كفر سِبت: عن أهل البرانيس على درب الحوارنة
كفر سِبت بكسر السين وليس بفتحها. يُقال إنّ هذا هو اللفظ الأدق لاسمها، بينما القرية في أصل اسمها تاريخيًّا كانت "كفر السِت"، وقد أُطلق عليها في زمن الصليبيين اسم "كفار ست Kefar-set" من أعمال مقاطعة طبرية. وربما يكون قد جرى تصحيف على تسميتها إلى أن غدت "كفر سَبت" حديثًا. ومما يذكره الخالدي في كتابه "كي لا ننسى" أن قرية كفر سبت ورد ذكرها عند صاحب "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم" بأنها "من قرى قيسارية، كبيرة آهلة بها جامع على الجادة". غير أن صاحب "أحسن التقاسيم" لم يأتِ على ذكرها باسمها "كفر سبت"، إنما ذكر "كفر سلام" من قرى قيسارية، وعلى الأرجح أنه كان يقصد "كفر لام" على ساحل البحر ما بين حيفا وقيسارية وليس كفر سبت في قضاء طبرية.
أشارت مراجع حديثة مختلفة، ومنهم مصطفى الدبّاغ في موسوعته نقلًا عن مصادر قديمة، إلى أن القرية وُجدت في عهد الرومان، وكانت تُسمى "كفار شَبتاي - Kefar Shubtay". وبصرف النظر عن صحة هذه التسمية، إلا أنها تؤكد على قدم تاريخ كفر سبت في موقعها، بوصفها قرية كُفرية (أثرية) ظلت تحتضن خِرَبًا وآثارًا، منها صهاريج ومعاصر صخرية، وكذلك آبار ماء بقي يشرب منها رعيان وقطعان كفر سبت حتى نكبتها عام 1948. واجتهد آخرون في أصل تسمية القرية "كفر سبت"، بردها ربما إلى اشتقاقها اللغوي العربي من "سَبتاء" وتعني الأرض المنبسطة أو المستوية التي لا شجر فيها، أو من "السّبت" الذي يعني في اللغة الجلد المدبوغ. بالتالي، ربما يكون أهلها قد امتهنوا دبغ الجلود قديمًا، فكان اسمها، يقول الباحث د. محمد عقل في مقالة منشورة له مؤخرًا في موقع عرب 48. غير أنه لم ترد أي إشارة في المصادر التاريخية أو كتب الرحلات عن قرية كفر سبت تذكر امتهان أهلها حِرفة دبغ الجلود، لا في تاريخها القديم ولا الحديث كذلك.
تظل تسمية "كفر السِت" هي التسمية العربية التاريخية الأدق للقرية برأينا، والتي ورثها الصليبيون حين استوطنوا القرية وبنوا فيها قلعتهم. والملفت أن هذه التسمية لازمت القرية على مدار تاريخها إلى ما بعد المرحلة الصليبية حتى التاريخ الحديث في العهد العثماني. فقد ورد ذكرها لدى المستكشف ورسام الخرائط الفرنسي بيير جوكاتان (1765-1827) في خريطته التي تعود إلى عام 1799 باسم "كفر السِت". وجوكاتان كان واحدًا من جملة الأثريين الذين صاحبوا حملة نابليون بونابرت العسكرية على مصر وفلسطين. وكذلك أشار لها الرحالة السويسري جون لويس بوركهارت (1784-1817) في كتابه "رحلات في سورية والبلاد المقدسة" بعد زيارته للمنطقة ما بين عامي 1810-1812، بنفس الاسم "كفر السِت"، وظلت تُعرف باسمها هذا حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
في زيارته التي تعود إلى عام 1875 يذكر المستكشف الفرنسي فيكتور غيرين (1890-1821) القرية باسمها كفر سِت، مشيرًا إلى بعض بيوتها شبه المهدمة في الوقت الذي بدأ المهاجرون المغاربة (الجزائريون) بتوطنها في حينه، ومما ذكره غيرين حجارة ضخمة وأعمدة تعود لأنقاض كنيسة وقلعة، وآثار لست معاصر زيتون قديمة في القرية، مما يجعلنا ذلك لا نتردد في السؤال: هل تسمية كفر الست التاريخية للقرية مردها لمعاصر زيتونها الست؟... ربما!
في بلاد الأمير
إلى الغرب من طبرية المدينة على مسافة تقدر بـ 11 كم تقع قرية كفر سبت المهجرة على ما يُعرف بمنطقة الشَفا المُطل على غور المدينة من غربها، يفصلهما وادي الفجّاس الذي ترفده مياه وادي دامية القادم من شمال كفر سبت إلى شرقها عبر خِربتي دامية والتل. وإلى الشمال من كفر سبت كانت تقع قرية لوبية المهجّرة، يفصلهما الطريق المؤدي من طبرية شرقًا إلى صفورية وعكا غربًا عبر مفرق مسكنة (مفرق جولاني حاليًا). وإلى الجنوب من كفر سبت تقع قرية كفركما الشركسية أو قرية "السركس" بالتعبير العامي لدى أهالي المنطقة العرب الباقين فيها إلى يومنا هذا على بعد أقل من كيلومترين، وإلى الجنوب الشرقي كانت تقع قرية شعّارا المقتلعة في عشرينيات القرن العشرين، والتي ظلت تُعتبر حتى ذلك الوقت الأخت التوأم لقرية كفر سبت لقربها منها ولكون سكانهما من ذات المنبت في الجزائر قبل الهجرة إلى فلسطين.
بينما إلى الغرب من كفر سبت كانت تقع قرية الشجرة المهجرة، يفصلهما تاريخيًا الطريق الواصل ما بين مرج ابن عامر وخان التجار أو خان عيون التجار جنوبًا ومفرق مسكنة شمالًا، والمؤدي إلى طبرية شرقًا وصفد شمالًا. كانت بيوت كفر سبت تشرئب من على ربوة تحيط بها أراضٍ سهلية متدرجة في انحدارها، مكسوة بالحصى والحجارة السمراء (الحجر البازلتي)، إذ ظل سواد التربة والحجر الدلالة الإيكولوجية التي تُعرّف بقضاء طبرية وتُمايزه عن قضاء الناصرة غربًا وصفد شمالًا.
كانت قرية كفر سبت واحدة من بين أربع قرى نزلها المهاجرون المغاربة في شَفا طبرية، هي: عولم ومعذر وشعّارا وكفر سبت، كما توطن المهاجرون المغاربة قرية سمخ جنوبي طبرية على حافة بحيرتها. وقد أُطلق على تلك القرى منذ أن نزلها مغاربة الجزائر في مطلع سبعينيات القرن التاسع عشر تسمية "بلاد الأمير" نسبة إلى الأمير عبد القادر الجزائري، ومن ثم ابنه علي بن عبد القادر، وقد ارتبطت بالأول موجة الهجرة المغاربية من الجزائر إلى بر الشام وفلسطين تحديدًا، التي جاءت على دفعات جماعية أربع أساسية امتدت ما بين خمسينيات القرن التاسع عشر وحتى مطلع القرن العشرين.
حطّت عصا رحال الأمير عبد القادر نفسه في دمشق منذ خمسينيات القرن التاسع عشر على أثر إجهاض الاستعمار الفرنسي لثورته في الجزائر سنة 1847. كان جزائريو قرية كفر سبت من مهاجري الدفعة الأولى بحسب ما ذكره سهيل الخالدي في كتابه "الإشعاع المغربي في المشرق: دور الجالية الجزائرية في بلاد الشام"، الذين التحقوا بالأمير عبد القادر، منهم أبناء سيدي عمر وسيدي عيسى أكبر عائلتين مكونتين لقرية كفر سبت، وكان أبناء سيدي عمر "العميرات" من أصل أمازيغي تعرّبوا، وجاءوا من منطقة قبائل عرش وادي البردي والبويرة في الجزائر. بينما أولاد سيدي عيسى جاءوا من منطقة حمزة في الجزائر بحسب ما يروي عبد الله صلاح المغربي في كتابه "من جرجرة إلى الكرمل...".
ظلت القرى الأربع تُسمى "بلاد الأمير" حتى بعد تهجيرها عام 1948 في ذاكرة أهلها بحسب ما يروي الحاج صالح علي ابن قرية عولم المهجرة في مقابلة معه عن قريته على موقع فلسطين في الذاكرة. وظلت تُنسب التسمية لسلالة أمراء آل الجزائري من أبناء عبد القادر، علي بن عبد القادر، ثم سعيد بن علي، وكانت في قرية عولم الواقعة جنوب شرقي كفر سبت قبل تهجيرها، دارًا واسعة عُرفت بدار الأمير أو قصر الأمير، يُقال إن بانيها هو الأمير علي بن عبد القادر الجزائري منذ أواخر القرن التاسع عشر.
ما بين البوبرية وخان التكية
البوبرية "هاي عمارة كبيرة وقلعة قديمة عالية كانوا الأتراك عاملينها حبس..." تقول الحاجة آمنة عيسى سعدي من كفر سبت في شهادتها الموثقة والمنشورة في كتيب عن قريتها أعدّته جمعية ذاكرات "زوخروت" عام 2011. والبوبرية كلمة تركية تعني "القلعة" تعرّبت وتحولت إلى تسمية عامية للقلاع التاريخية التي يعود بناؤها في البلاد إلى العصر المملوكي على جانب الطرقات، والتي كانت تربط بين المدن عبر الأرياف، وقد استُخدمت "البوبريات" لأغراض مختلفة منها: محطات للبريد، والخفر الحدودي، وسجون للاعتقال كما أقام فيها أحيانًا بعض الحكّام المحليين الموفدين والموكلين من قبل الدولة بهمة ضبط الأمن في منطقة ما.
كانت بوبرية كفر سبت واحدة منها، تقع في شمالي القرية، ما بينها وبين قرية لوبية على الطريق الذي كان يربط طبرية شرقًا بمدينة عكا والساحل عمومًا غربًا، والذي عُرف تاريخيًا باسم "درب الحوارنة"، نسبة إلى تُجّار قمح حوران، الذين كانوا يحملون أغلالهم من سهل حوران في جنوب سورية باتجاه طبرية غربًا، ومن هذه الأخيرة عبر خان المنية صعودًا في الطريق المؤدي إلى مفرق مسكنة "مفرق جولاني"، حيث كانت تتفرع درب الحوارنة لثلاثة اتجاهات: إلى الغرب مباشرة باتجاه صفورية ومنها إلى عكا وتُعرف بـ "طريق البحر"، ومن مسكنة شمالًا باتجاه عيلبون وسهل البطوف ثم غربًا نحو ميناء عكا، والأخير من عند مفرق مسكنة جنوبًا باتجاه خان عيون التجار أو خان التكية، ومن هناك من عند جبل الطور (طابور) عبر مرج ابن عامر إلى ساحل فلسطين على المتوسط غربًا، وجنوبًا باتجاه غزة وصحراء التيه "سيناء" حتى مصر.
إذا ما عدنا في السؤال عن الدوافع التي دفعت السلطات العثمانية إلى توطين المهاجرين الجزائريين – المغاربة في كفر سبت ومنطقة شَفا طبرية عمومًا منذ عام 1870، سنجد بأن ذلك متصل بأهمية موقع القرية وقرى المغاربة عمومًا على تلك الطريق "درب الحوارنة". ففي رواية محلية ما تزال متواترة على ألسن أهالي المنطقة العرب، أشار إليها شكري عرّاف في كتابه "بدو مرج ابن عامر والجليليين بين الماضي والحاضر"، تقول بأن الدولة العثمانية دفعت بالمهاجرين الشركس والجزائريين – المغاربة من دمشق لتوطينهم في شَفا طبرية بغرض لجم قبائل بدو مرج ابن عامر مثل: عرب الصقر، وعرب الصبيح التي امتهنت في كثير من الأحيان قطع الطريق وفرض الخوة على قوافل التّجار التي كانت تمر من خان التجّار عبر درب الحوارنة، وللحد أيضًا من القلاقل التي كانت تثيرها هذه القبائل مع فلاحي قرى لوبية وحطين بالسطو على غلالهم، خصوصًا عشائر الصبيح التي كانت تُقيم إلى الغرب الجنوبي من كفر سبت في غابة الصبيح الممتدة ما بين جبل الطور (طابور) وقرية الشجرة. أي في سياسة تُشي باستخدام المهاجرين الجزائريين كعوازل بشرية تحول ما بين قبائل بدو المرج وطبرية المدينة من جهة، وقرى فلاحي ريفها مثل لوبية وحطين من جهة أخرى.
بينما لسهيل الخالدي صاحب كتاب "الإشعاع المغربي في المشرق..." رأي آخر في ذلك، مفاده "أن للأمير عبد القادر الجزائري نفسه كان تصور في توطين مهاجري بلاده في أراضي أقطَعته إياها السلطات العثمانية في منطقتي صفد وطبرية، بالتالي نظر الأمير وفق رؤية استراتيجية – عسكرية في وجوب توطين العائلات الجزائرية على الطرق التجارية والممرات المائية بالقرب من بحيرتي طبرية والحولة في قضاء صفد. لا بل وكان للأمير بحسب الخالدي وعي مبكر بالمشروع الاستيطاني – الصهيوني في فلسطين ما قبل تأسيس الصهيونية رسميًا، وذلك بحكم تجربته النضالية ضد الاستعمار الفرنسي في الجزائر، خصوصًا بعد أحداث قرية تليل الواقعة جنوبي بحيرة الحولة في قضاء صفد في أواسط ستينيات القرن التاسع عشر، عندما واجه فيها أهالي القرية وهم جزائريون توطنوا القرية في مطلع ستينيات القرن التاسع عشر مشروع إقامة مستوطنة يهودية، تمكن أهالي تليل فيها عبر مواجهة دامية من منع إقامة المستوطنة بعد تدخل الأمير عبد القادر الجزائري شخصيًا في الأمر، وقد أشار سهيل الخالدي إلى أحداث تلك الواقعة، وكذلك المؤرخ الإسرائيلي أريه ل. أفنيري صاحب كتاب "دعوى نزع الملكية: الاستيطان اليهودي والعرب 1878-1948". مُنح الجزائريون أراضي شفا طبرية ليفلحوها تحت إمرة أميرهم، وأُعفوا من دفع الضرائب لمدة ثماني سنوات، ومن الخدمة العسكرية لمدة عشرين عامًا لأن "الي عملتوه مع فرنسا كافٍ" قيل لهم من قبل السلطات العثمانية، يقول الحاج محمود صالح عيسى في شهادته عن قريته.
لم يُقم الجزائريون – المغاربة قرية كفر سبت، بل أحيوها بنزولهم فيها، كما لم يمنحوا القرية ومحيطها البيئي أسماءً جديدة، إنما ظلت القرية بأراضيها وخرائبها وعيون مائها ومسالكها على أسمائها المحلية – التاريخية، حتى إن بعضهم أقام في بيوتٍ كانت قائمة قبل مجيئهم. ومع أن المصادر التاريخية لا تسعفنا في تعريفنا بهوية سكان كفر سبت التاريخيين قبل توطين مغاربة الجزائر فيها، إلا أنها كانت قرية مأهولة تاريخيًا على الأقل منذ بداية العهد العثماني في مطلع القرن السادس عشر وحتى أواسط القرن التاسع عشر. إذ أشارت سجلات النفوس والضرائب العثمانية إلى قرية كفر سبت وسكانها الذين بلغ تعدادهم في عام 1596 نحو 160 نفرا، يؤدون ضرائب على غلالهم وثروتهم الحيوانية. وبحسب ورقة غير منشورة أعدها مؤخرا المؤرخ شكري عرّاف عن قرية كفر سبت يُقدّر فيها بأن القرية قبل نزول المهاجرين الجزائريين فيها، كانت شبه خالية من سكانها مدة تتراوح ما بين 15 و20 عامًا فقط.
وحتى بعد توطن مهاجري الجزائر القرية منذ مطلع سبعينيات القرن التاسع عشر، لم تكن كفر سبت قرية جزائرية خالصة، إنما كانت تقيم فيها وفي خرائبها المحيطة بها، عشائر عربية – محلية، مثل عرب الدلايكة وبدو أم العلق وعرب المشارقة، وهؤلاء الأخيرون أُطلق عليهم المشارقة لتمييزهم عن العرب المغاربة سكان كفر سبت الجزائريين. ففي مقابلة مع الحاج محمد نهار المشرقي على موقع فلسطين في الذاكرة، يعرّف المشرقي نفسه على أنه من سكان قرية كفر سبت ومن مواليدها عام 1910، قبل تهجير عشيرته من محيط القرية على أثر تسريب بعض أراضيها للصهاينة في عشرينيات القرن العشرين، ودفع عشيرته إلى خربة أم العلق شرقي كفر سبت، ومن ثم إلى سارونة قبل أن يحط أبناء العشيرة في قرية معذر مع مطلع أربعينيات القرن الماضي.
وبحسب إحصاء للنفوس أورده الكاتب الفلسطيني الراحل جميل عرفات في كتابه "من قرانا المهجّرة في الجليل"، اعتمد فيه على الإحصاء السكاني الذي أعدته سلطات الانتداب البريطاني في فلسطين عام 1922 عن كفر سبت، أشار فيه إلى تعداد سكان القرية الذي بلغ في حينه 247 نسمة، وفي سنة 1931 بلغوا 340 نسمة بما فيهم عرب المشارقة وسكان أم العلق الذين ظلوا محسوبين على قرية كفر سبت، يقول عرفات. كما كان عرب المشارقة يوارون موتاهم في ثرى كفر سبت وفي نفس مقبرتها الواقعة شرقي القرية، بحسب ما يروي الحاج محمود صالح عبد القادر عيسى في شهادته عن كفر سبت الموثقة في كتيب "ذاكرات" عن القرية.
ذاكرة البُرنس
إن ذاكرة كفر سبت الحديثة، هي ذاكرة مركبة لقرية مشرقية تمغربت، وسكان مغاربة تمشرقوا في علاقة جدلت ما بين إرث المكان وخصائص السكان امتدت على مدار ثمانين عامًا ما بين 1870 وحتى النكبة عام 1948. وذلك إلى حد بتنا لا نعرف فيه لاجئًا أو مهجّرًا نازحًا من كفر سبت إلى قرى طرعان وكفركنا والرينة الباقية في الداخل الفلسطيني إلى يومنا إلا وكان من أصل جزائري. ومع ذلك، ما يزال تاريخ القرية يحتاج إلى بحث، وذاكرتها تحتاج إلى نبش، خصوصًا فيما يتصل بالشكل الذي تفاعل وفعّل فيهما المهاجرون المتوطنون علاقتهم بالمكان ومحيطه السكاني – المحلي.
"أول ما جينا كنّا لابسين برانيس، فكرونا الناس فقرا واستهبلونا، صاروا يهجموا ويسرقوا منّا، فهجموا المغاربة على هذول الزعران وعلموهم درس وبطلوا يقربوا منّا، بس الناس بشكل عام كانوا يحترمونا..." يقول الحاج محمود صالح عبد القادر عيسى في شهادته السابقة عن صورة أجداده الوافدين إلى كفر سبت بعيون السكان المحليين في المنطقة وقتها، حيث أثار الزي التقليدي الجزائري "البرنس" الذي كان يرتديه المهاجرون فضول الأهالي المحليين.
والبرنس أو البرنوس هو عبارة عن "سترة طويلة لونها أبيض عادةً، تغطي الجسم من الأكتاف للقدمين مربوطة بقلنسوة، بدون أكمام"، زي رجالي أمازيغي في أصل لبسه كان يتميز به سكان شمال أفريقيا عمومًا والجزائر خصوصًا، ومنهم الأمازيغ على وجه التحديد، فقيل في الذاكرة الجزائرية: من يلبس البرنوس هو "راجل ترَّاس" (رجل جدع)، بحسب مقالة عن لبس البرنوس منشورة على موقع الجزيرة نت
تأقلم مهاجرو الجزائر عند نزولهم كفر سبت مع البيئة المحلية في فلسطين واكتسوا بمسوحها الفلاحية، خصوصًا وأنهم فلاحون في الأصل، وبالتالي بدأ المعجم الفلاحي المحلي يطغى مع الوقت على قاموس منبتهم المغاربي، حتى تسميتهم المغاربية لعوائلهم "سيدي عمر وسيدي عيسى" بدأوا بتغييرها بـ "العميرات" و"العيسوسة" أسوة باللكنة المحلية في تسمية العشائر والحمائل، ومع ذلك ظلّت الحاجة آمنة عيسى تصرُ إلى ما بعد النكبة على أنها من "دار سيدي عيسى"، بحسب ما ورد في نفس شهادتها الموثقة في كتيب جمعية "ذاكرات" عن القرية. وطبعا دون أن يمنع هذا التطبيع مع المحلي من حفاظ أهل القرية على بعض خصائص منابتهم المغاربية.
كانت كفر سبت تُقسَّم منذ مطلع القرن الماضي إلى حارتين، الشرقية والغربية، على عائلتين: سيدي عمر "العميرات" في الشرقية، وسيدي عيسى "العيسوية" في الغربية. وظلت القرية صغيرة نسبيًا في تعداد نفوسها الذين قدّر حتى عام النكبة بنحو 500 نسمة بما فيهم عرب المشارقة، وبيوتها التي لم يتجاوز عددها الستين بيتًا، كلها مبنية من الحجر البازلتي "الأسود". بينما جامع القرية كان أكثر ما ظلَّ يعتز به أهالي كفر سبت، وأول ما تم هدمه بعد تهجير أهالي القرية في النكبة، كان السراكسة (أهل كفر كما الشركسية) بتعبير أهالي القرية هم بنوه فيها بحسب شهادات مُسنّي القرية على نفس طراز جامع كفر كما الحالي، "فخم مبني بالحجر الأسود ومشكّل بحجر أبيض"، بحسب ما يروي السيد مناد عيسى السعدي في شهادته الموثقة أيضًا في كتيب جمعية "ذاكرات" عن القرية.
كما توثقت علاقة أهالي كفر سبت بكفركما وأهلها الشراكسة بحكم الجوار، خصوصًا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار بأن أولاد كفر سبت منذ مطلع القرن الماضي التحقوا بمدرسة كفركما للتعلم فيها. لم يكن في كفر سبت مدرسة نظامية إنما كُتّاب تقليدي تعلم فيه أبناء القرية، أُغلق لاحقًا ليلتحق أولاد القرية بمدرسة السركس، بتعبير السيد مناد عيسى السعدي في شهادته. أما عن مقبرة كفر سبت، وهي المقبرة التاريخية للقرية منذ ما قبل توطن مغاربة الجزائر فيها، فكانت تقع في شرقي القرية. وفيما يتعلق بالمقامات الدينية في كفر سبت، فبحسب ما يذكره شكري عرّاف كان في القرية مقامين، مقام الشيخ محمد، كان يقع في غرفة دائرية الشكل شمالي القرية، ومقام الشيخ ناصر يقع في مقبرة القرية نفسها. لم يُشر إليهما المغاربة من أهالي القرية في شهاداتهم ورواياتهم الشفوية الموثقة، مما يدل على أن هذين المقامين مُقامان تاريخيًا في كفر سبت ما قبل توطنها من قِبل مغاربة الجزائر.
في النكبة مبكرًا
يُؤرَّخ للنكبة بوصفها حدثًا مؤسِّسًا في عام 1948، غير أن النكبة في حقيقتها بدأت أبكر، منذ مطلع القرن العشرين، مع ظاهرة تسريب الأراضي للوكالة الصهيونية، وتحديدًا في مرج ابن عامر، وقد طاول هذا التسريب قرية كفر سبت وقرى المغاربة الجزائريين في منطقة شَفا طبرية، بحكم أن هذه القرى في موقعها كانت تُعتبر من قرى مرج ابن عامر في ناحيته الشرقية. بدأ تسريب الأرض في شَفا طبرية مبكرًا منذ أواخر القرن التاسع عشر، مع تسريب أراضي قرية يَمَّة العربية للصهاينة الذين أقاموا عليها مستعمرة "يفنئيل" إلى الجنوب الشرقي من كفر سبت.
كانت قرية شعّارا المغاربية، التي قيل عنها الأخت التوأم لكفر سبت، قد جرى بيعها وأراضيها معًا للوكالة الصهيونية في سنة 1926، وفي العام التالي فُرّغت شعّارا من أهلها الجزائريين بالقوة، مما دفعهم، بحسب ما يروي سهيل الخالدي في كتابه السابق ذكره، إلى أن يتشبثوا بأراضيهم في المنطقة، والإقامة في الكهوف والمغاور ورفض مغادرة شَفا طبرية، إلى أن تمت الصفقة في ثلاثينيات القرن العشرين بقبول أهالي القرية مرغمين بتبديل أراضيهم في شعّارا بموقع آخر في قرية عابدين في حوران، بترتيب ما بين الوكالة الصهيونية وأحد أحفاد الأمير عبد القادر الجزائري الذي كان يملك أراضي القرية. ومنذ أواخر عشرينيات القرن العشرين لم تعد تظهر شعّارا في خرائط تلك المنطقة البريطانية والصهيونية كذلك.
طال التسريب أراضي قرية كفر سبت أيضًا، وبشكلٍ تدريجي منذ العشرينيات، حيث جرى تهجير عرب المشارقة المقيمين في محيط القرية بعد بيع أرضهم لليهود. كانت مساحة أراضي كفر سبت، بحسب دراسة للمؤرخ مصطفى العباسي عن القرى الجزائرية في الجليل بالعبرية تُرجمت للعربية، تُقدّر بنحو 9818 دونمًا، سُرّب منها لليهود حتى أربعينيات القرن الماضي حوالي 5110 دونمات. غير أن سكان القرية، وتحديدًا المغاربة الجزائريين، ظلّوا في قريتهم وعلى ما تبقى من أراضيهم حتى طُردوا في تموز/يوليو 1948.
طرود النحل يوم طرد أهله
جفّت كفر سبت من أهلها مع الموعد السنوي لجفاف عين مائهم "العين السفلى" التي اعتادوا على جفافها في صيف كل عام، وكانت العين السفلى الأقرب، والمشرب والمروى في ريق كل واحد من أهالي كفر سبت. وكان ذلك يدفعهم إلى السير مشيًا على الأقدام نحو مسافة لا تقل عن نصف ساعة شرقًا، حيث العين البعيدة، وهكذا كان اسمها "العين البعيدة"، التي لم تكن تجف شتاءً ولا صيفًا. ومثل العين البعيدة، أُبعد أهل كفر سبت عن قريتهم ولم تجفّ عيونهم يومًا.
بدأ تهجير السباتنة (كنية أهل كفر سبت) منذ نيسان/أبريل عام 1948، بحسب المصادر العبرية وبعض الروايات الشفوية لأهالي القرية. وظلّ جزء لا بأس به منهم في القرية حتى مطلع تموز/يوليو عام 1948، حيث داهم الصهاينة القرية استعدادًا لمعركة لوبية. وكان أول من قتله الصهاينة من أهالي كفر سبت وقتها عبد القادر، رجلٌ مُسنّ، رفع آخر أذان للصلاة رُفع من جامع القرية عند الفجر، واستُشهد صباحًا قبل أن يحين موعد رفع أذان الظهر، في بيته وفي فراشه. وكان جامع كفر سبت أول ما هدمه الصهاينة بعد طرد أهالي القرية منها... "هجموا اليهود وكسروا جرون النحل في كفر سبت"، على ما ظلّ يتذكر الحاج محمود صالح عيسى يومها، كان نحل الجرون يسير طرودًا في الجو، بينما أهله هاموا على وجوههم بَرًّا.
أُقيمت بعد عام 1948 على الأراضي المحيطة بقرية كفر سبت ثلاث مستعمرات: إيلانية، سِدي إيلان، وشارونة...