مرة اثنتان ثلاث... وست مرات، هكذا يحصي الحاج السبعيني هايل بشارات عمليات الهدم التي نفذها جنود الاحتلال الإسرائيلي بحقه في منطقة حمصة التحتا في الأغوار الفلسطينية، ثم يتبعها بذكر تاريخ كل حدث بعينه ووصف دقيق لما جرى.

بكامل عنفوانه يقف الحاج هايل ليسرد اعتداءات الاحتلال الإسرائيلي وهدمه لمسكنه وحظائر ماشيته، بدءًا من العام 1996 وحتى الآن، فآخر إنذارات الهدم لم يمض عليها أسبوعين، وتميزت بأنها تطال كل شيء يملكه.

هذه الحرب التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على الأغوار الفلسطينية من شمالها لجنوبها، لم تتوقف للحظة واحدة، بل وتنوعت أشكالها بين هدم وتهجير ومصادرة للأرض عنوة وبحجج كثيرة وتحت غطاء رسمي، واستهدفت المواطن هايل كما غيره من آلاف السكان في هذه المنطقة.

تهجير بمعنى الكلمة

لكن نار هذه الحرب تكوي الحاج هايل بشارات هذه المرة أكثر من سابقاتها، فالهدم هذه المرة يعني التهجير من المكان وعدم التواجد فيه بحجة أنها "مناطق أثرية"، ولهذا عليه إخلاء سكن معيشته المبني من الصفيح والبلاستيك وحظائر الماشية وحتى الغرفة التي بنيت قبل قدوم الاحتلال عام 1967، "فالهدم سيطال الشجر والحجر والإنسان والحيوان".

لم يهدأ الرجل وهو يتحدث لموقع "عرب 48" عن مصيبته حتى اصطحبنا لأرضه المجاورة وأخذ يلوح بيديه نحو الأماكن والأشياء المهددة بالهدم، كبئر المياه وأجران عسل النحل ومئات أشجار الزيتون.

في خيمة الحاج هايل تعيش زوجته واثنتان من بناته، وهن من ذوات الاحتياجات الخاصة، وإلى جانبه يقطن محمود، أحد أولاده، في غرفة بنيت قبل أكثر من سبعين عامًا، مع زوجته وثلاث بنات يواجهن معاناة كبيرة بانتقالهن للمدرسة في قرية فروش بيت دجن القريبة.

تصوير عاطف دغلس- "عرب 48"

في الجهة المقابلة لمسكن هايل، تجثم مستوطنة إسرائيلية يقابلها حاجز الحمرا العسكري بينما يعلو معسكر للجيش جبلا خلف مسكنه.

وكل ذلك يجعل منهم، وحسب محمود بشارات، نجل الحاج هايل، عرضة للهدم بأية لحظة، وهم بالفعل باتوا ينتظرون هذا الحدث المشؤوم رغم تقدمهم بطلبات اعتراض لدى المحكمة الإسرائيلية لمنع الهدم.

وبلهجة الاستنكار كان بشارات الابن يروي لـ"عرب 48" أن الاحتلال هدم لهم ست مرات واقتحم مساكنهم مرات عديدة وأخرجهم منها بحجة التدريب العسكري وحاول وتحت حجج كثيرة اقتلاعهم من المكان، "وعندما لم يفلح ادعى أنها منطقة أثرية، وأنا هنا أتساءل كيف تكون أثرية ويجري الاحتلال عليها كل هذه التدريبات العسكرية".

لا أغوار للفلسطينيين

وتشكل الأغوار حدود الفلسطينيين الشرقية وتقدر بثلث أراضي الضفة الغربية، لكن إسرائيل تسيطر فعليا على 88% من مساحتها عبر إقامتها منذ احتلال المنطقة عام 1967 وحتى العام 2019، أكثر من 33 مستوطنة غالبيتها زراعية و18 بؤرة استيطانية، مهجرة بذلك أكثر من خمسين ألف مواطن وفق بيانات هيئة الجدار والاستيطان الفلسطينية.

تصوير عاطف دغلس- "عرب 48"

وتقدر مساحة الأغوار الفلسطينية الممتدة، حسب المركز الوطني الفلسطيني للمعلومات، بين النقب جنوبًا وصفد شمالا، بأكثر من 720 ألف دونم، وتسيطر إسرائيل على أكثر من 400 ألف دونم منها لأغراض عسكرية، بحيث تقيم أكثر من تسعين منشأة عسكرية فيها.

ويقول وزير هيئة شؤون الجدار والاستيطان في السلطة الفلسطينية، وليد عساف، إن إسرائيل تسيطر على 82% من المساحة الكلية للأغوار عبر تحويلها لمناطق عسكرية، وأخرى محميات طبيعية، وثالثة عبر أراضي دولة، ورابعة تصنف بأنها مناطق تدريب عسكري.

وتقاسمت الأحزاب الإسرائيلية، بحسب عساف، ومنذ العام 1967، ووفق خطة وزير الزراعة الإسرائيلي آنذاك إيغال ألون، الأدوار لتهويد الأغوار التي تعد سلة غذاء الفلسطينيين.

ويقول عساف لـ"عرب 48" إنهم يريدون تفريغ الأغوار من الفلسطينيين ليهودوا الحدود الشرقية مع الأردن، وهي حدود أمنية وتشكل 28.5% من أراضي الضفة الغربية.

وتهويد الأغوار يعني خسارة 170 مليون متر مكعب من أهم حوض مياه فلسطيني (حوض المياه الشرقي) و246 مليون متر مكعب من مياه نهر الأردن، وأكثر من ثلاثين كيلومترًا من البحر الميت، ووضع اليد على ثاني أهم سهل فلسطيني بعد السهل الساحلي وسهل مرج ابن عامر ثالثهما.

عسكرة الأرض

وتقدر مساحة الأراضي الزراعية في الأغوار 280 ألف دونم، أي ما نسبته 38.8% من المساحة الكلية للأغوار، ويستغل الفلسطينيون منها 50 ألف دونم، في حين يسيطر المستوطنون على 27 ألف دونم زراعي.

ويسكن في الأغوار الفلسطينية أكثر من خمسين ألف مواطن في عشرات القرى والتجمعات بينها أكثر من ثلاثين تجمعا في الأغوار الشمالية.

تصوير عاطف دغلس- "عرب 48"

ويحاصر الأغوار الشمالية - حيث يقطن الحاج هايل بشارات - سبع معسكرات لجيش الاحتلال وأكثر من عشر مستوطنات وبؤر استيطانية وحاجزين عسكريين تواصل على الدوام تنغيص حياة المواطنين هناك وتلاحقهم بمنع زراعاتهم وقتل مواشيهم ومصادرة آلياتهم الزراعية وهدم منشآتهم، حيث هدمت خلال السنوات الخمس الماضية ما لا يقل عن 500 منشأة (خيم سكن وبركسات وحظائر مواشي وغير ذلك)، في حين أصدرت سلطات الاحتلال 426 إخطارًا بالهدم ووقف العمل.

وتقترح "صفقة القرن" مؤخرا إقامة دولة فلسطينية بلا سيادة على مساحة 70% من الضفة الغربية، كما تسمح لإسرائيل بضم ما بين 30 و40% من أراضي المنطقة "ج" التي تشكل 62% من مساحة الضفة الغربية.

ورغم وعودات السلطة الفلسطينية بمختلف مؤسساتها بمساعدة الأغوار وأهلها بما يوقف "التغول" الإسرائيلي عليها، إلا أن الأهالي مقتنعون أنه لا سلطة فلسطينيًا على الأغوار وبالتالي لا قدرة للسلطة على دعمها كما هو مطلوب.

تصوير عاطف دغلس- "عرب 48"

وعلى الدوام تطارد الهواجس عائلة الحاج هايل بشارات لا سيما خشيته من اقتحام منزله بأي لحظة والمباشرة بهدمه، لهذا أعد نفسه ونجله محمود وأحفادهم في حالة تأهب وجمعوا أثاثهم ومقتنياتهم المنزلية لأي طارئ.

اقرأ/ي أيضًا | الأمم المتحدة: مشروع "إي 1" الاستيطاني سيقوض إقامة دولة فلسطينية