تسارعت الأحداث بعد عودة عبد القادر من دمشق بشكل صعّب على الباحثين استرجاع وحصر ما جرى من تفاصيل منذ عودته وحتى لحظة استشهاده.

حاول المناضل بهجت أبو غربية في مذكراته " في خضم النضال العربي الفلسطيني "استرجاع ما حصل مع عبد القادر منذ عودته، والواضح من حديثه بأن عبد القادر عاد مباشرة إلى منطقة القسطل، ولم يلتق به في القدس بعد عودته. حيث أن عبد القادر ذهب للقاء إبراهيم أبو ديّة، قائد القطاع الجنوبي الغربي لمنطقة القدس.

وقد نقل ما حدثه به إبراهيم أبو ديّة عما حصل في الساعات القليلة التي سبقت استشهاد عبد القادر حيث قال: "وضعنا خطة لاسترداد القسطل، ونظمنا صفوفنا للهجوم على ثلاثة محاور، فبعد القصف بالمورتر، تتقدم الميمنة من الجنوب الشرقي، ويقودها حافظ بركات، والميسرة تتقدم من الجنوب الغربي وقوامها مجموعة المناضل هارون بن جازية والقلب يقوده إبراهيم أبو دية.

أما القائد عبد الحسيني فاتخذ من محاجر الياشار مقر قيادة على بعد نحو كيلومتر ونصف من قمة القسطل، ولم يبق لديه إلا بعض الإداريين وكبار السن، حتى أن حارسه الخاص عوض محمود الترمسعاوي ألحقه بإبراهيم أبو دية لأنه كان مسلحاً برشاش برن جيد".

إلى هنا رواية إبراهيم أبو ديّة كما نقلها بهجت أبو غربية عن المرحلة الأولى من مراحل الهجوم لاسترداد القسطل. وقد يكون في بعض التفاصيل الواردة ما يميط اللثام عمّا جرى مع القائد عبد القادر الحسيني بعد ذلك.

ذكر أبو دية بأنه لم يبق لدى القائد إلا بعض الإداريين وكبار السن وهو لم يعرف بالطبع بأنه كان بينهم أيضاً مستعرب يهودي يدعى يسرائيل نتّاح ومتعاون عربي (من المقربين جداً للقائد عبد القادر) ويدعى محمود، وقد كانا قد كلفا من قبل جهاز الاستخبارات التابع لـ"الهاجاناه" بمرافقة القائد عبد القادر الحسيني وتزويد القيادة اليهودية أنباء تحركاته وتحركات قواته.

أقام محمود (وأصله من القدس ) فترة من الزمن في يافا، وهناك تعرف على إلياهو جولمب، القائد البارز في الهاجاناه، الذي قام بتجنيده لمصلحة الشاي (جهاز الاستخبارات التابع للهاجاناه ) مستغلاً صلاته القريبة بالقائد عبد القادر الحسيني.

وعن علاقة يسرائيل نتاح مع محمود وطبيعة المهمة التي كلفا بها جاء في كتاب صدر تحت عنوان "وطني إسرائيلي" وفيه توثيق لقصة يسرائيل نتاح واستعرابه داخل قوات الجهاد المقدس الفلسطينية: "توطدت العلاقة بين يسرائيل ومحمود بعد أن قاما بتثبيت "ميثاق أخوة" وهو ميثاق دم على الطريقة العربية. حصل ذلك على شاطئ بحر يافا وعلى خلفية الغروب. قدم يسرائيل إبهامه لمحمود الذي قام بجرحه وكذلك فعل محمود. ثم قاما بتقريب أصبعيهما النازفين بالدم لتخلط دماؤهما ويقسما أن يكونا مخلصين، الواحد للآخر، وأن يكون كل واحد منهما على استعداد ليبذل حياته في سبيل صاحبه. ومنذ ذلك التاريخ لم ينفصل الواحد منهما عن الآخر، وقاما سوية بالتخطيط لعملهما المشترك في خدمة الهاجاناه.

تلخصت مهمتهما بالانضمام إلى المجموعات الفلسطينية المقاتلة المنتشرة في أنحاء البلاد المختلفة، بغرض الوقوف على خططها وشكل تسليحها. انتحل يسرائيل شخصية مصور صحافة عربي، أما محمود فعرض نفسه على أنه مرافق مساعد للصحافي.

غيّر يسرائيل اسمه إلى إبراهيم السيّد، وحمل بطاقة صحافي مزورة تابعة لصحيفة فلسطين. وبالمقابل تعلم عادات العرب وصلواتهم ودأب على أداء الركعات خمس مرات في اليوم. بعدها سافر الاثنان للقدس وهناك تلقيا الأوامر بالانضمام للمجموعات المسلحة العربية. قام إبراهيم (يسرائيل ) ومحمود بشراء كاميرا صغيرة من طراز كوداك وأفلام مناسبة ثم اشتريا، بغرض إكمال عملية التخفي والانتحال، بعض أمشاط الرصاص التي تعلق على الصدر وكوفيات ومسدسات. ثم انتقلا إلى حي الشيخ جراح إلى بيت ابن عم محمود وهناك التقيا بعبد القادر الحسيني وكان ذلك في نهاية كانون الأول 1947 ".

وعما جرى في معركة القسطل تحديداً يقول يسرائيل بأنه وصل هو ومحمود إلى مقر القيادة المؤقت لعبد القادر الحسيني في المنطقة، وذلك في ليلة السابع من نيسان، وهناك التقيا عبد القادر. وأردف قائلاً بأنه شاهد عن كثب عبد القادر الحسيني وقد انكب على خارطة رملية يشرح لرجاله تفاصيل خطة الهجوم المرتقب لاستعادة القسطل. قام يسرائيل بتصوير عبد القادر وهو يشرح خطة الهجوم وقد كانت آخر صورة تلتقط لعبد القادر وهو على قيد الحياة.

لم تحسم الروايات العربية ما حصل بعد انطلاق الهجوم لاسترداد القسطل في تمام الساعة الحادية عشرة ليلاً. جميع المصادر تجمع على توقف القوة الأولى بقيادة إبراهيم أبو دية على أعتاب قلعة القسطل وبيت المختار، وذلك بعد تحصن معظم المدافعين اليهود هناك، بعد إصابة قائد هذه الوحدة بجراح عرقلت إمكانية استمراره بقيادة الهجوم. هذا فضلاً عن استشهاد بعض رجاله في طليعة الهجوم. كما وتجمع الروايات على توقف الجناح الأيمن للهجوم وتقدم الجناح الأيسر الذي استطاع دخول القرية من الغرب واجتياح معظم المواقع التي أقامها اليهود في هذه الجهة.

بعد ورود كل هذه الأخبار إلى عبد القادر وهو في المحاجر بعث يطلب النجدة من حاميات منطقة القدس المختلفة، ولما وقع إلى أسماعه خبر إصابة أبو دية، بعث مبعوثاً من لدنه يستطلع الأمر، وعندما تأخر ذلك المبعوث قرر دخول المنطقة بنفسه دون التنسيق مع رجاله الذين استمروا بمهاجمة القلعة وتمكنوا من تحصيناتها في فجر يوم الثامن من نيسان.

عن ذلك يقول نبيل خالد الآغا كاتب السيرة الذاتية لعبد القادر: "أصيب إبراهيم أبو دية بجرح عميق ومعه ستة عشر من رجاله، واستشهد آخرون وتضعضع قلب الهجوم، فغضب عبد القادر أشد الغضب وأقساه، وخشي الهزيمة، فاندفع مزمجراً مكبراً: الله أكبر، إلى الأمام يا أبطال القسطل.. وهاجم تلاً عالياً حصيناً وقاد بنفسه جنوده مخالفاً بذلك قوانين الحرب التي تحتم بقاء القادة الكبار في مؤخرة الجنود حفاظاً على سلامتهم، وانتصر البطل وحقق معجزة حربية".

لا تفي أقوال الآغا هذه بغاية كشف النقاب عن حقيقة ما حدث، كما أن حديثه عن قيادة عبد القادر لجموع جنوده نحو القلعة تتنافى مع أقوال أوردها بنفسه عن بقاء عبد القادر في مركز القيادة مع أربعة رجال فقط: مساعده علي الموسوس وثلاثة من الشباب المقدسين ليس إلا. والسؤال يبقى من أين أتى الآغا بجموع الجنود التي تبعت القائد بهجومه الرديف لقواته التي كانت آنذاك في عز أتون المعركة؟

وإذا افترضنا أن اثنين من الأربعة الذين بقوا مع القادر كانا يسرائيل ومحمود (وذلك حسب أقوال أفضى إلي بها يسرائيل نتاح في مقابلة كنت قد أجريتها معه في السابع عشر من تموز عام 2008 ) وإذا قارنا ذلك بغياب الاثنين الآخرين بمهمات ألقاها عليهم عبد القادر ( الأول بعثه عبد القادر لطلب النجدات من القدس، والثاني، وهو علي الموسوس، بعثه عبد القادر ليستطلع حقيقة إصابة أبو دية في مقدمة الجبهة) نخلص إلى القول بأن أكثر التفسيرات رجوحاً لما حصل هو أن يكون المستعرب يسرائيل ورفيقه مسؤولين محتملين عن اغتيال القائد في تلك المرحلة الدقيقة من المعركة بعد أن استغلا غياب رجاله من حوله، وانشغالهم في عملية استرجاع القسطل.

لم يصادق يسرائيل في المقابلة معه على هذا الاحتمال، ولكنه لم ينفه أيضا. واكتفى بالقول بأنه كان ورفيقه محمود أول من وصل إلى جثة عبد القادر بعد استشهاده، فأخذا من أغراضه مصحفاً صغيراً كان يضعه في جيب سترته، وخنجراً حفر عليه اسمه. ومن الجدير ذكره أن هذه الأغراض المسلوبة تعرض في المتحف التابع لقوات البلماح والواقع في مدينة تل أبيب.

لقد حقق عبد القادر رغبته باسترجاع القسطل، لكن لم يكتب له رؤية ذلك عن كثب. وقد كان لخبر استشهاده الوقع الأليم على معنويات مقاتليه الذين ترك معظمهم مواقعهم صبيحة اليوم التالي، ليشاركوا بتشييع جثمان قائدهم ودفنه في رحاب الحرم القدسي. الشيء الذي فتح المجال أمام القوات اليهودية بشن هجوم معاكس واحتلال قرية القسطل ونسف منازلها.