النسخة الأصلية كتبت في تاريخ 30 آب، 2007


وثيقتان رسميتان تثبتان أني ولدت في مدينة يافا في فلسطين، وذلك في الثالث عشر من كانون الثاني/ يناير 1932، وأن اسمي "شفيق"، واسم والدي "إبراهيم"، واسم والدتي "تحفة"، وشهرة العائلة "الحوت".

والوثيقتان صادرتان عن حكومة الانتداب البريطاني لفلسطين: الأولى عن دائرة الصحة، وهي شهادة الميلاد، أو ما كان يسمى "الكوشان"؛ الثانية عن دائرة الهجرة والسفر، وهي جواز السفر الفلسطيني الذي كان يحمل الرقم 212023.

وليس في حيازتي الآن أي من الوثيقتين؛ فقد خلفت "كوشاني" في درج مكتبي في منزلنا في يافا عندما غادرنا المدينة فجأة تحت وطأة الإرهاب الصهيوني سنة 1948. أمّا جواز سفري فقد صادره الضابط الإسرائيلي من درج مكتبي في منزلنا في بيروت عندما اقتحم الصهاينة القطاع الغربي من العاصمة اللبنانية في سنة 1982.

(1)

كانت والدتي، التي لا أدري لماذا كان يثير اسمها دهشة من يسمعه أول مرة، والتي توفيت في سنة 1992، تؤكد هذه المعلومات وتستحلي استعادة ما أحاط بها من تفصيلات كلما كانت تسنح لنا فرصة اللقاء واستحضار ذكريات أيام زمان.

مما قالته إن ليلة مولدي كانت ماطرة، وإن المخاض جاءها وهي تجلس حول الطبلية مع والدي ومن سبقني من إخوتي لتناول العشاء. ولمّا سألتها إن كانت تذكر ماذا كان طبق العشاء تلك الليلة، ردت والابتسامة تملأ وجهها الجميل: "ملوخية"، وعندئذ فقط اكتشفت لماذا تنتابني نوبة من العطس كلما أكلت هذا الطبق اللذيذ، أو هكذا أظن على الأقل.

تضيف الوالدة أن ولادتي كانت ميسرة، لا لأني كنت سابع بطن لها، وإنما لأني كنت أول من ولدته وهي مستلقية على فراشها وأمامها لأول مرة قابلة قانونية تحمل شهادة رسمية وترخيصاً لممارسة المهنة. إن طيف تلك السيدة، وكان اسمها "زينب قباني" ما زال يراود خيالي لما كان يثيره حضورها من فضولي، إذ كانت كثيرة التردد على منزلنا وأشرفت على ولادة من لحق بي من بطون. كانت أول سافرة عرفتها في حياتي، وبدلاً من الملاءة السوداء والحجاب، كانت تلبس معطفاً طويلاً وتلف شعرها داخل شال من الحرير الأبيض. كانت تدخن وتتشاوف على من حولها بـ "بز" السيجارة الطويل. في تلك الأيام لم يكن الصراع مقصوراً على الحجاب والسفور بين النساء، وإنما الرجال كذلك كانوا قد بدأوا خوض المعركة بين القمباز والبنطلون، أو بين العربي والفرنجي. والدي وحده صمد حتى آخر عمره في نيسان/ أبريل 1971، من القرن الماضي، ولم يخذل القمباز وملحقاته بينما لحق جميع أشقائه، وهم أصغر منه، بالموضة المستجدة.

سألت والدتي عن سر المشهد الأول الذي يتردد في خاطري كلما تذكرت طفولتي، وهو عبارة عن شجرة "تمر حنة" وارفة الغصون بالقرب من بئر فوقها قبة لها فتحة، وفوق الفتحة سطل يتدلى من طرف حبل يلتف على خشبة، فقالت إن ذلك جزء من "قاع" الدار التي ولدت فيها، والتي تقع في زاروب متفرع من يمين "شارع العالم"، ثاني أهم شارع في "حي المنشية"، على بعد أمتار معدودة من دكان الوالد، الذي كان يمارس التجارة ودور "المختار" نيابة عن والده الذي كان يُعرف بـالمختار "البيروتي"، وذلك لأٍسباب أرى ذكرها الآن استكمالاً لتوضيح هويتي.

في أوائل التسعينيات من القرن التاسع عشر، هاجر جدي "سليم يوسف الحوت" من بيروت إلى فلسطين هرباً من الخدمة العسكرية، وربما سعياً وراء رزق أوفر. واستقر في مدينة يافا حيث كانت سبقته إليها شقيقته الكبرى بحكم زواجها من أحد تجار المدينة المعروفين من آل صابر. ويبدو أن المقام طاب له في المدينة التي كانت تدعى "بلد الغريب" لكثرة من فيها من الوافدين من مختلف الأقطار العربية، وحتى من مدن فلسطين بالذات. ولو أضفت ياء النسبة إلى أي قطر أو مدينة لجعلت منه اسم شهرة لعائلة يافية: المصري؛ اليماني؛ السوري؛ النابلسي؛ الخليلي؛ الغزاوي؛ القدسي؛ البيروتي. فلمّا تطورت أوضاع جدي، وأصبح واحداً من كبار تجار البرتقال في المدينة و"مختاراً" للحي الذي ساهم في إعمار معظم الجديد من بيوته ومرافقه، اكتسب شهرة وشعبية لأنه كان "يختم" المعاملات مجاناً من غير رسوم، بل إنه ترك "الختم" في عهدة والدي ليقوم بالمهمة نيابة عنه كما قلت قبل قليل. وبسبب لهجته البيروتية التي واكبته طوال عمره حتى وفاته، اشتهر بكنية انتسابه إلى بيروت أكثر من انتسابه إلى أسرته.

عندما وافته المنية في أواخر سنة 1948، في بلدة سوق الغرب التي اختارها مصيفاً حتى يعود إلى يافا، جمع أبناءه من حوله وحدثهم عما ينوي القيام به من قلع وزرع في بيارته التي أنشأها وحفر بئرها ـ قبل أن أولد بعامين ـ في قرية "القسطينة" قرب مدينة المجدل شمال ما يعرف اليوم بقطاع غزة. أغمض عينيه، ومات، فرحلت الروح إلى حيث تهوى، وأمّا الجسد فلحق بالسلف الصالح ممن سبقوه إلى مقبرة الباشورة في بيروت، أمثال الشيخين الجليلين محمد وعبد الرحمن الحوت، رحمهم الله جميعاً.

(2)

انتقلنا من البيت الذي أبصرت النور فيه إلى آخر لا يبعد عنه سوى أمتار، لكنه يطل مباشرة على "شارع العالم". كان البيت الجديد متميزاً بحديقة واسعة، على طرف منها شجرة توت قديمة مطعمة بأنواع مختلفة منها الأسود والأحمر، الحلو والحامض؛ وفي الوسط شجرة عناب باسقة. أظن أني كنت في الخامسة سنتئذ لأني لن أنسى أول دخولي المدرسة، وكانت مدرسة خاصة وتابعة لـ "جمعية الشبان المسلمين". لا أنسى ذلك اليوم لأني كنت متهيئاً لدخول المدرسة الحكومية، لكن لسبب تافه لم أعد أذكره، وجدت نفسي في مدرسة غير رسمية. وفي فلسطين، في تلك الأيام، كان الصيت الحسن للمدارس الرسمية لا الخاصة، على الرغم من مجانيتها أو أقساطها الرمزية. على كل حال لم أندم ـ فيما بعد ـ على ما حدث، لأنني عندما تقدمت لامتحان القبول في العام الذي تلا، لم أنجح فحسب، بل قفزت أيضاً عن عام مدرسي كامل، ومن الصف الأول الابتدائي إلى الثالث رأساً، وإلى كتاب "القراءة الجديدة" الجزء الثالث من أعمال المربي العظيم خليل السكاكيني.

وفي بيتنا الجديد هذا أحسست بأول تماس مباشر مع "مشكلتي" كفلسطيني، وكنت في السادسة أو السابعة من عمري. ففي فجر ذات يوم من صيف سنة 1938، صحوت مذعوراً نتيجة طرق على باب منزلنا، من جانب زمرة من الجنود البريطانيين، بصحبتهم مجندة يهودية. أمر ضابطهم أبي وأشقائي الأكبر مني بمغادرة المنزل إلى ساحة الحي حيث كان سبقهم إليها العشرات من شباب الحي ورجاله. وأومأ أحد الجنود إليّ بحربة بندقيته كي أجلس على حصيرة كانت مفروشة قرب الحديقة، ففعلت وعيناي معلقتان بوالدتي التي كانت تتعارك مع المجندة رافضة السماح لها بأن تفتشها لأنها صائمة ومتوضئة! قلبوا البيت، ومزقوا الفرش، وخلطوا الزيت بالرز وبالدقيق والكاز، وسرقوا ما عثروا عليه من القليل الذي كانت والدتي تدخره وتعتز به من ذكريات عرسها.

بعد غروب الشمس، ومضي ساعات طويلة وهم تحت شمس الصيف المحرقة، أفرج الجنود عن الموقوفين في الساحة وعاد الرجال إلى منازلهم، بمن فيهم والدي وأشقائي، فاستقبلتهم الوالدة بحمد الله وشكره على سلامتهم. وبعد أن اجتمع الشمل، وتأكدنا من رحيل الجنود من الشارع، أخرجت والدتي من صدرها جسماً غريباً وسألت: "ما هذا... ولمن هو منكما"، مشيرة إلى أخويّ الأكبر مني، مصطفى وجمال.

"هذه قنبلة". قال والدي وهو يتناولها من والدتي، بينما أنكر أخواي أي علاقة لهما بها. غير أني غريزياً كنت واثقاً بأنها تخص الأصغر منهما، أي "جمال"، وكان لا يزال في الرابعة عشرة من عمره. وتأكدت من ذلك عندما رأيته يبكي بصمت وهو يرى والدنا يتسلل ليخفيها بعيداً عن البيت.

تلك الليلة استشعرت أننا في خطر، لا كأسرة، وإنما كشعب، وأن لنا أعداء، وأنهم قساة لا يرحمون... كما استشعرت أن من الممكن مقاومة هذا العدو، وهناك من يقاومه فعلاً، وأن أخي واحد منهم. عندما صحوت في اليوم التالي كان "جمال" قد أصبح مثلي الأعلى بعد أن ترك بصمة لن تمحى على مسار حياتي.

ومن يومها اتسعت دائرة فضولي، فصرت أكثر فهماً لما أقرأ في الصحف، وأتابع الإذاعات، وأستفسر عما لا أدركه من أخي. وكانت الحرب العالمية الثانية قد اشتعلت. وبات الكل ينتظر نهايتها، والناس في المقاهي تتابع نشرات الأخبار باهتمام وانتباه وصمت، تقطعه بعض همسات الدعاء بالنصر لهتلر، أو "أبو النمر" كما كان يسميه البعض من قبيل التمويه. شعار الناس كان بسيطاً وساذجاً وهو "إن عدو عدوي صديقي"، وبريطانيا حليفة الصهاينة عدوتنا. لم يكن يومئذ ثمة وعي على فرق بين يهودي وصهيوني أو ألماني ونازي. إن المشهد الذي لا يفارق ذاكرتي، هو تلك الحلقة من بسطاء الناس في المقهى القريب من منزلنا، مساء كل يوم للاستماع إلى أخبار "أنقرة" التي كان حيادها يسمح لها بإذاعة أخبار يستحيل بثها من الإذاعات العربية. أما أخبار "برلين" والاستماع إلى يونس البحري وهو يلعلع بصوته "حي العرب"، فكان من المحرمات في المقاهي وتقود المتلبس بارتكابها إل معتقل "صرفند" أو سجن "عكا" من دون تحقيق.

في الأعوام الخمسة التي صرفتها في مدرسة "المنشية للبنين" الابتدائية، تضاعف وعيي وازدادت أسئلتي عن كل ما كان يثير فضول صبي ما بين السادسة والحادية عشرة من عمره. تناوب مديران على إدارة المدرسة: الأول لبناني من صيدا هو الأستاذ سعيد الصباغ، الذي لا تزال أطالس الجغرافيا التي خططها ورسمها تطبع حتى هذه الأيام؛ والثاني هو الأستاذ جمال العلمي، وهو فلسطيني من غزة. وكان الاثنان شديدي الصرامة ونكاد نرجف إذا ما صادفناهما في الملعب، أو في الطرقات، أو بين الصفوف. كانت "العصا" واحدة من أهم أدوات التربية في تلك الأيام، ويتفنن بعض الأساتذة في اختيار خشبها ومدى طولها وعرضها!

كثيرون هم الأساتذة الذين علموني في تلك الفترة ولا أزال أذكرهم بالخير، غير أن واحداً منهم كان الأكثر تأثيراً فيّ، وربما في كثيرين غيري، وهو الأستاذ زكي الدرهلي، وذلك لشخصيته الودودة على الرغم من صرامتها، ولأنه ـ وهذا هو الأهم ـ كان من أشهر لاعبي كرة القدم في النادي الرياضي الإسلامي في يافا. كان يلعب "جناح أيمن"، ويلقبه المعجبون به بـ "أبو الرجل الذهبية". وكان معروفاً بوطنيته، وسقط شهيداً في حادث إرهابي صهيوني مجرم أدى إلى نسف أحد مراكز الدولة الرسمية في يافا سنة 1947.

ومن أفضال هذا المدرس علينا ترغيبنا في ممارسة كل أنواع الرياضة الممكنة، على الرغم مما كانت تفتقر المدرسة إليه من وسائل ومعدات وملاعب، ولا سيما للعبة كرة القدم التي كان الكل يعشقها. ومن حسن الصدف أن كان هناك ساحة كبيرة مهجورة تفصل ما بين أحد أطراف حيّنا وتل أبيب. وكانت باستمرار ميدان صراع بيننا وبينهم. وكان ثمة اتفاق غير مكتوب فرضته موازين القوى بين صبياننا وصبيانهم، يقضي بأن نتركه لهم ليلعبوا فيه يوم السبت، يوم عطلتهم. فلمّا انتظم فريقنا واستدعت الحاجة إلى ملعب مناسب، ألغينا الاتفاق واحتكار اليهود للملعب يوم السبت، وذلك بتحريض من أستاذنا باعتبار أن الأرض أرضنا ... وليست لأحد غيرنا.

(3)

كنت قد بلغت الثانية عشرة عندما بدأت عامي الثانوي الأول. وكانت "العامرية" واحدة من أحدث الثانويات في فلسطين وأجملها، ولم يكن من ثانوية رسمية غيرها في يافا ومحيطها من القرى المجاورة. لذلك كان يتجمع فيها نخبة الطلاب المتفوقين في الابتدائية من عشرات المدارس، ويعمل فيها نخبة من المعلمين المتخرجين من أعلى معاهد التعليم في فلسطين، ومن جامعات مصر، وجامعة بيروت الأميركية. وقد كانت "العامرية" واحدة من أهم محطات حياتي الثقافية والوطنية، وإني واثق بأن كل من رافقتهم من زملاء يشاركونني هذا الرأي ويؤكدونه.

ولـ "العامرية" توأم، هي "الزهراء" للبنات، وكانت تقع على الرصيف المقابل. لها اللون نفسه، وكان أخضر، واليافطة ذاتها من البلاط البورسلين الأصفر، والأسوار نفسها من أشجار البرتقال والليمون. ولا شك في أن هذه الجيرة كانت حافزاً على الإسراع في إضافة بند إلى أحاديثنا عن ذلك "الجنس" الآخر المختفي وراء تلك الأسوار. إنها بداية المراهقة بكل ما فيها من تغيرات وتحولات وفضول ومشكلات، وليس من مرشد تربوي أو مستشار نفساني، أو حتى كتاب مفيد.

الكتاب الوحيد الذي وقعت عليه أيدينا في "مكتبة" المدرسة كان بعنوان "رجوع الشيخ إلى صباه"، ولا أعرف كيف وصل أصلاً إلى رفوف المكتبة. وعندما سمع عنه أمين المكتبة متأخراً سحبه وأخفاه. وهذا "الكتاب" لمن لم يسمع به، هو من تراث قديم يتحدث عن فنون الممارسة الجنسية بشكل فضائحي يضاهي "أدب البورنو" المعاصر!

كانت بيوتنا لا تقل محافظة عن المدرسة، ولم يكن لنا ـ كمراهقين ـ من سبيل للتعلم غير بعضنا البعض، ولا سيما ممن كانوا "أكبر منا بيوم وأوعى منا بسنة" كما يقول المثل، وأحياناً بتحريك بعض المشاغبين في الصف ـ ولكل صف مشاغبوه ـ لاستفزاز أستاذ الدين أو الشريعة بأسئلة جريئة نسبياً. وأذكر واحداً من هؤلاء الأساتذة كان يحلو له الكلام المباح أحياناً، فيتنحنح عندما يُسأل، ثم يقول بصوت متهدج: "يا شباب لا حياء في الدين"، ثم ينطلق بفأفأة وهمّه الأكبر توضيح ما هو حرام وما هو حلال، لكن من دون أية شروح فيزيولوجية أو نفسية أو اجتماعية للعديد من الأسئلة التي تطرح نفسها مع بدايات وعي الأولاد على الغريزة الجنسية!

غير أن اقتصار تعليمنا على ما هو حلال أو حرام لم يبدد هواجسنا ومخاوفنا من جملة مسائل كانت بحاجة إلى توضيح، أذكر منها أربعاً على الأقل: الأولى عن الاستمناء باليد، وما كان يتردد من مخاطر هذه العادة "السرية"؛ الثانية عن الإصابة بالغونوريا، أو "التعقيبة" كما كنا نسمي هذا المرض. ومن حظ جيلنا أن "البنسلين" كان بدأ ينتشر بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، سنة 1945، الأمر الذي جعل العلاج من هذا المرض سهلاً وغير مؤلم كما كان من قبل؛ المسألة الثالثة كانت عن مرض السفلس أو الزهري، الذي كانت سمعته مخيفة كما هي سمعة مرض "الإيدز" هذه الأيام، وينتقل عن طريق الممارسة المباشرة؛ أمّا المسألة الرابعة فكانت عن اللواط واللواطيين، وكان التحذير من هذا الموضوع في منتهى الشدة والصرامة، فهو حرام وعار وشنار ونبع لكل الأمراض الخبيثة. وكنا ننبذ كل من تحوم الشبهة من حوله بأنه شاذ. ولو قيل لأستاذ الدين في تلك الأيام إنه سيأتي يوم تعتبر فيه "المثلية" أمراً مقبولاً يشرعها القانون ويحميها، لشد ما كان تبقى من شعر رأسه واعتبر ذلك من علامات قيام الساعة.

وكما كانت تعكس "العامرية" واقع البلاد الاجتماعي، كانت كذلك تعكس واقعها الوطني، وتشكل في هذا الواقع رأس حربة لجميع مدارس يافا، وربما مدارس فلسطين، في تحريك الشارع الوطني وتحريض الجماهير على الثورة ضد التحالف البريطاني ـ الصهيوني، لدحر الاستعمار والحيلولة دون تحقيق مشروعه بإقامة وطن قومي لليهود فوق تراب فلسطين الوطني.

ولذلك عدة أسباب لا بد من إيجازها، قبل أن اُتهم بالانحياز المبالغ فيه إلى يافا ومدرستها.

أمّا السبب الأول فهو الالتصاق الجغرافي بين يافا وتل أبيب، ولطالما أثارت ضربة كف أو طعنة سكين أقدم عليها عربي ضد يهودي، أو العكس، حالة الاستنفار العام في المدينة فتقوم التظاهرات وترتفع الدعوة إلى الجهاد والكفاح.

وأمّا السبب الثاني فهو كون يافا عاصمة الصحافة الفلسطينية، الأمر الذي منحها دوراً ريادياً في التوجيه الوطني، ولا سيما أنه لم يكن غير الصحافة المكتوبة من وسيلة للإعلام.

وأمّا السبب الثالث فهو أن يافا لم تكن كغيرها من المدن العربية التي تهيمن العائلات الوجيهة على قرارها السياسي نتيجة غنى أو إقطاع موروث، فكان القرار السياسي فيها رهناً بإرادة الهيئات الشعبية، وفي طليعتها الطلبة والعمال، بعيداً عن هيمنة الوجاهة والثراء.

وأمّا السبب الرابع فهو وجود هذا العدد الوفير من خيرة مثقفينا في سلك التعليم، وخصوصاً في "العامرية"، الأمر الذي ساهم في صنع أفكارنا وتوجهاتنا كطلبة يحيون مرحلة التفتح والتلقي، ويستعدون لتحمل مسؤوليات الرجال.

هناك مجموعة كبيرة من أساتذة "العامرية" تركت آثارها الإيجابية في جيلنا ثقافياً ووطنياً، وكان لكل واحد طريقته في أداء مهمته التربوية. من هؤلاء أذكر أول من أذكر المرحوم شفيق أبو غربية الذي كان يعلم الإنكليزية واللاتينية، وهو من الخليل من عائلة كريمة معروفة وشقيق صديقنا ورفيقنا المناضل الكبير بهجت أبو غربية. هذا المعلم عرّفنا على معظم أنحاء الوطن مشياً على الأقدام، أو على الدراجات الهوائية. ولم تفت حصة واحدة من حصصه من دون أن تأخذ "القضية" جزءاً منها. استشهد رحمه الله وهو يجهز إحدى العبوات الناسفة التي كان يمد بها رفاق السلاح في منطقة الخليل.

وأذكر عبد الله الريماوي وأحمد السبع، وكانا يومئذ صديقين متلازمين، ويشتركان في الأفكار القومية نفسها قبل انتمائهما في النهاية الى حزب البعث العربي. الاثنان من خريجي الجامعة الأميركية في بيروت، وتخصصهما بالرياضيات والفيزياء. ولا شك في أنهما ساهما في تشكيل شخصياتنا وكثير من قناعاتنا السياسية.

كما أذكر زهدي جار الله، وكان صاحب أسلوب نقدي في تدريس التاريخ، وله كتاب مرجع عن "المعتزلة" تعتز به المكتبة العربية. الأستاذ جار الله من عائلة منافسة للمفتي الحاج أمين الحسيني، وكان يعتقد أن قريبه الشيخ حسام الدين جار الله كان أولى بمنصب الإفتاء؛ فوفقاً للقانون العثماني كان المتصرف التركي ـ والذي حل مكانه المندوب السامي البريطاني ـ يعين أحد الفائزين الثلاثة الأوائل مفتياً للقدس، وفي سنة 1921 كان هؤلاء هم الشيخ خليل الخالدي والشيخ موسى البديري والشيخ حسام الدين جار الله، وأمّا الحاج أمين فكان ترتيبه الرابع؛ لذلك لمّا انسحب جار الله حل مكانه الحاج أمين، فبادر المندوب السامي إلى تعيينه. نحن لم تكن تعجبنا مواقف المعلم زهدي جار الله كلها، لكنه كان يثير فضولنا ويزرع الشكوك في نفوسنا قبل التسليم بأية مقولة أو شائعة.

ولا أنسى حسن الدباغ، ابن المناضل علي الدباغ، رجل المفتي في يافا. فضل الدباغ علينا كان أكاديمياً وخلقياً، وكان همّه أن يصنع منا رجالاً أكفاء ومميزين. كان أكثر من غيره اهتماماً بالمستقبل وبالتخطيط المسبق، ويرى أنه ربما كان في البلاد ما يكفي من المقاتلين، لكن المؤكد أنها بحاجة ماسة إلى آلاف المتعلمين وأصحاب الاختصاص. وأعتذر عن عدم ذكر جميع هؤلاء المربين المميزين، وكلهم جدير بالتحية والتقدير.

أمّا إدارة "العامرية" في عهدنا، ما بين سنة 1944 وسنة 1948، فقد عرفت اثنين: الاول هو الأستاذ علي شعث الصارم المتزمت في صرامته، وهو فلسطيني من غزة؛ والثاني الأستاذ عبد اللطيف الحبال، اللبناني البيروتي، الذي كان شخصية غير تقليدية يصرف معظم وقته في "منجرة" المدرسة أو في ملاعبها، لابساً "أوفرهول" وكأنه أحد العمال لا مدير المدرسة. من خلال سلوكه ولهجته تعرّف كثيرون منا على لبنان وطبيعته وأهله.

(4)

إلى جانب "العامرية" كمرجع وطني سياسي، كان لنا في يافا عدد من الأندية الرياضية والاجتماعية والثقافية. ومن أبرز الأندية التي كانت تهتم بنشاطاتنا الوطنية، وتمدنا باللوجستيات اللازمة لهذه النشاطات، كان نادي الشبيبة الإسلامية. فهناك كنا نجتمع لنضع الخطط ونعد "اليافطات" والرايات والأعلام، ونجري اتصالاتنا الهاتفية بزملائنا من مسؤولي الطلبة في بقية المدارس لتنسيق المسيرات والاتفاق على الشعارات وغير ذلك. واللافت أنه على الرغم من كثرة الأحزاب في فلسطين، فإنه لم يكن لها مقارّ ثابتة خارج القدس، باستثناء الحزب الشيوعي، أو عصبة التحرر الوطني ـ فيما بعد ـ التي كان مركزها في يافا. كان رجالات العصبة معروفين بنضالهم الوطني العريق، من أمثال فؤاد نصار وإميل توما ورشدي شاهين ومخلص عمرو وغيرهم، يواظبون على إقامة الحلقات التثقيفية التي كنا نحرص على المشاركة فيها وطرح الأسئلة وممارسة الحوار الديمقراطي بأبسط أشكاله. وكنا احياناً نساهم في تسويق جريدتهم "الاتحاد" التي لا تزال تصدر حتى يومنا هذا، من مدينة حيفا، الشقيقة الحلوة ليافا.

في العام الدراسي 1947/1948 كنت وأبناء دفعتي في الصف الرابع الثانوي، آخر صفوف المرحلة الثانوية لاجتياز امتحان شهادة "المتريكوليشين" التي تؤهل حاملها لدخول العام الجامعي الأول، أو ما يعادل "السوفومور" في الجامعة الأميركية في بيروت.

ولم يكن اجتياز هذا الامتحان بالأمر السهل، ونسبة النجاح فيه محدودة ـ وهذا في الأيام العادية ـ ومن الطبيعي أن يصبح أكثر صعوبة خلال الأجواء المقلقة التي كانت تعم البلاد وتملأ سماءها بسحب سود تنذر ببوادر اضطرابات وحروب.

كثيرون منا حملوا السلاح بعد تدريب بدائي، والتحق كل واحد منا بالمسؤولين عن أمن الحي أو الشارع الذي يقيمون به ليحددوا له مواعيد نوبته في الحراسة والموقع المسؤول عنه. وكان معظم السلاح ذاتياً، أي مِلكاً لمن يحمله، ومن النوع الخفيف مثل البندقية أو الرشاش سريع الطلقات. فكنت ترى مجموعة من خمسة أو ستة أشخاص يحملون تشكيلة قديمة ومتعددة الأنواع والمنشأ، منها العثماني والإنكليزي والفرنسي والألماني، وحتى الإيطالي. أمّا الرشاش الشائع فكان ما يعرف بـ "ستن غن" الذي صنعناه محلياً، و"تومي غن" ذي المشط المدور. ومنا من غادر يافا والتحق بجيش الإنقاذ في دمشق، وبينهم من احترف الجندية وانخرط بعد النكبة في الجيش السوري، ممن أصبحوا فيما بعد نواة أول قيادة لجيش التحرير الفلسطيني.

المؤسف أننا لم نكن ندرك حينئذ أن شعبنا كان من دون قيادة، وأن من كنا نسمع بهم من مسؤولين كانوا في أحسن الأحوال عواجز ما بيدهم حيلة. ولذلك شاعت وراجت قصة الشهيد البطل عبد القادر الحسيني عندما عاد من دمشق محبطاً لفشله في الحصول على ما كان يحتاج إليه مقاتلوه من سلاح في منطقة القدس، وكيف توجه إلى "القسطل" ليخوضها معركة محكومة سلفاً بموازين القوى، فاستردها لساعات، ثم سقط شهيداً وسقطت هي ضحية. كان ذلك في الثامن والتاسع من نيسان/أبريل المشؤوم سنة 1948.

لا أريد أن أقسو على من كانوا مسؤولين عن يافا فيما يسمى "اللجنة القومية"، فمعظمهم كان من ذوي النية الطيبة والسمعة الوطنية، أمثال الحاج خالد الفرخ وكامل الدجاني وأحمد عبد الرحيم والحاج أحمد أبو لبن، لكن كفاءاتهم وإمكاناتهم كانت محدودة، ومواردهم شحيحة. فلم يكن هناك من غرفة عمليات عسكرية، ولا من مكتب إعلامي أو ناطق سياسي. وكنا نعتمد على ما تقوله الصحف، ومعظمه لغو ومبالغات وخالٍ من أي تعبئة منظمة أو أي توجيه مدروس.

كنا نقرأ مثلاً أننا على موعد مع كتيبة من "جيش الإنقاذ" بعد يوم أو يومين، وفيها الآلاف من المتطوعين من شباب العرب المزودين بآليات ومدفعية، ويمر الموعد، لنكتشف أنه لم يصل أكثر من عشرين رجلاً بقيادة ضابط متحمس لكن بلا حول ولا قوة.

إن المرارة التي تغص بها نفسي وأنا أكشف بعض هذه المخازي، لن تمنعني من الإقرار كذلك بأن حكام العرب أمر وشعوب العرب أمر آخر. وما من شعب عربي إلاّ وله مَنْ مثّله في دفع ضريبة الدم من أجل فلسطين. كما لن أغفل دور من جاؤوا باسم الإسلام من مختلف البلاد، وأخص بالذكر أبناء من كان يعرف بالشعب اليوغسلافي، وكلهم من مسلمي البوسنة. لقد شاهدت مجموعة من هؤلاء المجاهدين في الميدان قرب منزلنا في حي المنشية، وما زلت منبهراً بنضالهم البطولي وما تميزوا به من مهارة وشجاعة وإيمان برسالتهم. كانوا جنوداً محترفين، وبينهم من اختار البقاء في فلسطين، أو ما تبقى منها، بعد نهاية الحرب.

في المقابل، كان العدو من موقعه المتقدم علينا في كل المجالات يعرف دقائق واقعنا، ويعرف كيف يستفيد منه في شن حربه النفسية. وجاءت مذبحة "دير ياسين" والترويج "الانهزامي" لها فأدخلا الرعب في القلوب، وبدأت مدافع المورتر الصهيونية قصفها العشوائي والمتعمد على الأحياء السكنية ليضاعف من الرعب والخوف من المذابح.

وعلى الرغم من فداحة الوضع فقد صمدت يافا حتى استنفد أبناؤها كل ما لديهم من إمكانات ووسائل للصمود والمقاومة. وما زلت أذكر اليوم الذي علت فيه زغاريد النساء وأناشيد الأولاد عندما نجح بعض العمال من "شركة السكب الفلسطينية" في صنع رادع محلي لمدافع المورتر الصهيونية، أطلقوا عليه اسم "راجم الألغام" وحملوه وطافوا به بشوارع المدينة لرفع معنويات الناس. لكن هذا الرادع لم ينجح وأودى بحياة أكثر من طاقم، فتوقف الشباب عن صنعه واستعماله.

ما من فلسطيني يتذكر الحوادث التي سجلت في يافا ومعظم مدن فلسطين وقراها في نيسان/أبريل 1948، إلاّ ويعتصر الحزن قلبه. وكغيري كان لي نصيبي الوافر من هذا الحزن.

في هذا الشهر بالذات تفاقمت الأوضاع الأمنية والعسكرية والسياسية حتى وصلت إلى ذراها، وتضاعفت الضغوط والمشكلات الحياتية، وكان أهمها بالنسبة إلينا ـ طلاب شهادة "المتريكوليشين" ـ اجتياز هذا الامتحان الذي قدمت الحكومة موعده من حزيران/يونيو إلى هذا الشهر، وذلك بعد أن أعلنت بريطانيا عزمها على إنهاء الانتداب والانسحاب من فلسطين في الخامس عشر من أيار/مايو 1948.

وكأنه لم يكن يكفيني ما كنت فيه، فقد أراد القدر أن يمتحن صبري وقوة احتمالي عندما فوجئت ظهيرة الثاني من هذا الشهر باستشهاد شقيقي ومثلي الأعلى "جمال" الذي كان أصبح في الرابعة والعشرين من عمره. لم أصدق الخبر أول وهلة، على الرغم من أننا جميعاً في العائلة كنا على دراية بدوره المهم في حركة المقاومة، إذ كان رئيساً لسرية متخصصة بإقامة الكمائن وزرع العبوات والألغام على الطرقات الموصلة إلى المستعمرات الصهيونية في دائرة يتجاوز شعاعها ثلاثين كيلومتراً. ولطالما تعرض لهجمات مضادة فدُمرت سيارته أكثر من مرة، وأصيب بجروح. وكان قائد هذه السرايا ضابطاً سودانياً عرف باسم "طارق" الإفريقي.

لن أنسى في تلك اللحظات التفاف رفاق صفي من حولي، وفي طليعتهم صديق العمر إبراهيم أبو لغد، وإصرارهم على مؤاساتي وضرورة متابعة دراستي، وكنا قد بدأنا دورة الامتحان ـ المنعطف.

في اليوم التالي لاستشهاد "جمال" كان موعدنا مع امتحان اللغة العربية، وذلك في إحدى قاعات مدرسة "الفرير" المطلة على شارع العجمي. وكان كبير المراقبين في القاعة عمي الأستاذ الشاعر محمود الحوت، وكان مفتشاً في دائرة المعارف، وتساعده في المراقبة الآنسة فيوليت ناصر التي أصبحت، فيما بعد، حرم الصديق كامل قسطندي.

فتحتُ ورقة الفحص فوجدت أن علينا أن نختار عنواناً من ثلاثة عناوين ونكتب عنه موضوع إنشاء. من هذه العناوين واحد نصه: "أكتب عن حادثة هزت مشاعرك". وكدت لا أصدق نفسي وأحسست كأن الموضوع اختير خصيصاً من أجلي. نظرت إلى عمي فوجدته قد اختبأ مني وراء نظارة سوداء. أمّا العزيزة فيوليت فلم تستطع منع دمعها ورفعت منديلها مشيحة بوجهها كي لا أراها تبكي. أمّا أنا، وكان مقعدي قرب النافذة المطلة على الشارع، فكنت سارحاً كالمذهول أتأمل النعش الملفوف بعلم فلسطين والمحمول على الأكف الغاضبة التي طغت صرخات أصحابها على اللحن الحزين الذي كانت تؤديه إحدى الفرق الكشفية.

بعد أن كتبت ما كتبت مما امتزج مداده بالدموع، هرعت ورفاقي، وإبراهيم أبو لغد في المقدمة، لوداع الفقيد الذي دفن في تراب تلك الرابية الحمراء المطلة على شاطئ المتوسط. ومن سخريات القدر، أو ربما من مداعباته أحياناً، أن هذه المقبرة التي أقفلها العدو فباتت شبه مهجورة، عادت سنة 2001 ففتحت أبوابها استثنائياً بضغط جماهيري لتستقبل فلسطينياً من يافا أبى أن يدفن خارج وطنه بعد غيابه القسري عنه نحو خمسين عاماً؛ هذا العاشق ليافا هو الحبيب، رفيق الطفولة والصبا والشيخوخة إبراهيم أبو لغد نفسه.

(5)

وفي الثالث والعشرين من الشهر نفسه، نيسان/أبريل 1948، وجدت نفسي على ظهر سفينة يونانية تسمى "دولوريس" متوجهة من يافا إلى بيروت.

اخترت ركناً على متن السفينة في مقدمها، ورحت أحدث نفسي كالمجنون متسائلاً عما حدث لنا ولماذا حدث، وإن كان لهذه الرحلة من عودة أم أنه الوداع الأخير؟

مستحيل! مستحيل أن يكون ذلك وداعاً ليافا. فالقصة لا تعدو أن تكون إجازة قصيرة، أو استراحة محارب عائد بعد أيام لن تصل إلى أسابيع. لو لم يكن الأمر كذلك لما أصر والدي على أن تكون مغادرتنا مكتملة لشروط الشرعية، وأولها الاستحصال على سمة دخول لنا من القنصلية اللبنانية بتوقيع من القنصل وصديق العائلة إدمون روك. ولو لم يكن الأمر كذلك لما خلفنا وراءنا كل شباب العائلة القادرين على القتال من إخوتي وأبناء عمومتي، وأمثالهم ممن كانوا في أعمارهم.

لا بد أننا عائدون.. أسبوعان أو ثلاثة على أكثر تقدير ونعود. عائدون لا شك عائدون.. وبيروت لم تكن غريبة عني ولم أكن غريباً عنها، ولطالما زرنا أهلنا فيها وأمضينا فصل الصيف في جبال لبنان، لنعود في النهاية إلى يافا محملين بحلويات البحصلي والصمدي من بيروت، وبماء الزهر والورد من صيدا، ثم نودع لبنان في الخيزران، المحطة التي يتوقف فيها الفلسطينيون عند زيارتهم لبنان أو مغادرتهم له عبر رأس الناقورة.

لا بد أننا عائدون.. وسنجد يافا في استقبالنا عند مدخلها قرب نبع الماء المعروف بـ "سبيل أبو نبوت"، المحاط ببساتين البرتقال على مد النظر.

هذه المرة تبدو الأمور مختلفة، وبشكل مأساوي، بقيت عيناي مسمرتين على يافا ومينائها التاريخي، والباخرة تشدني بعيداً عنها إلى عرض البحر من دون أي رحمة أو تعاطف.

مع مغيب شمس الثالث والعشرين من نيسان/ أبريل 1948، كانت يافا قد غابت عن ناظري، والبحر يحيط بنا من كل جانب.

غير أن البصيرة أقوى من البصر، والقلب أكثر حناناً من العين. وما كنت لأقول هذا القول لولا كل هذا العمر، ولا تزال يافا ملء نفسي وذاكرتي. وما من مرة ألتقي فيها واحداً من أصدقائي القدامى، حتى نبادر إلى سباق في الذاكرة عن اسم هذا الشارع، أو ذلك الزاروب.. من كان يسكن في هذا الحي، وفي أي ركن يقع ذلك المطعم أو ذلك المنتدى... وما أكثر ما كنا نصاب بالدهشة عندما نكتشف أننا لا نزال نتذكر من معالم المدينة ما كان لا يهمنا أو يثير اهتمامنا يوم كنا نقيم في المدينة الحبيبة، مثل لون بناية بالذات، أو اسم بائع متجول لـ "النمورة" أو تخشيبة بائع بطيخ.

وفي تفسير ذلك كتبت مرة، في مقدمة لكتاب "رجال من فلسطين" لمؤلفه العلامة عجاج نويهض، ما يلي:

ـ قد يكون في استطاعة القوة الغاشمة الجائرة أن تغتصب "الأرض" وأن تغتال "الأفراد" وأن تبيد "الجيوش والمؤسسات"، لكنه يستحيل عليها، مهما طغى جبروتها، أن تغتصب "الوطن" وأن تغتال "الشعب" أو أن تبيد "الأمة وشخصيتها الوطنية". وقد يكون في استطاعتها كذلك أن تزيف "كتاباً" أو أن تزور "خارطة" أو أن تنهب "أثراً" أو أن تزيل "علماً"، لكنه يستحيل عليها، مهما تمادت في غيها، أن تزيف "التاريخ"، أو أن تزور "الجغرافيا" أو أن تطمس "التراث".

ـ فعندما تعجز "الأرض" تحت ظروف القهر والاحتلال والاغتصاب، عن أداء مهمتها كوعاء لـ "الوطن" يحتضن آثاره وقيمه ويشهد على هويته وتاريخه، يتلقف "المواطن" هذه المهمة ويصبح هو الوعاء الحاضن الشاهد، وتصبح "الذاكرة" بديل "الأرض"، وما من قوة بقادرة على قهر الذاكرة أو دحر الوجدان. والذاكرة بطبعها عدوة للقهر.

وكتبت:

ـ ولو سألتني، قبل اغتصاب "الأرض" في فلسطين، عن ذلك الشارع في يافا، الموصل بين بيتي ومدرستي، والذي قطعته ذهاباً وإياباً آلاف المرات، لوجدتني أوجز أيما إيجاز، غافلاً عن الكثير من التفاصيل. ولكن، حاول أن تجربني الآن، من الذاكرة التي تتحدى القهر وعشرات من السنين، لتسمع مني عجباً.

(6)

ولابأس في أن نستعيد اليوم ذلك المشوار:

لم يكن في "شارع العالم" حيث كنت أسكن، محطات لـ "الباصات"، وكان الشارع حكراً على "الدلجنصات" أو الكروسات بسبب ضيقه. لذلك، كان علي السير على الأقدام غرباً لأصل إلى الشارع الموازي، "شارع حسن بك" الذي كان يفاخر أصدقاؤنا من سكانه علينا لمرور الباصات فيه. وحسن بك هو شخصية حلبية اشتهرت في المدينة بعد أن أقام فيها مسجداً عرف باسمه. وهو لا يزال قائماً حتى اليوم متحدياً عشرات المحاولات لهدمه. كان مسجداً رحباً، تحيط به الحدائق من كل جانب، وتظلله عرايش العنب المعربشة على جدرانه.

محطة الباص رقم "2" قرب المسجد، وهناك كنا ننتظر الباص الآتي إلينا من محطته النهائية عند أبواب تل أبيب، والمتجه جنوباً إلى وسط المدينة، إلى ساحة "الساعة" التي تشبه ساحة "التل" في طرابلس الشام، ونبدأ المشوار في "الباص رقم 2".

أول محطة عند "التلة الحمراء" أو "تلة بيدس" نسبة إلى أسرة بيدس الثرية، التي أقامت فوقها قصراً منيفاً يشبه القلاع البريطانية القديمة.

فإلى هذه التلة، لا بد من عودة بعد انتهاء الدروس، لنلعب "الفوتبول" على طرفها الغربي وفوق ترابها الأحمر المتصل برمال الشاطئ الفضي. ومن يدري، فقد نغطس، بعد المباراة، في زرقة مياه البحر بعد أن نرمي ثيابنا على الشاطئ المباح للجميع.

ويمضي بنا الباص الحبيب صاحب الرقم "2" في الشارع الرحب، حتى يصل إلى "نقطة بوليس المنشية" وداخلها "الضابط عبد الله"، القصير القامة غير المحبوب، باعتباره ممثل السلطة، ويتباهى في مشيته في الشوارع بصحبة الجنود الانكليز. ما أكثر ما "أسقطنا" الضابط عبد الله في هتافاتنا خلال التظاهرات! بعد نقطة البوليس، ينتهي "حي المنشية" ويبدأ "حي أرشيد" فينعطف الباص عن هذا الحي لاستحالة المرور بزواريبه العتيقة الضيقة، ليسلك طريق "المحطة" بعد أن يمر بـ "فرن خلف" (أقرباء "أبو إياد" صلاح خلف)، فينعطف مرة ثانية من قرب ملحمة "الضعيفي" التي كانت رائحة الشواء تفوح منها باستمرار ويسب لها اللعاب. وكانت طريق "المحطة" تعج بالمتاجر والمقاهي. و"الانشراح" أهم المقاهي وأشرحها. من زبائن المقهى الدائمين، والذي كنا نراهن بعضنا البعض ـ ونحن في الباص ـ حول وجوده أو عدم وجوده لحظة مرورنا، هو الشيخ عيسى أبو الجبين، الذي يقال ـ على ذمة الرواة ـ أنه كان من دعاة مقاطعة المساهمة في شركة "روتنبرغ" للكهرباء، مما أدى إلى احتكارها من قبل اليهود! ومن طرائف طريق "المحطة" التقاء عربات "الدلنجص" بالباصات، وكم من سائق باص كان في السابق "عربجياً" فنجده يمد رأسه من النافذة باعتزاز ليقذف زملاءه السابقين بنكتة لاذعة يضحك منها الجميع. وكنت أتعاطف مع العربات وأصحابها، يؤنسني صوت أجراسها، ووقع أقدام الخيل، وحتى صوت الكرباج وهو يلعلع حاثاً الحصان على السرعة، أو مهدداً طفلاً شقياً "تشعلق" على قفا العربة.

ونترك "محطة سكة الحديد" عن يسارنا، ونواصل السير لنتجه إلى شارع "اسكندر عوض".

ولا أعرف من هو "اسكندر عوض" هذا، الذي يحمل هذا الشارع التجاري الأنيق اسمه. لكني أعرف أن يافا كان فيها عدد كبير من كبار العائلات المسيحية في فلسطين من أمثال: عائلة خياط، وعائلة حمصي، وعائلة روك، وعائلة البارودي، وعائلة غرغور، وعائلة اندراوس، وغيرها وغيرها. وكان معظمها يقيم في "حي العجمي" حيث أعرق وأحلى الكنائس ومن كل الطوائف.

وعلى قدمه، فإن "شارع اسكندر عوض" كان من أحلى شوارع يافا، في متاجره وواجهاته، وتنوع المحلات التي فيه. وكانت الطبقات التي تعلو المتاجر مكاتب للمحامين، أو عيادات أطباء.

ويصب هذا الشارع في "ساحة الساعة"، أقدم ساحات يافا وأكثرها عراقة. كانت "الساعة" ببرجها العالي في منتصف الساحة، التي طالما شهدت التظاهرات الصاخبة عندما نلتقي بجموع المصلين الخارجين من "الجامع الكبير". ها هو "القشلاق" الرهيب المحاط بالأسلاك من كل جانب، والمطل على الميناء والبحر من الناحية الغربية، بينما بوابته في الناحية الشرقية تواجه الساحة الفسيحة. وأمام "القشلاق" يقوم مبنى "محكمة الصلح" الذي نسفه الإرهابيون الصهاينة سنة 1947، واستشهد فيه عدد من خيرة شباب المدينة، منهم أستاذنا في الابتدائية زكي الدرهلي الذي سبقت الإشارة إليه. وعلى امتداد مبنى المحكمة جنوباً، مجموعة متاجر ودكاكين ومطعم لأشهى طبق فول مدمس، هو مطعم "فتح الله". كان "فتح الله" فناناً لا "فوالاً"، والويل لك إن أبديت ملاحظة فيما يتعلق بالطبق الذي يقدمه لك. من يدخل مطعمه عليه أن يأكل على ذوق المعلم وإلا "فمع ألف سلامة"!

وراء هذه الواجهة، كان يقع "سور الدير" حيث تجارة الحبوب والغلال أو ما هو معروف بـ"مال القبان". وهناك كان تجار يافا المشهورون من أمثال: "بيبي"، و"الأبيض"، و"تماري"، و"حبش وكركر"، و"الهاها"، و"القدسي"، وغيرهم.

ولا يمكن الحديث عن "ساحة الساعة" من دون الحديث عما وراءها من الناحية الغربية حيث بداية الطريق إلى ميناء يافا التي أصبح "برتقالها" أي المصدر من مينائها، أشهر برتقال في العالم مما أجبر إسرائيل التي غيرت كل أسماء مدن وقرى فلسطين ـ بما في ذلك اسم يافا الذي أصبح "يافو" ـ على الإبقاء على الاسم العربي للبرتقال خشية أن يفقد سمعته التجارية الواسعة.

على ناصية الشارع الموصل إلى الميناء، يقع مقهى "المدفع"، والاسم منسوب إلى ذلك "المدفع التركي" الرابض أمامها وفوهته صوب البحر، ويستعمل في رمضان إشارة إلى وقت الغروب. ورواد المقهى الأساسيون هم بحارة يافا الأشاوس الذين لهم تاريخهم في النضال الوطني. وبالقرب من هذا المقهى "نادي الشبيبة الإسلامية" الذي أصبح ملتقى الشباب الوطني من طلبة ومثقفين، وأحد مراكز صنع القرار السياسي في المدينة، الذي قام بدور مهم في محاولة تنظيم المقاومة العربية سنة 1948، فاستشهد عدد من أعضائه، وانضم البعض الآخر إلى "جيش الإنقاذ"، ومنهم من استمر في السلك العسكري حتى قيام منظمة التحرير الفلسطينية، مثل العميد محمد الشاعر الذي كان ملحقاً عسكرياً في مكتب المنظمة في لبنان، ثم أصبح ممثلاً للمنظمة في موسكو.

وكان بعض شباب مدرسة "العامرية" يترددون على هذا النادي ويفيدون من إمكاناته لنشاطاتهم الطالبية. فمن هناك تحركنا وأقمنا أول اتحاد لطلبة فلسطين، الذي كان للصديق الدكتور إبراهيم أبو لغد، أستاذ العلوم السياسية في جامعة نورث وسترن الأميركية، دور كبير في بنائه، وكنا من مساعديه في هذا المضمار. وإلى الجنوب من النادي تبدأ "هضبة الرميلة" حيث يافا العتيقة التاريخية. وعلى سفح تلك الهضبة كانت توجد مطاعم "الكباب" اليافية الشهيرة، ومن أشهرها مطعم "الزراري" ومطعم "عبد الرحيم"، وبالقرب منها "حلويات حمودة" و "الشامي" أشهر محلات البوظة في ليالي رمضان المؤنسة.

والآن نترك منطقة الميناء لـ "آل البلطجي والقمبرجي" أصحاب التخصص التاريخي بعالم الموانئ، وهم من العائلتين نفسيهما المعروفتين في بيروت وفي مينائها بصورة خاصة، ونستأنف المشوار، في الباص "رقم 2" نفسه، ولكن بعد دفع "قرش آخر"، باعتبار أنها رحلة جديدة.

يقطع الباص الساحة ويتجه يساراً ليدخل بداية "سوق الصلاحي"، أحد شوارع يافا التجارية الأخرى وملتقى تجار البرتقال وجميع العاملين في هذه التجارة الكبرى من سماسرة يتمتعون بخبرة هائلة ومعلوما لا حدود لها عن كل "بيارة" برتقال في فلسطين. وإلى تجار الورق والأخشاب والمسامير الخ. كل تجار البرتقال في يافا كانوا يبدأون يومهم بفنجان قهوة في مقهى "داوود" ذي الساحة الرحبة والأشجار الظليلة، وربما مع صحن فول من مطعم "الكلحة" فهناك حول تلك الطاولة، مثلا، تجد سعيد بيدس، ومحمد عبد الرحيم، وإبراهيم خليل الحوت، والحاج ديب حمدان، وأبو هاشم القدسي، وحمدان مرسي، وإبراهيم وزكي بركات، وعبد المحسن حجازي، ومحمد علي القطان، وغيرهم...

وعند نهاية هذه السوق، تبدأ سوق أخرى هي "سوق الخضار" ومعظم أركانها من أصل قروي، ومن غزة، التي كانت تربطها بيافا روابط تجارية متينة.. ويستمر الباص في طريقه حتى نصل إلى ساحة بلدية يافا بحديقتها الفاتنة. هنا ننزل من الباص، ونتابع المشوار مشياً على الأقدام صوب "العامرية" في "حي النزهة" الذي يستحق اسمه من كثرة أشجاره وخضرته وحدائقه. وساحة البلدية هي مدخل يافا إلى الشرق والجنوب معاً، وترى الباصات وافدة عليها من القدس وغزة وكل فلسطين، باستثناء حيفا التي كانت الطريق إليها تمر بتل أبيب. وفي مقهى البلدية أو "الحلواني" يجلس التجار وكبار الموظفين وأقطاب البلد إن جاز اعتماد مثل هذا التعبير، لأن يافا تختلف عن القدس وغزة ونابلس وعكا بافتقارها إلى "العائلات" بالمعنى الذي كان معروفاً في تلك المدن. ويافا فلسطينية أكثر منها "يافية"، وحتى يمكن القول إنها عربية بقدر ما هي فلسطينية، وذلك لكثرة ما فيها ممن هم من أصول عربية مختلفة. لم يكن في يافا "العائلات" ذات التأثير السياسي، أمثال "الحسيني" و"النشاشيبي" في القدس، أو من هم أمثال "الشكعة" و"المصري" و"طوقان" في نابلس، أو من هم أمثال "الشقيري" و"السعدي" في عكا، أو من أمثال "الشوا" و"بسيسو" و"الصوراني" و"أبو رمضان" في غزة. من عائلات يافا القديمة عرفت "آل البيطار" و"آل هيكل"، ويقال إن جذورهما تعود إلى مئات السنين. ولقد شهدت "ساحة البلدية" كذلك الحشود والتظاهرات الوطنية، ولا سيما عندما كانت تعقد المهرجانات العامة في قاعة "سينما الحمرا" القريبة منها. وكانت تلك السينما، وقتئذ، فريدة من نوعها في الشرق الأوسط من حيث الضخامة والفخامة. وعلى ذكر البلدية وساحتها، فلقد عرفت رئاستها أربع شخصيات معروفة على التوالي: عاصم بك السعيد، وعمرالبيطار، ثم شقيقه عبد الرؤوف، وآخر رئيس لها كان الدكتور يوسف هيكل، الذي كان أول من وصل إلى هذا المنصب عن طريق الانتخاب لا التعيين.

وإني لأذكر تلك الانتخابات، التي كانت مناسبة لإقامة المهرجانات الوطنية، حيث كان المرشحون يتسابقون إلى كسب ود الحاج أمين الحسيني الذي كان يقيم في مصر وقتئذ، والكل يدعي الوصل به. فلقد كانت كلمته ساحرة التأثير في الناس ولأسباب عائلية، ازداد اهتمامي بالانتخابات، إذ كان أحد أعمامي أحمد سليم الحوت من المرشحين فيها، من خلال قائمة ضمته مع موسى الكيالي وعبد الرحمن السكسك وسليم السعيد والحاج مصطفى أبو غبن، وذلك في مقابل لائحة تزعمها الدكتور يوسف هيكل وكان معه رباح أبو خضرا وحسن خلقي الدجاني ورشاد أبو الجبين وخليل مقدادي وأحمد أبو لبن. وقد انتهت الانتخابات بفوز كامل للدكتور يوسف هيكل وأركان قائمته. وقيل يومها على لسان المعارضين لهيكل إنه كان يستحيل نجاحه لو لم يسبق ذلك تعيينه رئيساً للبلدية. ومن المؤكد أن هيكل لم يكن من المحسوبين على المفتي، شأنه شان معظم رؤساء البلديات في فلسطين. وكان أول "دكتور" سمعت عنه ولا علاقة له بالطب.

في طريق عودتنا من المدرسة "العامرية" كنا نؤثر السير على الأقدام. شلل من الطلبة والطالبات، ولا سيما طالبات مدرسة "الزهراء"، توأم المدرسة "العامرية" وجارتها. كنا نعبر الشوارع مثل قوافل من زهر، نتحادث، نتسامر، وحديث الوطن يغلب في النهاية كل حديث.

أما نحن أبناء "حي المنشية" فلقد كان علينا، بعد الوصول إلى ساحة البلدية، أن نستمر شمالاً في الشارع الجميل، شارع "الملك جورج"، أو شارع "جمال باشا سابقاً"، وكنا نسميه نحن "شارع النزهة"، معلنين تمردنا على الأتراك والانكليز معا. ويصل بنا المشوار إلى سينما الحمراء، وسينما فاروق، ومن بعدهما نصل إلى شارع متفرع إلى ملاعب البصة حيث كانت تقام الاحتفالات الرياضية الموسمية، ومباريات كرة القدم حيث تلتقي أندية فلسطين المختلفة. وكان "النادي الإسلامي" و"النادي الأرثوذكسي" أشهر فريقين في يافا. والمرات القليلة التي استضافت فيها هذه الملاعب أندية يهودية مثل "المكابي" و"الهابوعيل" كانت تحتشد بآلاف المتفرجين. كذلك شهدت ملاعب البصة مهرجانات واستعراضات "حزب النجادة" برئاسة محمد نمر الهواري الذي خلت له الساحة بغياب الحاج أمين الحسيني، حتى عاد جمال الحسيني من منفاه وأنشأ تنظيماً باسم "شباب الفتوة". وجرت محاولة لتوحيد التنظيمين شبه العسكريين قبل النكبة قليلاً، لكن المحاولة فشلت، ولم يثبت أي من التنظيمين أي وجود مؤثر خلال حرب 1948.

وفي الشارع نفسه، لكن في الجهة المقابلة، كان يقع فندق "كونتننتال" الذي كان ملتقى الأدباء والشعراء، والذين كثر وجودهم في يافا بعد قيام "محطة الشرق الأدنى" واختيار يافا مقراً لها. على شرفة "الكونتننتال" تعرفنا على وجوه عديدة من أدباء فلسطين والعرب وبخاصة من مصر، أمثال توفيق الحكيم، والعقاد، والخميسي. ومن الفنانين كنا نشاهد أمير البزق محمد عبد الكريم، وصابر الصفح، وحليم الرومي، ويوسف رضوان، وعبد الوهاب، ويوسف وهبي، وبشارة واكيم، وكثيرين غيرهم، يتحلقون حول المقرئ الخفيف الظل الشيخ محمد فريد السنديوني. ومن شباب يافا، أهل الصحافة والكتابة والإذاعة كنا نرى رشاد البيبي، وشاعر الشباب محمود أفغاني، ومحمود الحوت، وكنعان أبو خضرا، وابراهيم الشنطي، وشقيقه صادق، ومصطفى الطاهر، وصاحب اللسان السليط هاشم السبع صاحب جريدة "الصريح". وكانت يافا عاصمة الصحافة العربية الفلسطينية بلا منازع، ففيها تصدر "الدفاع" و "فلسطين" و "الصراط المستقيم" و "الشعب" و"الوحدة". وكانت كلها، في مقياس تلك الأيام، من طليعة الصحف العربية، والثانية بعد صحف مصر.

ما زلنا على الطريق، وها هو الشيخ عبد القادر المظفر يجلس أمام عمارته الشاهقة، التي كان يشيع أنصار المفتي أنه بناها من أموال جمعها المظفر من الهند لنصرة فلسطين، والله أعلم. ما أعلمه أنا أن المظفر كان فحلاً من فحول المنابر، وإذا استلم "الميكروفون" لا يتركه. ونستمر في المشوار فنصل إلى مبنى دائرة البريد بحجارته البيض وردهاته الفسيحة التي تلمع من نظافتها. وأستأذن لحظة لأرى إن كان ثمة رسائل في ص.ب. رقم 416. فذلك صندوق بريدنا الذي حمل إلي ذات يوم "جواز السفر" رقم 212023 حين كنت أحلم بالسفر إلى بريطانيا لدارسة القانون. وهو الجواز نفسه الذي أصر الضابط الإسرائيلي على مصادرته عندما دخل الغزاة بيروت الغربية.

أمام مبنى البريد، هناك "ملهى البوسطة" وهو أرقى من زميله "ملهى الظريفية" في ساحة "الساعة"، وكان يحيي لياليه فنانون وفنانات من مصر ولبنان. ها هو ملصق الفنانة الصاعدة يومئذ "سهام رفقي" وأغنيتها المشهورة "يا ام العباية". وهناك "مقهى البريستول". ونصل إلى المفترق، حيث تقاطع شارع "اسكندر عوض" بشارع "يافا ـ تل ابيب" بشارع "المحطة". وشرطي السير في منتصف التقاطع تحت خيمته المعدنية يوجه سير السيارات، والتقاطع رحب، يكاد يشكل ساحة، إلى جانب منها "سينما نبيل" لصاحبها علي المستقيم، وأمامها "سينما الرشيد"، وبينهما "شركة باصات القدس" التي كنت أشعر بعاطفة خاصة تجاهها لأن اخي جمال كان يدرس في القدس ويركب باصاتها. كان يدرس في "النهضة"، الكلية التي أسسها خليل السكاكيني وإبراهيم شحادة الخوري، من كبار المربين في فلسطين، وكان يديرها لبيب غلمية من مرجعيون.

وينتهي بنا المشوار عند هذا الحد.فشارع "المحطة" تحدثنا عنه ونحن قادمون إلى المدرسة، وكذلك شارع "اسكندر عوض". أما شارع "يافا ـ تل ابيب"، فهو نقطة البداية في التشابك السكاني العربي ـ اليهودي، وكان مقر دائرة حاكم اللواء، ومقر الـ "سي. أي. دي" أي دائرة المباحث الإجرامية، التي شهدت أروقتها عذاب المئات من الفلسطينيين المناضلين.

وبعد...

فلقد كانت تلك لقطات من الذاكرة، وليست كل الشريط، الذي لا يزال فيه مئات الصور والأسماء، التي أغفلتها عمداً، واقتصرت على بعضها مما له معنى من المعالم ولا سيما لمن لا يعرف يافا، عروس فلسطين ولو "زعلت" مني حيفا.

ولو سئلت اليوم بعد مضي ما يزيد على خمسين عاماً على ذلك اليوم المشؤوم، يوم اقتـُلـِعْتُ من فلسطين، إن كنت ما زلت على يقيني من العودة، لما ترددت ثانية واحدة في قول "نعم".

فيافا، كرمز للوطن كله، لم تبارح وجداننا، وتوارثها الأبناء والأحفاد، ولم يعترف فلسطيني واحد في الشتات بأن ثمة بديلاً من الوطن المسلوب، كأرض وتراث وهوية. ومن يسأل طفلاً ولد في أي مخيم من مخيمات الشتات، بما في ذلك المخيمات في الضفة والقطاع، عن مكان ولادته، فإنه يستذكر فوراً بلده أو قريته في فلسطين: أنا من يافا، أنا من حيفا، أنا من اللد، أنا من الرملة.. أنا سليل كل الأمم والحضارات التي توالت على العيش في فلسطين، ولا سيما آخر ألف وخمسمئة سنة من التاريخ.

أنا لست عائداً فحسب، بل فلسطين عائدة إليّ أيضاً. إنها مسألة وقت، مهما يَطُلْ الزمن.