تشق الفنانة ريم زيداني دبوري من طمرة، طريقها وسط الأعشاب المتمايلة وبقايا أحجار البيوت المتراكمة، كما لو أنها تسترجع كل حجرٍ وممرٍّ كان ينبض بالحياة قبل عقودٍ خلت. ترافقها والدتها الحاجة عالية زيداني، صوب بقعة من التاريخ كانت تضج يوما ما بالحياة تدعى قرية الدامون المحاذية لقرية كابول شرق مدينة عكا.

تغطية متواصلة على قناة موقع "عرب 48" في "تليغرام"

ومضت دبوري برفقة والدتها تتنقلان بين الركام وكأنهما تلامس أطياف الماضي. وتقول الفنانة لـ"عرب 48" إنني "كابنة الجيل الثالث للنكبة، تلقيت حب الأرض من آبائي وأجدادي. هذه الأمانة لا تموت وسأنقلها لأبنائي وأحفادي، فذاكرتنا الجماعية هويتنا التي يجب ألا تنقطع".

صمتت ريم لبرهة، لامست حجرا مغطى بالأعشاب، ثم قالت بنبرة يغلفها الشجن "هنا... كان منزلنا. هنا، كانت حكايات والدي تتفتح مع كل نسمة تمر".

جلست والدتها على حجرٍ مستطيل، وكأنه بقايا عتبة بيتٍ قديم. تمرر يدها على السطح الخشن، وتبتسم بأسى لتتحدث لـ"عرب 48" عن تاريخ القرية الذي حملته أمانة من أجدادها "كنت في الثانية من عمري حين دمروا القرية. ومع ذلك، أحمل تفاصيلها كما لو كنت أعيشها أمس. حتى رائحة القمح المطحون في مطاحن الدامون لم تغادر أنفي".

بين حديث الأم وابنتها الفنانة، تتناثر الذكريات كما تتناثر حبات التراب تحت أقدامهما. ريم، ابنة الجيل الثالث للنكبة، تتحدث بشغف الفنانة وحزن الوريثة قائلة "حُملت أمانة الحكاية، كما حملت حب الأرض. لم تفرغ ذاكرتنا ولن تفرغ، لم أتوقف عن زيارة الدامون مع والدي منذ نعومة أظفاري حتى مماته رحمه الله، الذي تأثرت من شدة حديثه وتمسكه بحق العودة للدامون. جسدت بيتنا في الدامون كما وصفه لي أبي بحب وحنين: الفرش العربي، الجرار، وشجرة التوت بجانب الأرجوحة التي علقتها جدتي. استخدمت موادا طبيعية لأبقي كل شيء قريبا من الواقع، كل تفصيلة فيه تحكي حبا ووجعا".

على أطلال الدامون: الحنين أقوى من النكبة

أخرجت ريم لوحةً مدهشة صنعتها من الفسيفساء. تلمع القطع الصغيرة تحت ضوء الشمس، مكونة صورة رجل مسن جالس على الأطلال. وأشارت إلى أن "هذا عمي المرحوم محمود، رأيته قبل وفاته هنا صامتا، كأنما يناجي الحجر والشجر عن بيت غاب لكنه لم يغب عن القلب". مضيفة "استعدت ملامح وجهه وهو يجلس صامتا أمام بيت طفولته، متأملا حجارة المنزل وشجرة السنديان والأرجوحة. هذه الصورة لم تفارقني أبدا، وكان عليّ أن أخلدها".

عن رمزية العلاقة بين الأم والأرض، تحدثت ريم عن لوحة أخرى رسمتها قائلة "رسمت أمّا تحتضن طفلها، دون ملامح محددة لوجهيهما، جسديهما متلاحمين في رمز للعلاقة الأبدية بين الأم ووليدها، كما الأرض وأبناؤها". تتدخل الحاجة عالية، وعيناها تلمعان بالدموع قائلة "لو عاد بي الزمن، لعدت إلى الدامون ولو بخيمة. الأرض ليست حجارة فقط، هي الروح. نحن وأرضنا كالجسد الواحد".

بين الحجارة الصامتة، كانت خطوات ريم ووالدتها تكتب رسالة وفاء للأرض، بأن النسيان ليس خيارا، وأن الفن والكلمة والصورة، كلها قادرة على إحياء وطنٍ سكن القلوب قبل أن تغتاله يد التهجير. ثم تشير بالبنان إلى بقايا شجرة سنديان عظيمة قائلة "حتى الأشجار هنا تتذكر. كل شيء شاهد على نكبتنا".

وتوجهت الحاجة عالية زيداني في ختام حديثها لـ"عرب 48" بنداء ينبض بالأمل رغم الألم قائلة "على أبناء فلسطين أن يوثقوا حكاياتهم ويتمسكوا بعروبتهم ويكونوا كالبنيان متراصين، لأننا رغم النكبة سنبقى هنا صامدين. علينا كفلسطينيين أن نتوحد ونحافظ على عروبتنا وتاريخنا. أن نكون كالبنيان المرصوص رغم الألم ورغم النكبات، لأن وجودنا هو رسالة أمل لكل الأجيال القادمة".