«ونظراً للمنزلة الخاصة التي يحتلها الشعر بين فنون الأدب، واعتباراً لما اصابه وأصاب رجاله من سوء حال، بينما الشعر من اجلّ مظاهر الفن وفي تدهوره اساءة للروح القومية، لم نتردد في ان نخصه بهذه المجلة التي هي الأولى من نوعها في العالم العربي، كما لم نتوان في تأسيس هيئة مستقلة لخدمته هي «جمعية ابولو» وذلك حباً في إحلاله مكانته السابقة الرفيعة وتحقيقاً للتآخي والتعاون المنشود بين الشعراء, وقد خلصت هذه المجلة من الحزبية وتفتحت ابوابها لكل نصير لمبادئها التعاونية الإصلاحية. وقد راعينا ان ننزه المجلة عن طنطنة الألقاب والرتب حتى ما جرى العرف بالتسامح فيه، حتى تظهر على مثال ارقى المجلات الأوروبية التي من طرازها، وحصنّاها ضد عوامل التحزب والغرور، فلا غرض لها بعد هذا إلا خدمة الشعر خدمة خالصة من كل شائبة، تسندها خبرتنا الصحافية على مدى سبعة وعشرين عاماً، وهي خبرة لا نباهي بها ولكن نذكرها لطمأنة القراء، ضمانة لثباتنا الدائم...».

بهذه العبارات افتتح الشاعر والأديب المصري احمد زكي ابو شادي في ايلول (سبتمبر) من العام 1932، العدد الأول من اول مجلة خصصت للشعر وأصله ومواضيعه وتاريخه، في الثقافة العربية، مجلة «ابولو» التي وإن لم تعش سوى حياة قصيرة – حيث ان عددها الأخير صدر بعد ذلك بعامين وربع العام فقط -، عرفت كيف تؤثر في الحياة الثقافية العربية في شكل عام، وفي الشعر العربي بصورة خاصة. ولقد كان هذا التأثير من الضخامة الى درجة ان الأعداد القليلة التي صدرت من «ابولو» وسمت، وعلى حد تعبير الكاتب ماهر شفيق فريد واحدة «من اربع لحظات كبرى في تاريخ الشعر العربي في مصر، منذ اواخر القرن التاسع عشر». ولقد حدد الباحث هذه اللحظات، اضافة الى لحظة «ابولو» بـ»مدرسة البعث والأحياء» التي ردت الى الشعر العربي نضارته مع البارودي وشوقي وحافظ وعلي الجارم، ثم «مدرسة الديوان» التي اكدت ان الشعر وجدان وفكر معاً» وكان من اعلامها المازني وشكري وخصوصاً عباس محمود العقاد الذي عاش صراعاً هائلاً مع «ابولو»، إذ ان صفحات عدة في اعدادها القليلة كرست لمساجلته والهجوم عليه او الدفاع ضد هجوماته, وأخيراً – ودائماً بحسب ماهر شفيق فريد – «مدرسة الشعر الحر او التفصيلي» مع صلاح عبدالصبور وحجازي وعبدالرحمن الشرقاوي وغيرهم.

> غير ان مدرسة «ابولو» ومجلتها، كانتا في الحقيقة، الأكثر انفتاحاً وثقافة وعمقاً بين كل تلك المدارس، حتى وإن كانت سمعة المجلة ستطغى كثيراً على سمعة اقطابها، إذ بالكاد يصبح لأي منهم مكانته الخاصة في الانفصال عن «ابولو» على عكس الباقين، من الذين عاشوا بعدما ذوت تياراتهم ومدارسهم. وفي هذا، بالأحرى، دليل على قوة «ابولو»، وصدق تفرغها للقضية الشعرية. لكن «ابولو» لم تخدم فقط شعراءها او ابناء تيارها، ولم تقتصر على ان تكون مجلة مصرية خالصة، بل على العكس، اذ انها فتحت صفحاتها مشرعة لكي ينشر فيها – ومن دون اية شروط مسبقة – كل شاعر انتاجه، حتى وإن كان على تنافر مع رومانسية او كلاسيكية اصحاب «ابولو». كما ان المجلة، عرفت القراء العرب عموماً، ببعض الذين ستصبح اسماؤهم الألمع من بين الشعراء العرب غير المصريين. نقول هذا ونفكر بأبي القاسم الشابي، وإيليا ابو ماضي والكثير من شعراء المهجر اللبنانيين، ناهيك بأن صفحاتها شهدت دراسات عن البلدان العربية وحياة الشعر فيها، اضافة الى مساجلات حول الشعر وقضاياه... وفي هذا الإطار لا بد من ان نذكر مع ماهر شفيق فريد، ان «ابولو» كادت في زمنها ان تكون متفردة ورائدة في مجال افساح المجال واسعاً امام نشر النتاج الشعري – والنثري حتى في بعض الأحيان – الذي كان يكتب من جانب شاعرات ونثريات عربية، ومن دون ان تجد في هذا اية غرابة او ابهة يتم التفاخر بها. كان الأمر بالنسبة إليها امراً عادياً وضرورياً.

> وفي مجال آخر، تعرّف عدد كبير من القراء العرب المهتمين، من طريق صفحات الأعداد الخمسة والعشرين التي صدرت من «ابولو» على بعض اكبر شعراء العالم، وكان بعضهم غير معروف على الإطلاق في العالم العربي، ولم يترجم له أي قصيد من قبل. ومن هؤلاء ألفريد دي موسيه وجون كيتس ووالتر سكوت، كما كان منهم فيكتور هوغو، الذي اذ كان معروفاً للقارئ العربي، من قبل، كروائي، عرف هذه المرة كشاعر، مثله في هذا مثل شكسبير الذي قُدم بعض سوناتاته، كما قدم الكثير من مسرحياته «على اعتبار انها مسرحيات شعرية».

> ثم بعد ذلك، وربما قبل ذلك، واستطراداً فيما يقوله ماهر شفيق فريد، اهتمت المجلة بالحديث عن الأساطير الإغريقية والرومانية، مبررة في شكل خلاق اسمها المستقى من الإله أبولون... ثم راحت تحدث قراءها، وربما لمرة اولى في الثقافة العربية عن خلفيات الشعر الرومانسي، وكذلك عن انواع مستجدة من الشعر مفصلة اياه، عبر امثال مستفيضة، الى شعر فكاهي وآخر وجداني وثالث تمثيلي، ورابع وطني واجتماعي وشعر اطفال، من دون ان يفوتها ان تقدم عودات دقيقة وتفصيلية الى التراث الشعري العربي القديم، عبر مختارات محققة ومدروسة، من شعر ابن زيدون والمتنبي والمعري وغيرهم.

> ومع هذا كله، فإن اهم ما نشرته «ابولو» واهتمت به، كان الشعر المعاصر، فهي الى نشرها عدداً مهماً وضخماً عن حافظ ابراهيم وآخر عن احمد شوقي لمناسبة رحيلهما المتزامن تقريباً، وإلى جانب عدد ثالث خاص عن علي الجارم, نشرت الكثير من المقالات السجالية، والحادة احياناً، لا سيما حين خاض عباس محمود العقاد ضدها معركة، وصلت الضربات فيها الى «ما تحت الحزام» كما يقال في عالم الملاكمة. ولقد نشرت «ابولو» لبعض شعرائها وكتابها الأقطاب، وعلى رأسهم احمد زكي ابو شادي، مقالات عنيفة تندد بالعقاد وتفضحه، لكنها في الوقت نفسه نشرت مقالات، كتبت لها خصيصاً، او نقلتها عن مطبوعات اخرى، تدافع عن العقاد وتهاجم «ابولو»، واحياناً لكونها «تعبر عن فكر مستورد»، ومن كتّاب هذه المقالات اللافتين للنظر في ذلك الحين سيد قطب الذي كان عرف في الثلاثينات والأربعينات كشاعر وناقد ادبي، قبل ان تحوله اقامته في الولايات المتحدة لاحقاً الى المفكر الإسلامي المتزمت الذي نعرف...

> لقد جعل هذا كله من «ابولو» في ذلك الحين, حدثاً استثنائياً في الحياة الثقافية العربية، بل جعل منها ايضاً، موسوعة ادبية تحديثية شاملة، لن تكشف اسرارها وتفاصيلها، اليوم، إلا لذاك الذي يقيض له ان يقتني مجموع اعدادها ليقرأها بعيداً من التشنجات الآنية القديمة. وهو امر بات متاحاً منذ سنوات، أي منذ اصدرت الهيئة العامة للكتاب في مصر، مجلدات تضم اعداد «ابولو» كلها، فبدت مفاجئة، وأحياناً حديثة كأنها كتبت ونشرت اليوم، لخدمة الشعر وأهله, او كما قال احمد شوقي في تحيتها:

«ابولو... مرحباً بك ابولو/ فإنك من عكاظ الشعر ظلُّ

عكاظ وأنت للبلغاء سوق/ على جنباتها رحلوا وحلّوا

وينبوع من الإنشاد صاف/ صدى المتأدبين به يبلُّ

ومضمار يسوق الى القوافي/ سوابقها اذا الشعراء قلّوا

يقول الشعر قائلهم رصينا/ ويحسن حين يكثر او يقلُّ

ولولا المحسنون بكل ارض/ لما ساد الشعوب ولا استقلّوا» (...).



"الحياة"