أرق في شوارعنا.. أرق في ضمائرنا / ميسان حمدان
يأتي العرض المؤلم "أرق"، هذا الحدث الفنّي الاحتجاجي والصّارخ ضد العنف كما وُصف، الذي عُرض يوم الاثنين، 23/09/2013، في حي الألمانية بحيفا، وضمّ فعاليات متنوّعة، منها البصريّة، والموسيقيّة، والمسرحيّة، يأتي ليقصّ علينا قصصًا من واقعنا، نحن أبناء وبنات هذا المجتمع الذي يتّسم بالعنف على جميع أشكاله، يأتي ليحيي مشاهد أغمضنا عينينا لكي لا نراها في السّابق، ليُقحم، أمامنا مشاهد أبت ذاكرتنا أن تعترف بها يومًا.
وُزّعت الفعاليات على امتداد الشارع، ابتداءً من مقهى فتوش وحتى ساحة الأسير، بمشاركة عدد من الفنانين/ ات الفلسطينيين/ ات، وبمساعدة 73 متطوعًا/ ة، تحت إشراف صاحب الفكرة، الفنّان وسيم خير.
في نهاية العرض، طلبت رشا حلوة، المنسّقة الإعلامية للحدث، منّا (نحن الحضور)، أن نتوجّه إلى الدفتر الذي وُضع في إحدى الزوايا في ساحة الأسير، وأن ندوّن شعورنا بعد العرض (من يريد ذلك فقط)، فتوجّهت إلى الدفتر مرّتين، وانتظرت مَنْ أمامي لأكتب، وعندما حان دوري، أمسكتُ القلم ورجفت يديّ؛ لم أقوَ على ترجمة أحاسيسي إلى كلام، فكتبتُ بعض الجمل غير المترابطة، وفقط حينها أيقنت أنني بحاجة ماسة للجلوس والكتابة كما يجب، بعد أن شعرت أن ثمة شيء عالق لا يتحلل إلا بترجمة وتحويل الأحاسيس إلى كلمات مكتوبة، إن أمكن.
قبل الخروج من البيت، قرأت ملاحظة نصّت على أهمية الوصول إلى العرض في موعد المحدد فقط، أي عند السابعة مساءً، وأن التواجد قبل الميعاد غير مفضّل، فحرصت على الوصول الساعة السابعة تمامًا، وفوجئت بالتّجمعات البشريّة وبسؤال من صديقة: "ليش جايين بالآخر؟"، فأجبتها: "الساعة سبعة صفر صفر شو عم بصير؟!" لأفهم بعد ذلك أن العرض قد بدأ قبل الميعاد بسبب الحضور، الأمر الذي غالبًا لا يحدث في مجتمعنا.
وصلت إلى الحدث مع أخي الذي يبلغ من العمر ستة عشر ربيعًا، ومجموعة من الأصدقاء، بعد أن كنت قد قرأت عن "أرق"، دون أن أدخل في عمق ما يطرحه الحدث، ولم يُخيّل إليّ أن أرى ما رأيت عند وصولنا.
وقفت مشدوهةً أمام الحالة، جثثٌ ملقاة على امتداد الشارع، جثث تلطخت بالدماء وإلى جانبها كُتب الاسم، زمن الوفاة وسبب الوفاة. (مثلا، الاسم: انت وابن عمك، زمن الوفاة: قبل 13 دقيقة، سبب الوفاة: 2 متر أرض). وإلى جانب بعض الجثث، آلاتٌ موسيقية، تسرد أنغامها وجعًا لا يمكن وصفه بالكلام.
الجثث جميعها ضحايا فكر مجتمعنا الغاشم الذي تسوده الذكورية والرجعية والتخلف، فيه أصبح القتل مباحًا، وصمتنا هو المشرّع الأول لذلك، بعض الضحايا قتلت بحجة ما يسمى بـ "شرف العائلة"، وبعضها بسبب عادات وتقاليد رجعية، منها ما هو باسم الدين وليس لأجله، وبعضها بسبب الطائفية.
نمشي ويدور النقاش بيني وبين أخي حول ما نرى، بعد أن كان الصّمت سيّد المكان، فيسأل مازن:
- كيف يعني هيك حاطين جثث في الشارع؟ طب في ولاد صغار عم يمرقوا؟!
- يعني حسب رأيك ممنوع يعملوا هيك إشي؟
- آه، مش ممكن الإشي يشجع ع القتل؟
- يشجع؟ أكثر من هيك؟ كم حالة مشابهة صارت في الحقيقة؟ حدا تحرك؟ كل فترة بتصير جريمة، وفي هاي البشاعة، وحياتنا بتكمل ولا كأنو إشي صار، وبالنسبة للولاد الصغار، ألعابهن اللي بيلعبوها اليوم مش أقل عنف، واللي عم بيشوفوه في الأفلام وفي الأخبار بأثرش، وهذا ممكن يأثر؟!
يقاطع حديثنا شاب يمشي في الشارع (ضمن الحدث)، ويقول: "أنا أخوي كمان قتلوه، كان مروّح من الشغل وطخّوه"، فنعود إلى صمتنا من جديد.
بالرغم من وجود آلات تصوير كثيرة لتوثيق الحدث، وهذا أمرٌ مهم، وبالرغم من تصوير الناس للحدث من خلال هواتفهم النقّالة، إلا أنني لم أقو على تصوير ما شاهدت عينيّ.
خلال الانتقال من مشهدٍ إلى مشهد، تواردت إلى خاطري مشاهد عديدة وكثيرة، تتعلّق بمقربين ومقربات مني، هم/ ن أيضًا كانوا ضحايا هذا السرطان المتفشي الذي يدعى العنف، ضحايا الصمت الذي ساد المكان أيضًا في الحدث نفسه، ضحايا التخلف والفكر الذكوري، بعضهم نجا من الموت، وبعضهم كان الموت إليهم أقرب من الحياة، فذهبوا دون إنذار ومن دون أيّ ذنب.
حولي عازف كمان؛ جثثٌ ملقاة حوله؛ أشخاص كثيرون؛ منظمون يركضون لإنجاح الحدث؛ امرأة تبكي؛ وممثلة تؤدّي دورها.
تنبعث قهقهات من مجموعة شبان يقفون إلى جانبي، وقد أتوا ليؤكدوا على الرّجعية المزروعة في مجتمعنا، فها هم لم تهزّ سكينتهم أي جثّة أو نغمة، آلة أو دمعة إنسان، بل على العكس تمامًا، كانوا يسخرون من الممثلة، وقد ألقوا بعبارات مهينة على مسامعي وبعض من كان بالقرب. احتلّني غضبٌ كبير، كيف لنا أن نبني مجتمعنا من جديد بعد أن أخذ قالبًا متحجّرًا كهذا؟
وفي هذا السياق، لا يمكن أن أكتفي بإلقاء اللوم على المجتمع دون أن أذكر أهم الأسباب لتحجّره، وهو الاحتلال، الذي يسعى منذ النكبة عام 1948 حتى يومنا هذا، إلى زيادة حالات العنف داخل مجتمعنا الفلسطيني، من خلال السياسات الإسرائيلية المجحفة، كمصادرة الأراضي التي تهدف إلى حصر أكبر عدد من الفلسطينيين على أصغر مساحة من الأرض، أو التجنيد الإجباري، الذي من خلاله يستطيع الخادم استعمال السلاح عندما يحلو له، عدا عن عدم محاكمة الجاني في حين حصول جريمة ما، وعدم اعتقاله من الشرطة (التي غالبًا ما تأتي بعد وقوع الحدث بساعات). أؤكد على أن وجود الاحتلال ليس مبررًا لما يحدث في مجتمعنا الفلسطيني، لكنه أحد أهم الأسباب، إلى جانب القيادات الدينية التي يمكنها فعل الكثير في وجه ظاهرة العنف، لكنها تفضل الخمول، وتكتفي بالاستنكار.
الجدير بالذكر، أن إنتاج وتحقيق هذا العمل كان فلسطينيًّا بحتًا، وبرأيي مسرح الشارع هذا هو نقلة نوعية في عالم المسرح الفلسطيني، وهذه خطوة ممتازة، على الفنانين الفلسطينيين أن ينتهجوها، إذ أن الشارع أحد أقوى المنابر إذا أردنا الوصول إلى جميع شرائح المجتمع.
ينتهي العرض بأمسية موسيقية، أودّع بعض الأصدقاء وأذهب برفقة أخي إلى محطة الحافلة، وقبل وصولنا بلحظات سمعنا صراخًا، التفتّ إلى الوراء فرأيت أشخاصًا يركضون باتجاه حي الألمانية، ذهبت وحدي إلى المكان، وإذ بـ "طوشة" بين شخصين، يتقاتلان بعنف حتى تمزقت ملابس أحدهما، إلى أن نجح البعض بإبعادهما.
أعود إلى المحطة، وبعد دقائق يأتي الشخص الذي تمزقت سترته، ويتضح أنه "سكران"، يتقدم إلى أخي ويقول له: "ممكن نحكي كلمتين ع جنب؟"
دق الرعب في قلبي وأجبته: "لأ، شو بدك فيه؟"
فقال: "لا ولا إشي خيتا بس بدي أحكي معه" جلس على الأرض واتكأ على أخي وتابع يسأله: "وين راحوا الشباب اللي كانوا معك؟"؛ فابتعد أخي عنه ثم أجابه: "أي شباب؟ أنا إسا إجيت."
كنت على يقين أننا لسنا مُجبرين على إجابته، ولكن خُيّل إليّ أن الشاب سيُخرج من سترته الممزقة سكينًا في أي لحظة..
وصلت الحافلة، الحافلة ذاتها التي أستقلّها يوميًّا، والتي تحرصُ على زرع تفاصيل الاحتلال من خلال ما تحمله من اختلافات، والتي تنقُلُ إليّ يوميًّا بثقةٍ عمياء ما حصدَهُ هذا الشّعب الذي "صار وتصوّر" في أرضٍ لا تشبهُهُ، وصلت وكانت هي في هذه الحالة منقذة الموقف، ومن المحتمل أن تكون قد منعت من وقوع حادث آخر.
وحتى الآن، يبقى الأرق سيّد الحالة.. والمكان.