نحن هنا أمام شاعرة كوردية متميزة, تكتب قصائدها وكأنها تحلمها, تغنيها, تحلق بها. تغنيها، ترقصها ، تطيرها
نحن هنا أمام كائن يشبه الخيال،حين كنتُ أقرؤها مع صديقة من غزة في ليالينا الفلسطينية الضيقة والمعتمة والقتيلة ، كنتُ أقول لصديقتي : كأني احلم اني اقرا شعرا ، كانت صديقتي تقول لي كأني اتعرض لمغازلة نهر, تحرش طير, معانقة وعل.
خلات احمد
شاعرة كوردية من سورية تعيش في سويسرا منذ سنوات,أجزم لو أننا فتشنا أدراج مكتبتها لعثرنا على نهرين وعشرين عصفوراً وستة تلال.
من أين تأ تي خلات ؟
بكل هذا الحب المتسامح العذب ؟
كيف تحشد كل هذا العالم أمام نظرة ٍ حزينةٍ لإمرأةٍ خذلها الحب؟
كيف تستدرج خلات كل قوى و مشاعر الطبيعة وأسرارها ؟
,لصهل أمامنا ألف حصان. أحس أننا لو اقتحمنا عالمها الخاص لأندلعت في وجوهنا ألف غيمة
قصائدها مليئة بالريح والمطر ، لا يحد طيرانها حدود ، تتنقل من سهل الى واد بخفة أنثى النسر ورقة انثىالحجل.
هنا حوارمعها.
أنا أيضا لستُ واثقة ً من سببٍ مباشر ٍ لذلك, قد يكون انحيازاً للطبيعي والعفوي تجاه عالم ٍ كثير الحسابات لا أستطيع مسايرته.
نوعٌ من الدفاع عن النفس تجاه العزلة.

هو أيضا الإنتماء في الأصل لمكان لم يسمح له الإحتلال المستمر أن يخرج من قرويته ,يفرض تدوين تفاصيله ليبقى.
تدوينٌ لأماكن لم نعشها كما تستحق في غمرة انشغالنا بتدابير وطن ٍ حر ٍ هو حقنا. هو انحياز للمكان يبقى ولا يغادر مثلنا. كتابة للحياة بذاكرة الطبيعة,لا يفقدها التعسف شرعية وجودها ,لاتفلح محاولات التهديم أن تجعلها تخلع انتماءها لطفولتنا ومراهقتنا وشبابنا.

المكان يبقى شابا في الذاكرة, أنا أذكر بلدتي "ديرك" كما غادرتها قبل ثلاثة عشر عاما,ستبقى في ذاكرتي كيوم غادرتها, ربما يتيح لي بعض الخلل في الذاكرة أن أضفي عليها من ألق الخيال بعضاًمن شعر ,تزخر بأحداثها, سعيدة أوحزينة. يحتال عليّ المكان بالحنين فيدون نفسه بكلماتي.

ربما هو أيضاً سعيٌ لتدوين بعض الدهشة من التراث الشفاهي الكردي , مُنع تدوينه فغنيناه, هذا التراث البارع في حداثته بناءاً فنياً ومضموناً راقياً لا يرقى إليه معظم الشعر الذي يدعي الحداثة اليوم.

ربما أيضاً هو جين وراثي يتناقله الكورد في عشقهم الفطري للطبيعة.
في النتاج الأدبي لأي كردي ستتلمس هذا قليلاً أو كثيراً, وليس سليم بركات ويشار كمال المثالين الأوحدين في هذا.
هنا كل شئ مرتب ومنظم, هنا قوانين لكل شئ, مواعيد لكل شئ , حتى العادات اليومية أخذت بمرور الأيام المتشابهة مكانة القوانين وأنا المسكونة بجموح الحرية والإنعتاق من التكرار والملل والتحديد مجبرة على العيش في هذا المكان حسب قوانينه.

إذاً, شكراً للخيال إذ يتيح لي أن أكون غزالة أو زهرة برية تستطيع التحرك في عالمها بكل ما يسمح لها ذلك الخيال من جنون هو في عمقه جموح للعفوية ...هي إذاً محاولة لإبتكار عالم أكون فيه قريبة إلى نفسي وأنا أستنفذ كتابة ممكناتي, محاولة أن أنمي قدرتي على الحب .

هو سعيُ لعدالة أن تكون الطبيعة شريكة في حياتنا. هو خيالٌ ليس محضاً,خيالٌ مبنيٌ على واقع ٍ غرائبي ٍ إلى درجة ٍ تسمح لي بإعادة تشكيله.

فأنا إذاً بشكل ما كل شخوص

قصيدتي,اشياءها,كائناتها,معالمها الجغرافية.

أنا الإمتداد لكل من قرأت لهم أو عنهم ,كل من سمعت منهم أو عنهم,كل من رأيتهم أو عشت معهم.

أنا تحايل على الأشياء لولوج كنهها لتمنحني أقصى ما تستطيع من إحساس,أدونه محاولة ً الحفاظ عليه كما هو طازجاً وعفوياً في محاولة لمنح القصيدة مصداقيتها, ساعية لأناقة الشعر.
كل منا يسعى إلى الوطن بطريقته ..حسب رؤاه وإمكاناته ...وأنا إمكانيتي هي الكتابة
حتى في الكتابة هناك أشكال متعددة لهذا السعي , مثلا هناك القصيدة السياسية الخطابية إن صح التعبير ,وهي إغراء من الصعب أن ننجو منه نحن أبناء الشعوب المضطهدة , من الصعب السيطرة على الثوران العاطفي الذي هو نتيجة طبييعة لما يلحق بنا من انتهاك وظلم.

أنا أيضا كتبت هذا النوع من القصائد في بدايات تلمسي لطريقي في الكتابة,,,في ذلك الوقت كنت أظن أنني قادرة بإلقاء قصيدة أن أستحث الشعب كله على الثورة وأقوده إلى التحرر في الحين الذي لم أملك حتى فرصة إلقاء تلك القصيدة جهاراً.

الآن أيضاً أكتب الوطن والحرية ,بهدوء أكثر, أكتب تاريخه وطبيعته وناسه محاولة الأحساس بهم في حياتهم اليومية,تدوين أعماقهم متخذة من أعماقي مدخلاً إليها .كوني واحدة منهم أعيش ما يعيشون.

مرة أخرى أعتقد أنها محاولة لمقاربة الملاحم الكردية المغناة, التي تمزج العشق الكثيف حتى الوجد بالتاريخ, وتحكي عبرهما جغرافيا كوردستان, عادات أهلها وأزياءهم, مدنهم,قراهم,أحلامهم ,بطولاتهم, انكساراتهم,وحتى حيواناتهم ,برقة وشفافية لا تخلو من إشارات إيروتيكية تزيدها مصداقية وانتماءاً للحياة. هذه التراث الشفوي هو الذي حافظ على اللغة والتاريخ الكوردي ويشكل منبعاً مهماً لكل دراسة أو بحث يتناول شعبنا ووطننا.
هنا أيضا لديهم أدباءهم وفنانيهم في كل المجالات, لكن ثمت فسحة هائلة تفصل المجتمعات التي أتينا منها وهذا المجتمع الذي نعيش فيه الآن, هذه الفسحة تجعل التواصل صعباً . حتى إذا تغاضينا عن عامل اللغة والذي يمكن تجاوزه بمرور الوقت, فإن كيفية تناول الأحداث والأشياء مختلفة , حتى النكتة مختلفة.

بالنسبة إلي أتواصل فقط بالقدر الضروري,ربما يكون هذا تقصيراً مني,لكني لم أشعر بعد أنني بحاجة إلى أكثر من ذلك,ربما خوفاً على عالمي الداخلي, خوفاً من أن يتخلخل إذا انفتحت على مجتمع مختلف إلى هذا الحد ,هو أيضاً لا يتقبلني بسهولة ولايتساهل معي في معطياته...قد يكون هذا الإنفتاح إغناءاً لي وليس بالضرورة انتهاكاً,لكني أعتقد أنني لست مستعدة بعد , حين يصل الأمر حد النضوج فسيأتي من تلقاء نفسه ,مثل القصيدة.

في ما عدا ذلك فإن الطبيعة تمت المحافظة عليها بشكل مدهش هنا , لم يسمحوا للآلة أن تفسدها,وهي تشكل متنفساً مهماً لي, وفي الوقت المتبقي من رعاية أسرتي فإن القراءة متعة حافظت عليها بإستمرار, والآن الأنترنيت ومع أنه منهك للأعصاب إلا أنه في الوقت نفسه يتيح متابعة هائلة للوسط الثقافي والسياسي ومجالات أخرى لا تعد .

فضيلة المرأة الكردية أنها كانت علىالدوام عاملاً مهماً في المحافظة على التراث الكردي الذي بقي شفاهياً في معظمه مع أن هناك محاولات حثيثة لتدوينه.

أذكر في طفولتي أن جدتي/ وفي ما بعد أمي/ كانت تروي لنا نحن الأحفاد الكثير من القصص,وكانت تلقي علينا أيضاً الفوازيرالمتقنة في بناءها اللغوي ,هناك أيضاً أغنيات خاصة بألعاب معينة للأطفال ,أغنيات قصيرة وسريعة الإيقاع ,كل هذا لم يدون منه إلا القليل.

بناتي عمومتي وأخوالي كن في المساءات ينسجن الدانتيلا ويحاولن أن يحددن شكل الأميرة " زين" وطريقة ارتداءها لزينتها ومحتويات غرفتها من خلال استعراض الأشكال المختلفة المغناة التي سمعنها من ملحمة " مم وزين" , كن يحاولن وبنفس الطريقة أن يفسرن سبب قبول خجي الهروب مع سيامند وسبب إقدام سيامند على ذبح الوعل في ملحمة " سيامند وخجي".

اذكر أيضاً أغنيات خاصة للرحى وهن يجرشن العدس أو الحنطة,أغنيات للنول, أغنيات للحصاد ,أغنيات لتقشير القمح في الجرن الحجري,أغنيات لغسيل الصوف في النهر.
أغنيات لكل شئ, للعمل, للثورة, للظلم, للعشق, للحداد, هذه الأغاني هي التي شكلت معظم التراث الكردي .

ربما لو كنتُ أتقن الغناء لما كتبت الشعر. مع أنني لا أستطيع الكتابة بلغتي الأم حتى الآن , إلا أن هذا التراث, يفرض نكهته الخاصة على نتاجي المكتوب بالعربية ويترك بصمة واضحة فيه.
نحن مثل كل شعب ٍ آخر لدينا الأدب الذي يعتمد الزعيق والخطابة ولدينا ايضاً الرفيع .ولحسن الحظ يبدو أنك وقعت على الرفيع منه.
بسبب المنع المستمر للغتنا نكتب إلى جانب الكردية باللغات العربية والفارسية والتركية وهناك كتاب أكراد في اللغات الثلاث وصلوا إلى العالمية. أنا مطلعة على المعاصر المكتوب بالعربية وهو موزعُ على مدارس شتى, ويتراوح بين السئ والرفيع مثل كل أدبٍ آخر.

إذا جاريتك في أننا ننتج أدباً رفيعاً وعميقاً فقد أقول لأننا مقصيون من كل حقوقنا ,من إنسانيتنا, مقصيون من الحياة نفسها, لدينا ما يكفي من الوجع والحرمان ما يجعلنا نكتب , في محاولة لحماية الذات ضد محاولات الإمحاء وترسيخ للوجود المهدد عبر إعادة صياغته أدبياً.
سعيدة أن تكون قصيدتي قادرة على لمس مشاعرك بهذه القوة ,,لكني لا أتمنى أن تكون قصيدتي قادرة على لمس مشاعر أبناء الشعوب المضطهدة فقط, أطمح أن تدفق إلى خباياي كل قارئ لها لتوقظ فيه بعض القلق وتفتح لسجيته فضاءات التأويل,,فينسبها إلى نفسه ,,هكذا في لحظة ما نصبح أنا وهو متشابهين.

أطمح أن تكون قصيدتي قادرة على لمس الأحاسيس الصغيرة المضمرة العصية على الإدراك السهل ,أن تشحنك بالغموض فتبحث معي عن منفذٍ للنور,تبحث معي عن قصيدة ٍ أخرى ,بحثاً لن ينتهي .
التجربة الأدبية الكوردية في المنافي, سؤال جدير بالبحث فيه وبذل الجهد والوقت له.

إذا كان لي أن أبدي رأياً فسأقول أنني كنت أتوقع أن الأدباء الكورد الذين هاجروا من سوريا وبعد أن تحرروا من القمع المستمرسيكتبون في أوربا أدباً خطابياً مشتعلاً / وهو ليس معدوماً / لكن المفاجأة إن الحرية جعلتهم يلتفتون إلى كنونتهم كبشر وهم يحاولون / بتفاوت بين أديب وآخر / أن ينتجوا أدباً شفافاً وعميقاً وشغوفاً بالجميل والإنساني...دون إغفال خصوصيةالكوردي, أدباً مترعاً بالحنين إلى الأهل والوطن,عودة هادئة لتدوين الأمكنة والناس, تدوين الأحلام, الواقع اليومي بكل فقدانه ,وكأن البعد أتاح لهم رؤية أكثر تفحصاً لواقع ٍ لم يفلحوا في تدوينه وهم فيه لشدة إلتصاقهم به, إعادة النظر في كل الأشياء والأحداث برهافة أكثر, وإعادة إنتاجه أدباً يمس الشغاف.

عن اختلافه عن مجمل الأدب السوري , فهناك دوماً قضايا وطنية وأنسانية مشتركة, لكن هناك أيضاً خصوصية الكوردي والقضايا التي تمس إنسانيته المنتهكة.

في البناء الفني ,طبعاً ينعكس كلا التراثين العربي والكوردي بشكل أو بآخر على النتاج الأدبي,أظن أننا ونحن نكتب بالعربية فإن نكهة كوردية تفوح من نتاجنا,الصور تختلف بين شاعرين ينتميان لنفس العائلة فكيف بأدباء ينتمون إلى شعبين ولغتين وتراثين مختلفين, وهذا يشكل إغناءاً للأدب السوري إذا صحت التسمية .

الملفت أن التجربتين الأدبيتين في عموم سوريا وفي كوردستان سوريا تنموان بشكل منعزل عن الآخر باستثناءات قليلة, فمعظم الأدباء العرب السوريين لا يعرفون معظم الأدباء الكورد الذين يكتبون بالعربية فما بالك بالذين يكتبون بالكوردية.
هناك عزلة بين الجهتين, حتى أن هناك دراسات وانثولوجيات عن الشعر السوري تتجاهل حتى سليم بركات / هل يمكن تجاهل منجزه /, هذه العزلة هي أيضاً جانب من جوانب الإهمال المتعمد لكامل القضيةالكوردية في سوريا, هذا بالنسبة للمكتوب بالعربية أما المكتوب بالكوردية فهو ممنوع نشراً وطباعةً وتوزيعاً ,ومع ذلك فهو ينمو وفيه تجارب مشرفة.