كما تقول ان يطلع على مذكراتها اكبر عدد ممكن من القراء في العالم، وارادت ايضا ان تثبت للعالم بأن الفلسطينيين يشكلون شعباً مثل بقية شعوب العالم، هكذا تم نشر الكتاب ايضا باللغة الانجليزية ثم باللغة الفرنسية.


ان هذا الكتاب من الذكريات بعيد كل البعد عن أي بعد دعائي بل ان السيدة سيرين الحسيني شهيد قد كتبت هذه الصفحات «من اجل اطفالها والاجيال القادمة» التي ربما انها تجهل كل شيء عن الاجيال السابقة وعن نمط حياتها تقول:


«انه من المهم المحافظة على ذكرى الايام الغابرة فأمل الوصول الى مستقبل افضل لا يمكنه ان يتغذى الا بالمعرفة الحقيقية للماضي». وفي المقدمة التي كتبها المفكر الفلسطيني الكبير الراحل ادوارد سعيد، نقرأ: «كتاب سيرين حسيني شهيد هو كنز تاريخي وانساني، (...) انها شهادة حميمة دون شك، لكن هذا كتاب ادبي.. أليف وانساني وصادق ومعطاء وبليغ».


تنتمي «سيرين الحسيني شهيد» الى احد اعرق الاسر الفلسطينية في القدس حيث تعود جذورها في هذه المدينة المقدسة الى اكثر من ثلاثة قرون. وهي ابنة جمال الحسيني الذي كان من العناصر الفاعلة في ثورة 1936 ـ 1939


مما دفع سلطات الانتداب البريطاني في فلسطين الى نفيه قبل عشر سنوات من «النكبة» التي كانت وراء نفي اكثر من ثمانمئة ألف فلسطيني الى مختلف بلدان العالم «عائة سيرين هي دون شك من اعرق العائلات الفلسطينية فمن جهة ابيها هناك الحاج امين الحسيني ومن جهة امها خالها موسى العلمي، الحائز على شهادة جامعية من «كامبردج» وكان يحمل افكاراً متقدمة جدا بالقياس الى ابناء جيله.


تؤكد المؤلفة بأن والدها موجود في صميم ذكرياتها بالقدس والذي كان يروي لها الحكايات عن طفولته وألعاب طفولته، ولا تنسى ذلك اليوم، كان عمرها ثلاث او اربع سنوات، حيث كان والدها يهم للخروج فتوسلت اليه للبقاء والدموع تملأ عينيها «كي يلعب معها» يومها رفعها بيديه ووضعها على ركبتيه


ثم سألها اذا كانت تذكر ذلك اليوم القريب التي رأوا فيها لاجئين أرمنيين وهم يقطعون شوارع اريحا وامتعتهم على ظهورهم بينما يجرون اطفالهم وراءهم» وقال لها: «هل تذكرين بأنني شرحت لك بانهم كانوا يبحثون عن ملجأ؟ ألم نشعر بالألم من اجلهم لأنهم كانوا مطرودين من بلادهم ومن بيوتهم؟».


ثم صمت لحظة واضاف: «اذا لم نعمل نحن الفلسطينيين، بكل قوتنا فسيكون علينا ان نجول في العالم بحثا عن ملجأ.. و..».


«لقد توقف فجأة وعلا الانفعال وجهه ولحظت الدموع في عينيه» تقول سيرين.


ثم «تقفز» المؤلفة مباشرة الى لحظة قاسية اخرى متباعدة جداً في الزمن عن اللحظة الاولى يوم كان عمر والدها ثلاث وتسعين سنة وكان على فراش الموت في الرياض وكانت هي في بيروت، كانا كلاهما «منفيين» من القدس وكل منهما «منفي» عن الآخر عندما عرفها قال لها:


«يا صديقتي. يا صديقتي» . تقول: «كان صوته شابا في اذني وتذكرت تلك النزهات في حديقة منزلنا بالقدس فوق العشب الذي تغطيه قطرات الندى، وانا اقفز بجانبه محاولة اللحاق به وهو يمشي حيويا وسعيدا بخطى سريعة».


ان المؤلفة تصف في هذا الكتاب، الذكريات كيف كان الفلسطينيون ومن كل الملل والطوائف يتعايشون مع بعضهم البعض دون اية عدائية لكن الذكريات المشوبة بالحنين الى تلك الايام السعيدة التي قضتها سيرين جمال الحسيني في القدس لا تخفي تصاعد الاضطرابات والقمع البريطاني،


كذلك تصف المؤلفة بدقة مقاومة الفلسطينيين في سنوات الثلاثينات والأربعينات وعلى أنها كانت مقاومة شجاعة قادها وغذاها رجال أرادوا منع الاحتلال الاجنبي لبلادهم.


ومن خلال سلسلة من الصور التي تتوالى حسب ترتيبها الزمني منذ أن كانت سيرين الحسيني في مدرسة الحضانة الخاصة الأميركية في باب الزهرة وحتى بداية سنوات المنفى عام 1936، بل حتى بعدها يمكن للإنسان ان يفهم عمق حالة التمزق التي عاشها الشعب الفلسطيني،


لكن المؤلفة لا تكتفي بوصف نمط حياة الشرائح الميسورة والمثقفة التي واجهت آلام التهجير والمنفى بل انها ترسم «بدقة» أيضاً حياة الفلسطينيين الذين مكثوا في القدس وحياة أولئك من الفلسطينيين الذين ينحدرون من أصول متواضعة والذين تقول عنهم بأنهم قد عانوا أكثر من عائلاتها من دفعهم نحو حالة أعمق من الفقر ومن الاحتلال الاستعماري.


تقول سيرين الحسيني شهيد في احدى ذكرياتها عن القدس: «كان هناك جمهور غفير دائماً في المدينة القديمة، رجال دين مسلمون وقساوسة وحاخامات بلباسهم الأسود ولكل منهم يلبس على رأسه ما يدل على ائتمانه الديني،


وكان هناك فلاحات قدمن من القرى المجاورة من أجل بيع منتوجاتهن في السوق، كن يضعن على رؤوسهن سلالاً مليئة بالخضروات والفواكه يد على الخصر واليد الأخرى تمسك السلة يقدر من التوازن الرائع».


وتقول في مكان آخر: «كانت وسيلة النقل الوحيدة في أزقة المدينة القديمة هي الحمير، وكان نهيقها يمتزج أحياناً مع قرقعات الصحون النحاسية لبائع المرطبات».


مثل هذه الحكايات التي لا تخلو أية صفحة في الكتاب من واحدة منها يرى بها ادوارد سعيد، عرضاً ثميناً غير رسمي، عرضاً شخصياً لحياة البشر العاديين الذين كان عليهم ان يواجهوا منظمة سياسية حديثة مصممة على حذفهم من التاريخ، كما يؤكد ادوارد سعيد على الأهمية «التاريخية» لهذه الأحداث بسبب النقص الكبير في الأراشيف لدى الفلسطينيين.


ثم ان كتاب «ذكريات القدس» هو بصيغة ما قصة حب» بين طفلة ومدينة طفولتها.. الحب الذي فرق أصحاب المشاريع الاستعمارية بين المعنيين به في الواقع، بقي إذن الخيال. تقول سيرين الحسيني شهيد: «أعود غالباً إلى القدس في الحلم،


ان هذه الرحلة الداخلية ليست مضمخة دائما بالحزن واليأس، وأحياناً يملؤني مجرد الفرح بأن أكون فيها ـ أي القدس ـ بحرارة عميقة أغمض عينيّ وأحلم في عمق أعماقي اختار صحبتي والأماكن التي أريد زيارتها والأشخاص الذين أتمنى رؤيتهم،


وهؤلاء يمكن أن يكونوا طاعنين في السن أو شباباً بعضهم رحلوا منذ سنوات طويلة، وبعضهم لا يزالون على قيد الحياة»..


هذه الكلمات هي بعض ما جاء في فصل يحمل عنوان «شقائق النعمان» والتي كان عددها «ثلاث» وكانت تطل عليها من نافذتها والتي وجدت عوناً لدينا، تقول: «في كل مرة كنت أطرح فيها أسئلة على نفسي ويصعب علي ايجاد الاجابة كانت زهرات شقائق النعمان الثلاث تأتي لنجدتي».


وفي معرض الحديث عن «السنديانة» تحكي سيرين الحسيني شهيد عن جدها لامها «فيضي العلمي» الذي كان رئيساً لبلدية القدس خلال فترة من الزمن وكان قبلها موظفاً في الحكومة عندما كانت فلسطين تشكل جزءاً من الامبراطورية العثمانية


وذات مرة في إحدى الجولات الريفية كانت سيرين بصحبة جدها «فيضي أفندي» الذي كان «يعشق الريف» ظهرت من بعيد «سنديانة» عملاقة على تلة قريبة. اتجه «الموكب» نحوها للتمتع بمنظرها عن قريب وللتنعم ببعض ظلها


فالوقت كان صيفياً حاراً.. لمح الفلاحون الجد وحفيدته فاتجهوا نحوهما للسؤال عما إذا كان هناك مساعدة يمكن تقديمها كـ «عادة الفلاحين الفلسطينيين» كان ذلك اللقاء بين «فيضي» العلمي وتلك السنديانة منعطفاً في حياته. باختصار لقد «وقع في حبها» واستمرت قصة الحب تلك طيلة حياته، بل ونقلها للأجيال اللاحقة من أبناء أسرته هذا وقد قال له بعض الخبراء بأن عمر تلك السنديانة أكثر من ألف وخمسمئة سنة.


وفي ذلك اليوم الذي جلس فيه الجد مع الفلاحين عرف بأن مالك السنديانة هو أحدهم، فقدم له العرض التالي: «هل تقبل أن تبيعني السنديانة وظلها؟» قبل الفلاح العرض بكل سرور وأصبح فيضي العلمي صديقاً لأهل القرية كلهم الذين نصحوه ذات يوم بأن يشتري أرضاً كافية لبناء منزل كبير فعمل بنصيحتهم.. وأصبح سكان القرية طيلة فترة الصيف.


تقول سيرين حسيني شهيد: «لقد كبرت في ظل السنديانة، وعندما كان عمري تسع أو عشر سنوات كنت أتسلق أغصانها حتى القمة» ان من يقرأ هذه الكلمات يدرك مدى عمق العلاقة بين أبناء فلسطين وأرض فلسطين،


هكذا وبدون شعارات وأيديولوجيات ترسم سيرين حسيني ـ شهيد صورة بشر مليئين بالانسانية وبحب الوطن.. بشر يبحثون عن العيش بهدوء وسلام وكانوا يعيشون بهدوء وسلام حتى جاء من خلخل توازن ايقاع حياتهم..


بعض عناوين فصول هذا الكتاب هي بالتتالي: «شقائق النعمان» «السنديانة» «هالا» «فيرا وتاتيانا» «المنفى» «بيروت» «الست زكية» «بغداد»، «العم موسى» «أم يوسف»..إلخ.


هذه العناوين كلها تحكي القصة كلها، لكن هناك لحظات تدعو للتوقف والتأمل، نقرأ في الكلمات الأولى من الصفحات التي تحمل عنوان «المنفى» ما يلي: ذات يوم في خريف 1936 كنت جالسة وحيدة في شرفة منزلنا بالقدس،


بدا ان الزمن قد توقف على الرغم من التوتر الذي كان يسود في المدينة، وفي المواجهات التي كانت تزداد عنفاً مع حكومة الانتداب، كان والدي في أريحا من أجل الاهتمام بحقولنا ولكن أيضاً من أجل ان يزرع الشك في ذهن البريطانيين حول مكان وجوده،


وكانت أمي القلقة داخل المنزل، وكان الأطفال الصغار قد ذهبوا عند الجيران، أما أنا فقد أخذت بالقراءة متلذذة بالسكون الذي كان يخيم في المنزل.


«كان الغسق يقترب عندما اقترب رجل طويل القامة وطلب بإلحاح رؤية والدي جمال الحسيني.. فأجبته بأنه غير موجود، ألح بالطلب وكانت اجابتي نفسها، كنت لا أزال شابة صغيرة وكنت أعرف انه ينبغي حماية أبي وكنت فخورة بموقفي الحازم.


«نظر الرجل بقسوة لي، وقال لي بصوت واضح وآمر: اسمعي لي جيداً، قولي لوالدك إذا كان ذلك باستطاعتك بأنه ينبغي ان لا يمضي الليل في البيت».


ثم انصرف الرجل الغريب وجاء الأب مع قدوم الليل، وأبى أن يعطي أية أهمية للرسالة التي بلغناها له، لكن بعد جهد ونقاش قبل الأب أن يخرج من الباب الخلفي. وفي فجر تلك الليلة وصلت مجموعة من جنود الانتداب البريطاني ومعهم أمر بالقاء القبض على جمال الحسيني،


أكدت الأم عدم وجوده، ففتشوا المنزل غرفة بعد غرفة، وعندما لم يجدوا أحداً أعلن الضابط بأن عناصره سوف يمكثون في الحديقة ويراقبون المنزل «حتى إشعار آخر» كانت سيرين هي المكلفة من الأسرة بالبحث عن أبيها،


عند الأقارب لانذاره لقد وجدته عند العمة «أمينة» أخبرها بأنه ينبغي عليه ان يعيش حياة سريّة لبعض الوقت، بعد أن قبضوا على جميع معاونيه، تقول: «لقد مضى زمن طويل قبل أن أراه، فقد سمعنا عبر الاذاعة بأن زعماء سياسيين آخرين جرى تسفيرهم في مركب إلى جزر سيشل،


كنا نجهل تماما مصير والدي، ولم نكن نعرف سوى شيء واحد «هو انه اختفى» بكل الأحوال كانت بيروت وهي نقطة اللقاء المتفق عليها في حال انفصالنا عن بعض لسبب ما، وبعد فترة قصيرة من «اختفاء» الأب تركت الأسرة القدس وكانت الوجهة هي بيروت،


وكانت تجربة الدراسة في المعهد الأميركي بالنسبة لسيرين ثم الجامعة الأميركية بينما كانت الأسرة بعد لقاء الأب في بيروت قد ذهبت إلى بغداد وفي بيروت تعرفت سيرين إلى زوجها القادم الطبيب منيب شهيد.


ثم كان عام 1948 عام النكبة الذي كانت الجامعة العربية قد تأسست قبل أربع سنوات أي عام 1944 وكان خال سيرين المحامي موسى العلمي» هو الممثل الوحيد لفلسطين في مؤتمر الاسكندرية حيث تمت صياغة ميثاق الجامعة لكنه خسر بيته وأرضه مثل الكثيرمن الفلسطينيين،


ولم يترك سوى منزل صغير في أريحا.


بقي «الخال موسى» في فلسطين في الأراضي المحتلة، بعد حرب 1967 وباسم قانون «جمع الشمل» عادت والدة سيرين إلى أريحا عام 1972 حيث كان أخوها ثم عادت سيرين وأخوتها إلى عند «أمهم»..


في ذلك اليوم عندما قطعت «سيرين» جسر «اللنبي» الشهير بدا عليها انفعال كبير فقال لها ذلك الصبي الذي كان يحمل حقيبتها لقاء بضعة دراهم «لا تدعيهم سيدتي يرون ضعفك، وهكذا كانت تقاوم».


الصفحات الأخيرة من الكتاب تحكي عن الأيام الأخيرة، للأب جمال الحسيني الذي أمرت سلطات الاحتلال الاسرائيلي برحيله عام 1982 ثم يموت بعده «الخال موسى» في عمان 1984 ليرافق جثمانه في اليوم التالي أسرته وبعض أصدقائه إلى القدس، عبر جسر اللنبي، ليدفن إلى جانب والده «فيضي العلمي» ولقد وحدت يومها مآذن المساجد وأجراس الكنائس صوتها لتستقبل ابنا عرف أخيراً طريق العودة.