في 8 نيسان/ أبريل عام 1948، وتزامنًا مع أحداث "نكبة" فلسطين، هاجمت العصابات الصهيونية الإرهابية قرية "دير ياسين" غربي القدس، وقتلوا غالبية أهلها، ووضعوا من بقي منهم على قيد الحياة من أطفال ونساء في عربات، وألقوا بهم في حي "المصرارة" في قلب القدس، وعلى جنبات طريقها.

أخذ الناجون من الموت يركضون مذعورين في زقاق القدس، وفي ذات اليوم، كانت السيدة المقدسية هند الحسيني، تمر بزقاق البلدة القديمة على عجلة من أمرها، لتلحق باجتماع جماهيري يبحث أوضاع المدينة.

التقت الحسيني بالأطفال المذعورين، لتكون تلك الحادثة مفصلًا في حياتها وحياة هؤلاء الأطفال، وذلك بحسب ما روته ماهرة الدجاني، في كتيب لها، روت فيه السيرة الذاتية للحسيني.

ووفقًا للسيرة الذاتية للحسيني، فقد روت السيدة المقدسية في إحدى جلساتها أنها فوجئت بالأطفال المذعورين، وقررت مغادرة الاجتماع للنظر في أمرهم، وسرعان ما توجهت إلى غرفتين في "سوق الحصر"، كانتا تحت تصرفها، وأسكنت بهما الأطفال وقدمت لهم المشرب والمأكل.

عن تلك الأيام قالت: "لم يكن في ذلك الحين من الفراش والغطاء ما يكفي لخمسين طفلا، فناموا على الحصر، ولم يكن في جعبتي حينها سوى 138 جنيها فلسطينيا! (عملة أصدرتها سلطات الانتداب البريطاني)".

وأضافت: "آليت على نفسي أن أعيش بهم والأطفال، أو أموت معهم، إذ تصورت وكأن الشعب الفلسطيني سوف يمحى وينقرض، لو مات الأطفال!! وكيف يمحى شعبنا العظيم!؟ لا وألف لا!".

وساهمت الحسيني بإنشاء جمعية الاتحاد العربي النسائي في القدس، والتي تأسست عام 1928، لتسجل اسمها في مقدمة السيدات المقدسيَّات، اللواتي كرّسن حياتهنَّ لخدمة شعبهن ورعاية الأيتام والفقراء وأبناء من قتلوا خلال "النكبة".

وانتشرت فروع الجمعية في أرجاء القدس، ووصل عددها 22 فرعًا، استطاعت من خلالها تفحص أحوال الأطفال المهملين في بعض المدن والقرى الفلسطينية، ونظمت حملات لمحو الأمية وتعليم المهارات.

لكن ومع حلول "النكبة"، قررت السيدة المقدسية أن تكرس وقتها وجهدها لمن تهجر منهم إلى مدينة القدس.

وعند انتشار خبر مذبحة دير ياسين، وتدفق اللاجئون من مختلف القرى والمدن إلى القدس، خوفا مما سيلحق بهم، ظهرت الحاجة الملحّة لإنشاء مؤسسة جديدة تستوعب الأطفال المشردين واليتامى، فقررت السيدة هند أن تستخدم بيت العائلة الكائن في حي الشيخ جراح في القدس ليكون "مؤسسة دار الطفل العربي" في عام 1948.

وارتفع عدد النزلاء في الدار إلى 125 طفلًا لاجئًا من شتى القرى المهجرة، واحتضنتهم دار الطفل العربي كبيت العائلة الكبير، وعندما انتظمت المدارس، وزّعت الحسيني الأطفال الذين جمعتهم على الصفوف المناسبة لسنهم لتلقي العلم.

ووجدت أن الأنسب لهم فتح صفوف دراسية في حرم المنزل الذي يقيمون فيه، فاستخدمت المرآب ومأوى الخيول، ومبيت سكن ساسة الخيول كصفوف مؤقتة، ليكون هؤلاء الأطفال تحت إشرافها مباشرة.

وتروي مديرة مؤسسة دار الطفل العربي، السيدة ماهرة الدجاني، في كتاب يسرد سيرة هند الحسيني الذاتية "لقد أطلقت السيدة هند على قاعات وغرف مباني تلك الدار أسماء فلسطين، ومدن وقرى سقطت في أيدي الصهاينة بعد النكبة، حتى لا تنسى أي من النزيلات ما حل بوطننا".

وطرقت السيدة هند الحسيني أبواب العديد من الدول والمؤسسات العربية والأجنبية لتجمع التبرعات ونذرت نفسها لخدمة مجتمعها.

كما أولت السيدة هند عناية خاصة في تزويد الطالبات بما يحتجن إليه من كافة الجوانب التعليمية والثقافية والمهنية، بهدف إكساب فتيات الدار مهنا تعينهن على ظُروف الدهر، مثل الخياطة والتطريز والطباعة والتصوير والطهي، بحسب الدجاني.

إحدى خريجات "دار الطفل" وتلميذة السيدة الحسني، سهاد عياّد (62 عامًا) قالت، إنها تعلمت في المؤسسة أصول "الطبخ وكيفية الخياطة وطريقة التطريز".

وأضافت عيّاد أن "أكثر ما تعلمناه هنا هو حب المشاركة والتطوع، والانتظام في الوقت، ناهيك عن الوطنية وحب القدس وفلسطين التي تعلمناها من السيدة هند".

ومع مرور السنوات، أصبحت المؤسسة معلمًا من معالم القدس، وضمت مدرسة تعليمية داخلية منتظمة، لم تقتصر بطلابها على أيتام "النكبة"، بل أخذت تضم في غرفها وصفوفها طالبات مقدسيات اعتبرن السيدة هند نموذجًا فريدًا للمربية والمعلمة والأم المخلصة.

وتقول الستينية حنان الهْيدَمي، إحدى طالبات "دار الطفل" قديمًا، عن الحسيني: "كانت أمًا للجميع، لم تكن فقط تحتضن أبناء الشهداء والمهجرين، بل احتضنت كل أطفال القدس، علمتنا أصول الحياة والعادات والتقاليد، كما علمتنا الاعتماد على أنفسنا، ولن أنسى فضلها مدى الحياة".

وتوفيت السيدة هند الحسيني في عام 1994 إثر مرض عضال.

وتقول المقدسية دلال حمودة، وهي طالبة من طالبات الحسيني: "لقد أحزننا فراقها كثيرا، عندما توفت وكأن القدس بأسرها تيتمت، وفاتها سبب فراغ في قلوبنا جميعًا"

وتدرجت الدار حتى أصبحت حيًّا تعليميا، يضم حضانة وروضة ومدرسة ابتدائية وثانوية، وتعد الآن من أبرز المدارس الثانوية في القدس، خصص مبنى منها كنُزُل داخلي، ومبنى آخر ليكون متحفا يضم المقتنيات الأثرية، وكلية حملت اسم السيدة هند الحسيني، والتي انضمت بعد ذلك لكليات جامعة القدس.