المرّيخ لم يكن كما نظنّ: الكشف عن ماضٍ دافئ ورطب للكوكب الأحمر
في كشف علمي يعيد صياغة فهمنا لتاريخ المريخ، أعلن فريق من العلماء بقيادة وكالة الفضاء الأميركية "ناسا" عن اكتشاف معدن "سيديريت" (كربونات الحديد) في عينات صخرية جمعها المسبار "كيريوسيتي"، الذي يواصل استكشافه لفوهة "غيل" الشهيرة منذ أكثر من عقد.
وهذا المعدن النادر، الذي يتشكل فقط في بيئات مائية غنية بثاني أكسيد الكربون، يقدّم دليلًا قويًا على أن المريخ كان في فترة من تاريخه كوكبًا دافئًا ورطبًا، يمتلك غلافًا جويًا أكثر كثافة بكثير مما هو عليه الآن.
وتُعتبر فوهة "غيل" واحدة من أكثر المناطق استكشافًا على سطح المريخ، نظرًا لما تحتويه من طبقات جيولوجية معقدة يعتقد العلماء أنها تحتفظ بسجل تفصيلي للتغيرات المناخية التي مر بها الكوكب عبر مليارات السنين.
وجاء اكتشاف "السيديريت" من ثلاثة مواقع مختلفة داخل الفوهة، ليؤكد أن هذه التغيرات لم تكن مجرد تحولات سطحية عابرة، بل دليل على حقبة كاملة كانت فيها المياه سائلة متدفقة، وليست مجرد آثار متجمدة كما يُعتقد الآن.
وحتى وقت قريب، كانت غالبية النظريات حول المريخ تشير إلى أنه كوكب بارد وجاف منذ نشأته، إلا أن هذا الاكتشاف يدعم فرضية أن المريخ مرّ بفترة كانت فيها الظروف البيئية ملائمة لوجود الحياة، على الأقل في شكلها الميكروبي. فكربونات الحديد لا تتشكل إلا عندما يكون هناك تفاعل طويل الأمد بين الصخور والمياه وثاني أكسيد الكربون تحت ضغط جوي معين، ما يعني أن الغلاف الجوي للمريخ كان آنذاك أكثر سمكًا وفعالية في الحفاظ على الحرارة.
ويقول الدكتور أشوين فاسافادا، رئيس فريق العلماء في مهمة "كيريوسيتي": "هذا الاكتشاف يقدّم لنا نافذة إلى حقبة من تاريخ المريخ لم نكن نملك عنها سوى إشارات ضبابية. وجود السيديريت يعني أن الكوكب امتلك غلافًا جويًا كافيًا لدعم المياه السائلة، وهذا يفتح احتمالات واسعة حول وجود بيئات صالحة للحياة".
وهذا الاكتشاف يضيف زخمًا جديدًا لخطط إرسال بعثات مأهولة إلى المريخ في المستقبل، حيث يُمكن أن تساعد دراسة هذه المعادن في تحديد أماكن محتملة لوجود موارد مائية أو حتى بقايا حياة ميكروبية قديمة. كما يعزز من أهمية بعثات الاسترجاع الصخري، مثل تلك المخطط لها ضمن برنامج "مارس سامبل ريتيرن" (Mars Sample Return)، والتي تهدف إلى جلب عينات من تربة وصخور المريخ إلى الأرض لتحليلها بأدق التفاصيل.
وبالإضافة إلى الأبعاد العلمية، يحمل هذا الاكتشاف أهمية فلسفية أيضًا، إذ يعيد طرح الأسئلة الكبرى: هل نحن وحدنا في هذا الكون؟ وهل كانت الحياة ممكنة يومًا على كوكب شقيق؟ وإذا كان المريخ قد فقد غلافه الجوي ومياهه، فهل يمكن أن يحدث الأمر ذاته للأرض مستقبلًا؟
ويتوقع أن يواصل مسبار "كيريوسيتي" عمله في منطقة "غيل"، مع توجيه أدواته لدراسة تركيبة "السيديريت" بشكل أعمق، ومحاولة فهم الظروف الدقيقة التي أدت إلى تشكله. كما سيتم التنسيق مع المسبار الجديد "بيرسيفيرنس"، الذي يستكشف مناطق أخرى من المريخ، لتبادل البيانات واستكمال الصورة الجيولوجية الشاملة للكوكب.
وبينما يبقى حلم العثور على حياة خارج الأرض قائمًا، فإن هذا الاكتشاف يُقرّبنا خطوة نحو فك أسرار المريخ، الكوكب الذي لا يزال يُبهر البشرية، منذ أول نظرة إلى سمائه الحمراء.