إنّ إحدى الإستعارات البارزة التي يدور بفلكها مفهوم الحب باللغات الطبيعية هو مفهوم الموت. يُطرح السؤال الفضولي المثير هنا: كيف نفسر أنّ الحب يتجلّى بذروته في تعابير لسانية تمثل مفهوم الموت بالرغم من أنّ الحبّ هو إحتفال كرنفالي للحياة بعمقه العاطفي والأخلاقي والمثالي المقدّس؟ كي نلج صلب الموضوع, دعنا نتأمل الجمل التالية من اللغة العربية الفلسطينية التي تجسد هذه الإستعارة.
(1) ا. ديانا بتموت فِ/بِ علي ب. ديانا موّتت حالها على علي
ج. ديانا بتحب علي موت د. ديانا بتموت بحب علي
ه. ديانا آتلِه حالها أتِل على علي و. ديانا أتَلِه حالهاعلى علي
ز. ديانا ذبحت حالها على علي

أية متكلمة للغة العربية الفلسطينية تفهم أنّ القراءة الأولى المباشرة لهذه الجمل هي قراءة مجازية أو إستعارية وليست حرفيّة. القيمة الدلالية للجملة (1ب) مثلا يمكن أن تكون حقيقية عندما تتطابق الفكرة المُعبّرة في الجملة والحدث أو الفعل أو الحالة التي يدلّ عليها المحمول (predicate) في الواقع (أو العالم الخارجي), دون أن تكون ديانا ميّتة بالفعل.
يمكن أن نفسّر إمكانية وجود هذه التعابير اللسانية في اللغة الفلسطينية (ونظائرها في لغات أخرى) فقط إذا إفترضنا أنّ المنطق الذي يولّد هذه التعابير هو أنّ أقصى درجة أو ذروة المدى في السلّم التدريجي للتعبير عن حالة نفسية أو موقف عاطفي كالحبّ هي النهاية/الآخرة ومفهوم النهاية في اللغة يتمثل في إستعارة الموت لأنّ الموت هو النهاية (لحياة الإنسانة أو الإنسان). هذا الموت في الواقع تعبير أصيل للتضحية والإستشهاد والفداء بالذات البشرية لأنّ الموت هنا موت إختياري بإرادة قوية على الرغم من الإستعارية الرمزية/المجازية لأنّ العرب تتصوّر الأفعال الإنسانية في فضاء النوايا/النيّات أو أنّ واقع المُحبّة أو المُحبّ يتمحور في عالم مثالي رمزي/خيالي. هذا التصوّر الرومنسي (romantic) المثالي للحبّ في هذا السياق يضرب جذوره في باطن اللغة الطبيعية قبل حضوره في السماء الأفلاطونية الفلسفية. تتسلح المُحِبّة بالقصديّة والإرادة القوية والإدراك بدليل ظهور الإسم المركب حالها (المجسّد للعلاقة الأنعكاسية (reflexive) في اللغة) وعدم إستقامة بناء هذه الجمل جليّ في هذا السياق لو أضفنا لفظات الحال بالغلط أو بالصدفه أو بدون وعي كتعبير عن عدم القصدية أو عدم الوعي, كما هو ظاهر في الجمل في (2).
(2) ا. *ديانا أتلت حالها على علي بالغلط/بالصدفه/بدون وعي
ب. *ديانا موّتت حالها على علي بالغلط/بالصدفه/بدون وعي
(الإشارة * تعبّر عن عدم أستقامة بناء الجملة بالعربية الفلسطينية.)

أول دليل لهذا التوجّه في تفسير إستعارة الموت في تصور الحبّ يأتي من جهة المعطى اللساني التالي:
(3) ا. ديانا ميته من الجوع ب. ديانا ميته من العطش

في كلّ من الجملتين في (2), تعبّر متكلمة اللغة العربية الفلسطينية (كلغة الأم) عن الحالة الفيزيائية الشديدة للجوع أو للعطش عند ديانا. فيمكن لها أن تعبّر عن نفس الحالة تقريبا (لأنّ الترادف المطلق باللغة شبه مستحيل) في الجمل التالية, على التوالي:
(4) ا. ديانا جوعانة كثير كثير ب. ديانا عطشانة كثير كثير

تضيف اللغة العربية الفلسطينية دليلا ثانيا على هذا الطرح في تمثيل علاقة الحال والشدة النحوية (intensity) على مستوى الفعلية بدلا من مستوى الإسمية أو الصفتية, كما هو مُبيّن في (5).
(5) ا. ديانا كثّرَتْ بأكل الرزّ = ديانا أكلت رزّ كثير
ب. ديانا ألّلَتْ بأكل الرزّ = ديانا أكلت رزّ أليل

إنّ الإستعارة الحاضرة في (1) هي إستعارة ميتة (dead metaphor) بمعنى أنّ مفهوم الموت يُرَمّز (encode) دلالة الشدّة أو القوّة في السياقات المذكورة بشكل حرفيّ لكثرة أستعمالها في اللغة تماما مثل الإستعارة الميّتة وجِ الأرظ أو بوز القنينه في العربية الفلسطينية. لذلك لا نتوقع مثول الحالة العاطفية السلبية للكراهية في ذهن الإنسانة أو الإنسان الى ذروة الموت عند المُختَبِرَة (experiencer) للحالة العاطفية إتجاه آخر مهّم, كما هو واضح في (6). في المقابل, الإستعارة الحيّة (live metaphor) عادة تحمل قراءات أو تأويلات عدّة لأنّ سمة إنفتاحية النهاية (open-endedness) تميّز هذه الظاهرة اللسانية ( مثل "النصّ أنثى لا تشبع!").
(6) ا. *ديانا بتموت فِ/بِ علي ب. *ديانا موّتت حالها على علي
(بمعنى أنّ ديانا تكره علي بشدة أو حتى الموت)

لا نشّك أنّ مفهوم المبالغة يلعب أيضا دورا في إضاءة معنى الحدّ الأقصى لمفهوم الموت في التعبير عن الحب في (1). ففي اللغات الطبيعية (كاللغات العربية), سمة المبالغة لتحميل الجملة بالمعنى المُعبّر (expressive meaning) واضحة كوضوح الشمس (ها أنا أبالغ مثلا) في المعطيات التالية:
(7)ا. ديانا موّتت علي من الأتل (بدلا من: ديانا أتلت علي كثير)
ب. ديانا خلّصت/أظت على علي (بدلا من: ديانا ظربت علي ظرب كثير)
ج. أهلين ومية سهلين بربّك (بدلا من: أهلن وسهلا بيك)
د. ديانا اشترت كتب الله (بدلا من: ديانا اشترت كتب كثيره)
ه. مرحبتين/مراحب/ مية مرحبه/الف مرحبه/مليون مرحبه (بدلا من: مرحبه)

أيّ تلفظ لأيّ من التعابير في (7) من فبل متكلّمة أو متكلّم يدّل على "ضيق اللغة" (من وجهة نظرها أو نظره) ولكي يتحقق إتساع الإمكانيات وتجاوز حدود الواقع (العالم الحقيقي الحرفي) يقتضي القفز في يمّ اللاواقع الخيالي . فاللجوء إلى توظيف صيغ المبالغة في هذا السياق هو بمثابة إستعارة فضفاضة تزّف تصوّر شدة وقوة الحمل (predication) للموضوع أوالتوصيف النعتي (modification) للإسم المنعوت. فإستخدام صيغة المبالغة المعبرة في (7د) بلفظة "الله" بقصد الدلالة على الكثرة الشديدة في موضع النعت بدلا من الصفة "كثيره" مثلا هو تمثيل لخرق المجال الدلالي الحرفي للولوج في الحقل الدلالي الإستعاري. الإمكانية المنطقية لعالم الدلالي المجازي هذا تقوم على تصوّر الغنى كصفة كمالية اللذات الإلهية(الله هو الغنيّ). الغنى بالطبع يحتوي منطقيّا على مُركّب الكثرة الشديدة. لامفرّ هنا إلا أن نستنتج أنّ الطبيعة البشرية لا تحتمل أن تُحبس في سجن الواقع أو الحقيقي. فنزعة التجاوز للواقع أو الحقيقي هي فِطرية في العقل البشري. الطيران في عوالم الخيال والأحلام وما بعد الطبيعة للنفس البشرية يشكّل "تحرر" ما من عالم الواقع الضيّق والخانق.

حتما ستشاطرني الرأي أي قارئة بأنّ الجملتين اللتين تظهران في (8) هما مترادفتان تقريبا كدليل على أنّ هناك قاسما مشتركا لصيغة المبالغة والإستعارة.
(8)ا. ديانا بتحب علي كثييييييييييييييييييييييييييييييير كثير ب. ديانا بتحبّ علي موت

لن نختم هذه المقالة دون التطرق الى جانب المَثلنة المقدسّة (divine idealization) في حضور مفهوم الموت في كَوْننة الموقف أو الحالة العاطفية للحبّ في قمة أو شدة ذروته في اللغات الطبيعية كالعربية الفلسطينية. إنّ تضحية (أو إستشهادية) المُحبّة في التعبير عن حالة حبها الحقيقي الموصوفة في (1) من قبل المتكلمة أو المتكلم هو في الواقع تتويج الحبيب (علي) على كرسي الإلوهية الخالدة, الذي هو بالحقيقة أُهْل لهذه التضحية, بشكل رمزي كي يعطف ويغفر لها "الإله" الحبيب في منحها الأبدية (الرمزيّة) بعد الممات أو في لحظة الموت أو القتل الإختياري ذاته, لحظة الفناء المطلق في الحبيب, الإله. من هذا المنظور, يتجلى معنى الحياة (بالنسبة للمُحبّة أو المحبّ) بالموت الإختياري في سبيل الحبيب أو المحبوبة (أي الإله أو الإلة) المُخلّد أو المُخلدة حتما, لأنّ الأنا المُحبّة تشتهي الفناء والمحو للآني الفاني.

بعد هذا العرض المقتضب لمعالجة سؤال المقالة, هل يمكن للحبّ (الحقيقي) أن يعيش في غير رحم الموت الدلالي؟, يبدو واضحا باعتقادي أنّ القارئة أو القارىء قادرة أو قادر على الإجابة دون ذكره في جسد النصّ لأنّ الجواب حاضر في رحم روحه مباشرة.