الاتفاق كان جيدا للقيادة ولم يكن جيدا للقضية الفلسطينية
حل الدولتين انتهى وفتح الباب أمام صراع تاريخي طويل
بعد قرن من الصراع لا توجد بقعة بين البحر والنهر تخلو من فلسطيني


في كتابه "غزة أريحا - سلام أمريكي" صدر عام 1994 كتب ادوارد سعيد: "وجدت قيادة منظمة التحرير نفسها، وفي خضم حالة الفوضى والذعر من المستقبل، تفرط في كافة الأهداف الوطنية والمشروعة للشعب الفلسطيني لصالح ما يعرف بالحل الانتقالي، الذي اقترحه شامير، وأيده جورج بوش وجيمس بيكر. وهكذا خرج الفلسطينيون من المولد بلا اعتراف بحقهم في تقرير مصيرهم، وبلا ضمان لسيادة مستقبلية".

وأضاف "وقد جاء إعلان مبادئ أوسلو، الذي تم الاحتفال بالتوقيع عليه في حديقة البيت الأبيض، بالمزيد من التنازلات، كأنما كل هذه التنازلات التي ذكرتها لم تكن بكافية، فقد تنازلت القيادة الفلسطينية، ولأول مرة في التاريخ الفلسطيني الحديث، لا عن حق تقرير المصير فقط، بل وعن القدس وقضية اللاجئين، حيث أرجأت هذه الأمور مجتمعة إلى مفاوضات المرحلة النهائية غير المحدودة الشروط".

واختصر سعيد المشهد العبثي بقوله "ها نحن نشهد الآن، ولأول مرة في القرن العشرين، حركة تحرر وطني تفرط في إنجازاتها الضخمة، وتقبل التعاون مع سلطة احتلال، قبل أن تجبر هذه السلطة الاعتراف بعدم شرعية احتلالها للأراضي بالقوة العسكرية".

ذات المشهد لخصه محمود درويش في ديوان "لماذا تركت الحصان وحيدا" عندما قال:

"أﻏﻠﻘﻮا المشهد
اﻧﺘﺼﺮوا
عبروا أمسنا كله
غفروا
للضحية أخطاءها عندما اعتذرت
عن كلام سيخطر في بالها
غيروا جرس الوقت
وانتصروا".

واليوم وبعد ربع قرن على أوسلو يبدو "التفريط "، الذي تحدث عنه إدوارد سعيد أكثر وضوحا، و"الانتصار"، الذي تحدث عنه درويش أكثر إيلاما، بعد أن أضعنا "نجمة الشمال"، وفقدنا خيمة الجنوب.

د. علي الجرباوي، وفي مقال نشره في مجلة الدراسات الفلسطينية، اعتبر أوسلو واحدا من ﺛﻼﺛﺔ ﻣﻔﺎرق ﻣﻔﺼﻠﻴﺔ أثرت في ﻣﺴﺎر اﻟﺼﺮاع اﻟﻌﺮﺑﻲ الإسرائيلي خلال القرن المنصرم، وترك آثارا سلبية لا زال العرب والفلسطينيون يعانون جراءها حتى الآن وهي: نكبة 1948 التي خسر فيها العرب أربعة أخماس مساحة فلسطين لتتحول إلى إسرائيل بعد طرد ثلثي سكانها الفلسطينيين؛ ونكسة 1967 اﻟﺘﻲ ﺧﺴﺮ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﻌﺮب الخمس الأخير ﻣﻦ ﻓﻠﺴﻄﻴﻦ، واﻟﺘﻲ أﺻﺒﺢ اﻟﻔﻠﺴﻄﻴﻨﻴﻮن ﺟﻤﻴﻌﺎ ﺑﻌﺪﻫﺎ إﻣا ﻣﺸﺮدﻳﻦ في اﻷرض وإما قابعين تحت السيطرة الإسرائيلية.

أما المفرق اﻟﺜﺎﻟﺚ، والذي يسميه "اﻟﻬﻠﻜﺔ" (ﻣﻦ اﻟﻬﻼك) فهو توقيع اتفاق أوسلوعام 1993، اﻟﺬي أﻋﻄﻰ إﺳﺮاﺋﻴﻞ المواﻓﻘﺔ اﻟﻔﻠﺴﻄﻴﻨﻴﺔ اﻟﺮﺳﻤﻴﺔ ﻋﻠﻰ ﺷﺮﻋﻴﺔ اﻟﻮﺟﻮد واﻟﺘﻤﺘﻊ ﺑﺎﻷﻣﻦ ﻣﻦ دون ﻣﻘﺎﺑﻞ، إﻻ اﻋﺘﺮاﻓﻬﺎ ﺑﻤﻨﻈﻤﺔ اﻟﺘﺤﺮﻳﺮ اﻟﻔﻠﺴﻄﻴﻨﻴﺔ ً ممثلا ﺷﺮﻋﻴﺎ ﻟﻠﺸﻌﺐ اﻟﻔﻠﺴﻄﻴﻨﻲ وﻣﻔﺎوﺿﺎ باسمه، وبلا اعتراف منها بأنها ما زالت تحتل أرضهم. وما يميز "اﻟﻬﻠﻜﺔ" ﻋﻤا ﺳﺒﻘﻬﺎ ﻣﻦ ﻧﻜﺒﺔ وﻧﻜﺴﺔ، وﻳﺠﻌﻠﻬﺎ أﻛﺜﺮ أﺛﺮا وأﺑﻌﺪ ﺗﺄﺛﻴﺮا، برأي د.الجرباوي، ﻫﻮ أﻧﻬﺎ ﺗﻤﺖ ﺑﻤﻮاﻓﻘﺔ ﻓﻠﺴﻄﻴﻨﻴﺔ، وفي ﺧﻀﻢ ﺗﻬﻠﻴﻞ كبير ﻻﻋﺘﺒﺎرﻫا إنجازا عظيما.

حول "هلكة" أوسلو بمرور ربع قرن على توقيعها وآثارها على القضية الفلسطينية وسبل الخروج من المأزق كان هذا الحوار مع د. علي الجرباوي، أستاذ العلوم السياسية والدراسات الدولية في جامعة بير زيت.

عرب 48: بنظرة إلى الوراء، هل يمكن اعتبار اتفاقيات أوسلو "خطأ تاريخي" ارتكبته القيادة الفلسطينية؟

الجرباوي: بالتأكيد، أوسلو "خطأ تاريخي" وقد ولد منذ البداية وهو يحمل بذور مشكلاته التي ظهرت لاحقا، وهي مشكلات تم التحذير منها مبكرا من قبل العديد من منتقديه، إلا أنه لم يلق آذانا صاغية.

الاتفاق كان جيدا للقيادة الفلسطينية، ولم يكن جيدا للقضية الفلسطينية، القيادة كانت محاصرة في الخارج، وتمكنت من العودة إلى البلد، ولأجل أن يتم ذلك أودى بالنقاط الأساسية التي كان يقوم عليها المشروع الوطني الفلسطيني، ونحن نرى الآن نتائج ذلك على الأرض.

ولو كان الاتفاق جيدا لرأينا نتائج جيدة، وما فائدة أن يعترف الآن، في لحظة حقيقة، بعض الذي شاركوا في العملية بوقوع أخطاء، بعد أن سببت تلك الأخطاء أضرارا جسيمة غير قابلة للإصلاح في المشروع الوطني الفلسطيني.

عرب 48: ما هو الخطأ أو الخلل الأساسي في أوسلو؟

الجرباوي: هناك الكثير من الأخطاء، ولكن السؤال الأساسي هو كيف يمكن الاعتراف بإسرائيل والالتزام بالحفاظ على أمنها مقابل الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني فقط، وتنحية القضايا الأساسية الجوهرية، ونقلها إلى المرحلة النهائية بعد الموافقة على مرحلة انتقالية من خمس سنوات، دون أي ضمان لحل القضايا الأساسية بعد انتهاء تلك المرحلة.

عرب 48: هناك من يعتقد أن "اغتيال رابين" وما أعقبه من تحول سياسي في إسرائيل، أو انقلاب على أوسلو هو الذي قلب المعادلات؟

الجرباوي: مقتل رابين وصعود الليكود تلك احتمالات مفتوحة، ومن الواضح أنه في موضوع مصيري لا نستطيع أن نضمن الظروف، ولكن كان يجب أن نأخذ بالاعتبار أسوأ الظروف. وبرأيي فقد كانت أمام القيادة فرص كثيرة للتراجع وإصلاح الخلل، لأن الحديث يدور عن مجموعة اتفاقات بدأت باتفاق المبادئ الذي وقع في أوسلو، ثم تلته الاتفاقية المرحلية التي قسمت الضفة إلى مناطق ووقعت في القاهرة، وهكذا، إلا أن القيادة لم تكن جاهزة لسماع الانتقادات.

والأنكى من ذلك أنه عند انتهاء المرحلة الانتقالية بعد خمس سنوات مددت الفترة تلقائيا، وأصبحت مفتوحة زمنيا، بسبب غياب الحزم الفلسطيني، بمعنى تخيير إسرائيل بين التطبيق وبين الانسحاب من الاتفاق وإلغائه. ومن الجدير التنويه أن هذا الخطأ أو مجموعة الأخطاء الجسيمة التي أدت إلى نتائج كارثية لم يحاسب عليها أحد.

عرب 48: أنت تقول إن الفلسطينيين أنجزوا اتفاقا سيئا كان سيقود بالضرورة إلى ما وصلنا إليه، ولكن هناك أمورا غير مرتبطة بالاتفاق السيئ، مثل الانقسام وتهميش منظمة التحرير والديمقراطية والانتخابات وغيرها؟

الجرباوي: هناك قضايا مرتبطة بالأداء السيئ أيضا، فإذا كان المدافعون عن أوسلو يدعون أنه فتح إمكانيات، فالحقيقة أنه لم يتم استغلال تلك الإمكانيات، ومع كل مساوئ أوسلو فإن ما أوصلنا إلى نظام سياسي متكلس وحالة التفتت المجتمعي والانقسام بين الضفة وغزة هو الأداء السياسي السيئ.

وبدون شك فإن حاصل جمع الاتفاق السيئ والأداء السيئ هو ما أوصلنا إلى حالة من التراجع، ربما لم نشهد شبيها لها منذ النكبة، حيث تتعرض كافة مكتسبات الشعب الفلسطيني التي أنجزها على مدى نصف قرن من النضال، والمتمثلة بالكينونة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية ووحدانية التمثيل ووحدة الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات، تتعرض جميعها للخطر.

عرب 48: هو "مأزق" أو ورطة باللغة الدارجة، أو "هلكة" كما سميتها أنت، ولكن هل من مهرب للخروج منها؟

الجرباوي: هي ورطة ورطنا فيها الإسرائيليون ونحن بلعنا الطعم، أو "شوكة في الحلق" بتعبير محمود درويش، فنحن في وضع استمراره سيئ والخلاص منه غير مقدور عليه، فما بقي من أوسلو هو السلطة، ولا يمكن اجراء قطيعة مع أوسلو دون حل السلطة. وقد كنت من الداعين إلى حلها، ولكن هناك أيضا واقع الاعتمادية على السلطة في الاقتصاد الفلسطيني والدور الوظيفي الذي باتت تلعبه في هذا المجال بعد 25 عاما من تشكيلها، والحديث لا يدور عن الجهاز الوظيفي الكبير بل عن قطاع اقتصادي واسع بات وجوده يرتبط بوجودها، وربما لهذا السبب نجد، كما تشير استطلاعات الرأي، غالبية في الشارع الفلسطيني لا تؤيد حلها.

عرب 48: أنت تقول إنه لا يمكن إحداث قطيعة تامة مع أوسلو دون حل السلطة، التي يصعب حلها، فماذا تقترح إذا؟

الجرباوي: هناك واحد من مسارين: الأول هو القطيعة التامة مع أوسلو وتحمل التبعات، وهذا يتطلب حل السلطة، لأنه من غير الممكن القطع التام مع أوسلو دون حل السلطة، لأن السلطة هي العنوان الرسمي العلني للفلسطينيين تحت الاحتلال؛

والثاني هو القبول باستمرارية وجود السلطة مع ما تمثله من بقايا أوسلو، ولكن ضمن منظور أن الصراع مع إسرائيل هو صراع مفتوح، وهو منظور يتطلب القيام بثلاثة أمور أساسية: أولها، تمتين الوضع الداخلي للفلسطينيين أجل تمكين بقاء الناس على أرضها، ويدخل ضمنه إنهاء الانقسام وتفعيل السلطة وأدوارها ومشاريعها وإعادة إحياء النظام السياسي الفلسطيني، وإجراء انتخابات وأمور كثيرة أخرى مرافقة؛

وثانيها يتمثل بمراكمة الأصدقاء وتقليل الأعداء من خلال تفعيل وتعزيز النشاط الدبلوماسي المفتوح على الصعيد الدولي، وتجاوز المرحلة التي كانت فيها أميركا تملي علينا شرط هذا التحرك، والانطلاق بحرية أكبر نحو المؤسسات والمحافل الدولية، من خلال تحريك آلة الدبلوماسية الفلسطينية المعطلة؛

وثالثهما دعم حركة المقاطعة العالمية لإسرائيل بفاعلية، وبدون تردد، وعدم التمييز بين الاحتلال وبين دولته، وبين المستوطنات وبين دولة المستوطنات، بين منتوجات المستوطنات وبين منتوجات إسرائيل الأخرى، يجب شن حملة دولية شاملة لمقاطعة إسرائيل.

عرب 48: بعدما أسقطت إسرائيل حل الدولتين، ما هو التصور الفلسطيني المفترض للحل برأيك؟

الجرباوي: المفروض أن موضوع حل الدولتين قد انتهى، وكل من يتجول في الضفة الغربية ويشاهد الانتشار الاستيطاني الإسرائيلي يستنتج انتهاء حل الدولتين، على الأقل وفق التصور الفلسطيني وبحدود الـ 67، أما بمفهوم إسرائيل فإنها قد تعطينا غزة وتسميها دولة فلسطينية، ولكن وفق القرارات الدولية هذا الموضوع انتهى.

والحال كذلك، فإن التصور الفلسطيني يجب أن يستند إلى أننا في صراع تاريخي طويل ومفتوح مع هذا الكيان الإسرائيلي، 6 ملايين فلسطيني على الأرض بين البحر والنهر، وهو صراع قد ينتهي إلى دولة واحدة لكل مواطنيها، أو ثنائية القومية أو غير ذلك.

عرب 48: إسرائيل ذاهبة باتجاه دولة واحدة، ولكن بصيغة دولة "أرض إسرائيل الكاملة"؟

الجرباوي: "إسرائيل الكاملة" ستكون من طابقين، فيها طابق أرضي يسكنه الفلسطينيون الموجودون في كل بقعة من بقاع فلسطين.

وإذا نظرنا إلى هذا الصراع بنظرة سياسية، وأنا أستاذ علوم سياسية، نكون مخطئين لأن النظرة السياسية تريد حلولا سريعة، أما النظرة التاريخية فإنها تحمل مدى أوسع، وأنا بقدر تشاؤمي السياسي متفائل تاريخيا لأنه خلال صراع قرن كامل مع الحركة الصهيونية وإسرائيل، دعمت الصهيونية خلال نصفه الأول من قبل أكبر امبراطورية في العالم، ودعمت إسرائيل خلال نصفه الثاني من قبل أعظم دولة في العالم، وكانت المقولة الأساسية "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، لا نجد بقعة واحدة في فلسطين من البحر إلى النهر تخلو من فلسطيني.


د. علي الجرباوي: أستاذ العلوم السياسية والدراسات الدولية في جامعة بير زيت