د. عادل مناع

* بين الحاج أمين الحسيني ومحمود عباس سلسلة أخطاء تاريخية تدلل على غياب قيادة وطنية

* الإيغال في السلمية حول السلطة الفلسطينية إلى وكيل لدى الاحتلال

* الشعب الفلسطيني خسر في الحالتين، الرفض المطلق والقبول المطلق


"صفقة القرن" كما قد يوحي اسمها، هي خراج صراع مئة سنة أو أكثر بين الفلسطينيين والعرب والحركة الصهيونية وإسرائيل على هذه الأرض، وهي محطة شبيهة بمحطات سابقة تجعلنا نعتقد بأحد أمرين؛ إما أن التاريخ يتكرر بنكباته ونكساته، وإما أننا نمارس بانكساراتنا وإخفاقاتنا الركض الموضعي.

يحاول المؤرخ د.عادل مناع في قراءة تاريخية لـ"صفقة القرن" مد خيط غليظ، بتعبيره، بين وعد بلفور وبين خطة ترامب والسياسات والأيديولوجيات التي وقفت وتقف من خلفها، وبين القيادة الفلسطينية السابقة على النكبة والقيادة الفلسطينية المعاصرة، وتشخيص دور العامل الذاتي في ما وصلت إليه القضية الفلسطينية:

عرب 48: لنبدأ بالسياسات والأيديولوجيات؛ كما هو معروف، فإن الولايات المتحدة الأميركية هي الوريث "الشرعي" للاستعمار القديم الذي تزعمته بريطانيا، وهي تستكمل اليوم، كما يعتقد كثيرون، من خلال خطة ترامب وعد بلفور الذي وضع الأساس للمشروع الصهيوني الكولونيالي على أرض فلسطين، ولكنك تشير أيضًا إلى أثر العامل الديني المسياني الذي وقف وراء خطة ترامب، والذي أثر على وعد بلفور في حينه أيضًا؟

مناع: أعتقد فعلا لكي نستطيع تكوين فهم تاريخي لـ"صفقة القرن"، يجب أن نعود إلى مئة سنة أو أكثر إلى الوراء، لأن البداية الحقيقية للنكبة الفلسطينية كانت مع بدايات الحرب العالمية الأولى، ومن دون الخوض بالكثير من التفصيل، بوقوف العرب مع بريطانيا وفرنسا ضد الدولة العثمانية من أجل التحرر، معتمدين على وعود مبهمة من ناحية فعلية من بريطانيا للشريف حسين وأولاده، بإقامة مملكة عربية في المشرق العربي دون تحديد حدودها بدل الحكم العثماني.

جاءت بعدها اتفاقية سايكس بيكو مناقضة لهذه الوعود، وتوجت بوعد بلفور المُنافي لها بشكل كامل في فلسطين. هذا كله حدث في ظل عالم يحكمه الاستعمار؛ كانت بريطانيا الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، وكانت تحكم ربع الكرة الأرضية في تلك الفترة، وقامت هي وفرنسا بتقسيم الوطن العربي وفق مصالحهما الاستعمارية.

د. عادل مناع

والأهم من ذلك بالنسبة لنا كفلسطينيين، أنها أعطت للحركة الصهيونية التي اعتبرت نفسها حركة قومية لتخليص اليهود من اللاسامية ومن الاضطهاد والمعاناة في أوروبا، وهي كذلك في جانب معين وليس بالضرورة أن نرفض هذا الشيء، أعطتها وعدًا بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وذلك بالرغم من أن هذه الحركة التي تسمي نفسها حركة تحرر قومي، لم يكن جماهيرها اليهود في فلسطين بأغلبيتهم الساحقة، وإنما كانوا في أوروبا، ولذلك لم يكن صدفة أنها نشأت وتطورت في أوروبا.

الحركة الصهيونية استخدمت أدوات ونهج وأساليب الاستعمار الاستيطاني الكولونيالي أو الاستعماري ذاتها، الذي كان سائدًا منذ القرن السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر في مناطق مختلفة من العالم، التي اكتشفتها أوروبا من كولومبوس وما بعد.

والاستعمار الاستيطاني بعكس الاستعمار الذي يهدف إلى استغلال ثروات البلد التي يسيطر عليها، ومن ثم يرجع إلى موطنه في النهاية وتتحرر الدول التي كان يستعمرها من نيره، فإن الاستيطان الكولونيالي أو الاستعماري يقوم على إحلال المستوطنين الأوروبيين محل سكان البلاد الأصليين.

هذا ما حدث في أميركا الجنوبية والشمالية وأستراليا ونيوزلندا وغيرها، والتي جرى القضاء فيها بصورة فعلية على السكان الأصليين. قضي عليهم نهائيًا بالحرب والموت والأمراض وغيرها، وصار المهاجرون البيض الأوروبيون هم المسيطرون من ناحية فعلية على هذه الدول.

في فلسطين، استخدمت الحركة الصهيونية ذات الاستيطان الكولونيالي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وفي مرحلة لم يعد من الممكن فيها اكتشاف أماكن جديدة والقول إن سكانها الأصليين من دون حقوق، مثلما كانوا يفعلون في القرن السادس عشر والسابع عشر، وربما إحدى "مصائب" الحركة الصهيونية أنها جاءت متأخرة.

عرب 48: هي استخدمت "أساليب قديمة" في عالم جديد، ولذلك لم تستطع ممارسة الإبادة الشاملة ضد الشعب الفلسطيني، بل لجأت إلى سياسة التهجير والتطهير العرقي، وحظيت بدعم كامل من الدول الاستعمارية الأوروبية؟

مناع: الحركة الصهيونية ما كانت لتنجح في مشروعها الكولونيالي من دون دعم واحتضان من دولة استعمارية أوروبية، لأن الدولة العثمانية مع كل مساوئها دافعت عن حقوق السكان في بلدهم، ورفضت بأن تجعل الصهيونية من فلسطين دولة لليهود، رغم كل محاولات هرتسل.

وقد تسنى ذلك عندما التقت المصالح البريطانية والصهيونية في الحرب العالمية الأولى، وهنا أريد أن أركز على نقطة إضافية وأمد خيطًا غليظًا، إن صح التعبير، بين الأيديولوجيا التي دفعت بريطانيا إلى إصدار وعد بلفور، وبين الأيديولوجيا التي أدت بترامب أو من هم حول ترامب، بأن يصدروا "صفقة القرن".

إنها الأيديولوجيا الدينية المسيانية نفسها التي كانت بالنسبة لبريطانيا في الكنيسة الإنجليكانية (أو الإنجليكية)، وهي أيديولوجيا بدأت منذ منتصف القرن التاسع عشر، أي قبل نشوء الحركة الصهيونية، فعندما كان يأتون البريطانيون إلى فلسطين لزيارة الأماكن المقدسة، كانوا يحكون أن هذه بلاد التوراة.

تلك الفئة المسيانية التي تؤمن بالعهد القديم، تعتقد أن اليهود سيرجعون إلى فلسطين حسب التوراة مرة أخرى. هذه الأسطورة بدأت قبل الصهيونية من الكنيسة الإنجليكانية، وهذه المرة عندما يرجعون إلى فلسطين يأتي المسيح المنتظر ويؤمن به اليهود ويتنصرون.

وبعكس الديانة اليهودية التي تؤمن بأن المسيح هو من سيعيد اليهود إلى فلسطين، فإن الكنيسة الإنجليكانية كانت تؤمن أنه يجب تشجيع اليهود على الهجرة إلى فلسطين، لأن ذلك سيسرع من عودة المسيح المنتظر.

هذه القناعات بدأت تتبلور منذ منتصف القرن التاسع عشر، وهناك مدرسة اسمها المدرسة الإنجليكانية بدأت منذ عام 1885 في القدس، وهدفها تشجيع اليهود على الهجرة إلى فلسطين والقدس بشكل خاص، وتربط تلك الرؤية الدينية مجيء المسيح الذي سيحمل الخلاص للعالم بوجود أكبر عدد من اليهود في فلسطين، ليأتي ويقنعهم أنه ابن الله ويؤمنوا به بعكس ما حدث مع المسيح الأول.

وبلفور نفسه صاحب الوعد المشؤوم ومجموعة من حوله في الحكومة البريطانية آنذاك، كانوا ينتمون إلى تلك الجماعة، والعلاقة التي كانت تربط بين القيادي الصهيوني حاييم وايزمان وهؤلاء والحكومة البريطانية، أعمق بكثير من أن الرجل اكتشف شيئا يساعد بريطانيا.

وبالطبع، فإن تحويل وعد بلفور إلى جزء من صك الانتداب الذي صادقت عليه عصبة الأمم، جعل مسؤولية إقامة وطن قومي لليهود مسؤولية دولية، بعد أن كانت مسؤولية بريطانية فقط.

واليوم أتباع للكنائس الإنجيلية في الولايات المتحدة، والتي هي استمرار للإنجليكانية البريطانية، هم مادة العقيدة الدينية المسيانية المتحالفة مع الصهيونية وإسرائيل، والتي قد يكره أتباعها اليهود ولكنهم يؤمنون بدعمهم للسيطرة على فلسطين كاملة، عندها سيأتي المسيح وينصرهم ويخلص العالم، حسب ما يعتقدون.

الرؤية الدينية المسيانية تلك لا تقل أهمية عن المصالح الاستعمارية التي حركت بريطانيا في حينه، وتحرك الولايات المتحدة اليوم. ومن دون شك، فإن وعد بلفور و"صفقة القرن" يجمعان طرفي المعادلة، ومثلما شكل الإنجليكانيون عاملا مهمًا في صياغة وعد بلفور، يشكل الإنجيليون اليوم عاملا مهمًا في صياغة "صفقة القرن" وأساسًا أيديولوجيًا مشتركًا للرؤوس التي صاغت "صفقة القرن".

طبعًا هذا التحليل للأسباب العميقة، ولا يلغي الأسباب المباشرة والمتعلقة بتورط ترامب ونتنياهو كل في مشاكله الداخلية، وبحاجتهما لما يساعدهما في الانتخابات المقبلة.

عرب 48: أشرت إلى خيط تاريخي غليظ آخر يربط ما بين القيادة الفلسطينية قبل 1948 والقيادة الفلسطينية المعاصرة، وبالأخطاء التي تكرر نفسها وتكلف الشعب ثمنًا كبيرًا؟

مناع: دائمًا نتخذ كفلسطينيين دور الضحايا ونبرئ أنفسنا ونرفع عنها عناء النقد الذاتي، وإذا ما قرأنا لقادة فلسطينيين كتبوا منذ بداية القرن العشرين، منهم على سبيل المثال موسى كاظم الحسيني، وهو والد الشهيد عبد القادر الحسيني وجد فيصل الحسيني، والذي كان في حينه زعيم الحركة الوطنية الفلسطينية، نرى أنهم كانوا مدركين وبشكل مبكر لأهداف الحركة الصهيونية في السيطرة على فلسطين وتحويلها إلى دولة يهودية، ما يعني إحلال اليهود محل الفلسطينيين بعد طردهم.

هؤلاء كانوا يعرفون ما حصل مع شعوب أخرى جاء إليها مستوطنون في أميركا وأستراليا ونيوزلندا، ولذلك عارضوا المشروع الصهيوني، وهذه المعارضة كانت تحظى بإجماع فلسطيني، رغم من تعاملوا من فوق الطاولة وتحتها مع الحركة الصهيونية وبريطانيا.

والسؤال هو ماذا فعلت تلك القيادات، وأين دورها في منع تنفيذ هذا المخطط؟ إذ لا يكفي بأن تخطط الحركة الصهيونية وبريطانيا للسيطرة على فلسطين لكي يتسنى لهما ذلك، فالفلسطينيين كانوا يشكلون 90% من سكان فلسطين عند صدور وعد بلفور.

عرب 48: طبعًا هناك أخطاء متشابهة؟

مناع: هناك أخطاء تاريخية ما زالت تتكرر حتى يومنا هذا، من قيادة الحاج أمين الحسيني والشارع في فترة الانتداب البريطاني وحتى قيادة محمود عباس (أبو مازن). والبارز في هذه الأخطاء أن قيادتنا لا تعتمد على شعبها ولا تجند شعبها بشكل يومي ودائم، لكي يقف هذا الشعب خلفها وقت الامتحان.

لاحظ اليوم قول أبو مازن إن الصفقة لن تمر، فيما لا نجد تحركًا جماهيريًا بمستوى الحدث، لأنه على مدار 20 عاما، كان يقول ممنوع أن تتظاهروا وممنوع أن تحاربوا وممنوع... وممنوع... ويقوم بتنسيق أمني وغير أمني مع إسرائيل، واتبع طريقة المساومة والاعتماد على أن أميركا وإسرائيل سيعطونه دولة، واليوم عندما فشل هذا الخيار، تأتي وتقول تظاهروا!

الحاج أمين الحسيني

هكذا أيضًا الحاج أمين الحسيني، رغم أنه لم يكن من نوعية القيادات الحالية نفسها، إن كانت في رام الله أو في غزة. هو كان قيادة مختلفة تمامًا، فقد كان طبقيًا، لا يؤمن بأنه يتوجب تجنيد الشعب الفلسطيني للحركة الوطنية، فالشعب كان مغيبًا عن الحركة الوطنية الفلسطينية حتى ثورة 1936، عندما ثار الشعب من القاعدة وفرض على الحاج أمين وعلى اللجنة العربية العليا الاختيار بين شعبها الذي ثار على بريطانيا، وبين أن تبقى تتعاون مع بريطانيا لأجل مصالحها، وهذا ما فعله الحاج أمين الحسيني عندما أصبح "مفتي" في القدس سنة 1921 وحتى سنة 1936.

لقد تعاون مع بريطانيا بشكل كامل وهادنها والصهيونية، لكي يحافظ على مركزه كمفتي ورئيس للمجلس الإسلامي الأعلى، وهي حالة شبيهة بتعاون ومهادنة القيادة الفلسطينية لإسرائيل وأميركا حفاظًا على امتيازاتها، إذا ما استثنينا حقبة منظمة التحرير الفلسطينية.

وعندما تصل القيادة إلى طريق مسدود تستعين بشعبها، ولكن هل الشعب له ثقة بمثل هذه القيادة؟

عرب 48: ولكن تاريخيًا نعرف أن القيادات العربية هي التي تعاونت مع بريطانيا في إجهاض ثورة 1936؟

مناع: أنا أخالف ما نعرفه نحن كفلسطينيين بأن الأنظمة العربية هي فقط العميلة والرجعية والمتعاونة مع الاستعمار، وهذا صحيح، ولكن إذا كان أهل البيت لا يهبون للدفاع عن بيتهم، فلماذا يقوم الجيران بالقفز لإطفاء النيران المشتعلة فيه؟

وللحقيقة يجب أن نسجل أن الحاج أمين الحسيني الذي بدأ حياته في ثورة الـ20 (مظاهرات النبي موسى)، هو نفسه بعد سنة واحدة عندما اقترح عليه المندوب السامي، هربرت صموئيل، تعيينه "مفتي" خلفا لشقيقه، بشرط ألا يتعامل بالسياسة. وافق الحاج أمين والتزم بشروط صموئيل الصهيوني البريطاني، وظل ينفذ السياسة البريطانية حتى اندلاع ثورة 1936.

وعندما استشهد عز الدين القسام في جنين، بعثت هذه القيادة رسالة إلى بريطانيا تلومها على انحيازها للصهيونية وتطالبها بإصلاح هذا الخطأ، وفقط عند انفجار ثورة 1936 من القاعدة، والتي قام بها حزب الاستقلال وعصبة القسام، وفرضوا على القيادة الفلسطينية أن تختار بين شعبها وبين بريطانيا، عندها اضطر الحاج أمين الحسيني أن يضحي بمصالحه الشخصية من أجل المصلحة الوطنية. بمعنى أنه تم تفويت المرحلة الممتدة من 1921 وحتى 1936، وتلك كانت فترة ذهبية لبريطانيا نفذت خلالها سياستها المؤيدة للحركة الصهيونية، ونجحت فيها الأخيرة بمضاعفة أعداد المستوطنين، وصار من الفائت لأوانه التغاضي عن الاستيطان الصهيوني في فلسطين.

عرب 48: ولكن من المعروف أن الحاج أمين والهيئة العربية العليا تبنت مطالب الثورة والتزمت بأهدافها، إلى أن جاء نداء الملوك والرؤساء العرب الذي دعا الشعب الفلسطيني إلى الهدوء والسيكنة، نزولا عند وعود الصديقة بريطاني؟

مناع: معروف أن الدول العربية قد لعبت دورًا سلبيًا في ثورة 1936، ولكن القيادة الفلسطينية والحاج أمين الحسيني هم من توجهوا للعرب بأن يوقفوا الإضراب والثورة، وليس العرب من ضغطوا على الحاج أمين الحسيني والهيئة العربية العليا لكي يوقفوا الإضراب والثورة، ووعدوا بأن يتوسطوا لدى بريطانيا، مثلما يكتب بعض الفلسطينيين.

القيادة الفلسطينية حتى ثورة 1936 كانت مقطوعة عن شعبها طبقيًا، وكانت تنظر إلى السواد الأعظم من الشعب على أنهم فلاحون وقرويون وأميون ومجرد حراثين عند القيادات، التي تنحدر من عائلات تمتلك كل واحدة منها 50- 100 ألف دونم، ولذلك لم تفكّر القيادة بهم إلا كورقة ضغط ضد الصهيونية وبريطانيا.

(الشهيد عز الدين القسام، قائد ثورة 1936)
مناع: القيادة الفلسطينية حتى ثورة 1936 كانت مقطوعة عن شعبها، وكانوا ينظرون إلى السواد الأعظم من الشعب على أنهم فلاحون وقرويون وأميون

وعندما قامت ثورة 1936، فرضت قيادتها القروية على سكان المدن اعتمار الكوفية وقطع الكهرباء ليلا، ليثبتوا لهم أنهم هم أصحاب القرار اليوم، ولذلك ليس مستغربًا أن تقوم تلك القيادة، التي لم تكن قيادة وطنية حقيقية، بخيانة تلك الثورة وتعود للمناورة والمحاورة مع القيادات العربية.

النتيجة طبعًا كانت لجنة بيل في العام 1937، والتي دعت لأول مرة إلى تقسيم فلسطين لدولة يهودية ودولة عربية تخضع لحكم الأردن. بعدها جاء "الكتاب الأبيض" في العام 1930 والذي عدل كثيرًا في قرارات لجنة بيل لصالح الفلسطينيين، إلا أن الحاج أمين الحسيني واستنادًا إلى تقدير خاطئ حول بداية تراجعات بريطانيا في مواقع أخرى، أصر على رفضه مما اضطره إلى البقاء خارج فلسطين، حيث ذهب إلى العراق وشارك في ثورة رشيد الكيلاني، ومن هناك إلى إيران ثم إلى برلين، انطلاقًا من أن عدو عدوي صديقي، وهو ما تسبب بخلق الانطباع بأن الحركة الوطنية الفلسطينية وقفت مع ألمانيا النازية.

عرب 48: ما هو وجه المقارنة؟

مناع: نلاحظ أن القيادة الفلسطينية ممثلة بالحاج أمين الحسيني تعاونت وقبلت كل شيء حتى ثورة 1936، عندما دفعتها الثورة لتعديل موقفها، وبعد ذلك التاريخ رفضت كل شيء حتى "الكتاب الأبيض" الذي جاء استجابة للرفض الفلسطيني للجنة بيل، ودفعت ثمن ذلك بإبعادها عن الوطن، في فترة حرجة وانحياز قسري إلى طرف في معادلة دولية ذات حسابات مختلفة.

وبالمقارنة، فإن القيادة الفلسطينية التي رفضت كل المبادرات حتى اتفاق أوسلو، ظلت ملتصقة بأوسلو رغم مساوئه، وبعد أكثر من 20 عامًا على انتهاء المرحلة الانتقالية، جرى خلالها اغتيال إسحق رابين واغتيال ياسر عرفات، ومضاعفة الاستيطان والتهام الأرض، إلى أن اصطدمت بـ"صفقة القرن".

هو الانتقال الحاد من البندقية إلى السلمية التي تبناها أبو مازن، وبررها بأن خيار السلاح في الانتفاضة الثانية لم يجلب للفلسطينيين شيئًا. هي سلمية جردت السلطة من كل نقاط قوتها وصولا إلى الاستسلام والتنسيق الأمني، والتحول إلى مقاول لدى الاحتلال.

ولكن بقطع النظر عن تجربة الانتفاضة الثانية وحيثياتها، فقد رأينا كيف انسحبت إسرائيل من غزة تحت ضربات المقاومة وقامت بتفكيك المستوطنات، وكانت مستعدة لتفكيك مستوطنات في الضفة لو تواصلت المقاومة بأشكالها المختلفة، ولكن عندما استسلمت القيادة وأركنت إلى طريق المفاوضات وتخلت عن جميع عناصر قوتها، في موازاة تراجع عربي بهذا الحجم، كان لا بد أن تكون تلك هي النتيجة.

بالمحصلة، فقد خسر الشعب الفلسطيني في الحالتين؛ حالة الرفض المطلق وحالة القبول المطلق.


عادل مناع، مؤرخ فلسطيني متخصص بتاريخ فلسطين في العهد العثماني والفلسطينيين في القرن العشرين. نشر عشرة كتب وعشرات المقالات البحثية باللغات العربية والعبرية والانجليزية. آخر كتبه هو "نكبة وبقاء: "حكاية فلسطينيين ظلوا في حيفا والجليل، 1948-1956"، الذي صدر باللغتين العربية والعبرية. وهو أستاذ تاريخ الشرق الأوسط الحديث، وباحث لعدة عقود منذ بداية الثمانينيات في جامعات فلسطينية وإسرائيلية وألمانية.