لا يمكن الحديث عن حيفا بشكل عام دون العودة إلى تاريخها قبل النكبة، وخاصة أن مجمل الأحياء التي كانت تعتبر القلب النابض للمدينة على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والسياسيّ، أصبحت اليوم أكثر الأحياء تهميشاً وفقراً على كافة الأصعدة، وتحديداً شارع يافا والبلد التحتى الذي بقي ينبض بالحياة حتى بداية سنوال التسعينيات.

استطاعت بلدية حيفا، بمخطّط ممنهج نفذته على مدار السنوات الخمسة عشر الأخيرة، من خلال الضغط الاقتصادي على أصحاب المحال التجارية عبر الضريبة، والتخطيط الذي أدّى إلى عزل الشارع عن محيطه المنتعش جداً كالجادة الألمانية والميناء، بالإضافة إلى إقامة مشروع 'كمبوس هنامال'، أن تجعل من الحي أشبه بمخيّم لاجئين لا علاقة له بمحيطه.

وعلى الرغم من أن موقع 'عرب 48'، بحث طويلاً لمعرفة النسبة التي تخصّصها بلدية حيفا للأحياء العربية وتطويرها من مجمل ميزانيتها البالغة 2.5 مليار شيكل للعام 2015، ولم يحصل على أي إجابة، إلّا أن عضو لجنة الحي في البلد التحتى، طلعت شكري، صرّح بأنه تقدّم بالسؤال ذاته لإدارة البلدية وكان الجواب: ليس هنالك عرب ويهود في حيفا، بل كلنا حيفاويون.

طلعت شكري: ما نريده أولاً هو الحياة، وبعدها لنتحدث عن حياة مشتركة

ينظر شكري إلى الحي، ويجيب عن حال سكّانه، ويقول لـ'عرب 48'، إذا كنّا جميعاً حيفاويين فلماذا هو الحال على ما هو وما تراه أمامك من انعدام بنى تحتية وأي مرافق اجتماعية ولا مواقف سيّارات بالإضافة إلى نسبة الفقر التي تصل 70% من السكّان وانعدام أي أنواع الحياة التي تخدم السكّان في الحي؟

استذكر بعدها الحي في سنوات الثمانينيات وبداية التسعينيات، وأشار إلى المحال المغلقة، وقال إن 'الحالة النفسية للسكّان كانت مختلفة عن اليوم، فالشارع كان يعج بالحياة، كل هذه الأماكن المغلقة كانت تعمل يومياً، وكنّا نعمل في ساعات ما بعد عملنا الرسميّ في المحال والأكشاك الموجودة تحت بيوتنا، إلّا أنه ومنذ منتصف سنوات التسعينيات، بدأت البلدية بشق طريق المترونيت، وأغلقت مدخل شارع يافا من الجانب الشرقيّ، ممّا جعل من الوصول إلى الحي صعباً نظراً لتحويل الشوارع وحركة السير لجادة الألمانية'.

وفي المقابل، قال شكري، إن 'البلدية أخذت تضيّق وترفع من أسعار الضريبة على المحال التجارية، فأدّى ارتفاع الضريبة مع الانخفاض في حركة الوافدين إلى الشارع شيئاً فشيئاً إلى إغلاق المحال تدريجياً حتى بقيت في شارع يافا كله بقالة واحدة فقط تلبي احتياجات السكّان، أمّا بعض المقاهي فتفتح في ساعات الصباح بهدف خدمة عمّال المكاتب في الحي'.

وتؤكد الدراسة التي أعدّتها جمعية التطوير الاجتماعي في حيفا، حديث شكري عن الوضع الاقتصادي ومستوى المعيشة في البلدة التحتى، حيث يشير سلم الاقتصاد ومستوى المعيشة إلى مستوى منخفض، أي درجة 5 من 20 أعلى درجة، وهو مستوى منخفض جداً.

من شارع 'همغينيم'، انحدرنا يميناً بين البنايات على درج شبه غير مرئي وصولاً إلى ممر صغير مرئي للباحث عنه والقاطنين فيه فقط لتسليط الضوء على الأماكن التي لا يراها الضوء على الرغم من أن بلدية حيفا تجني دعماً مادياً كبيراً بتصويرها ذاتها كمدينة للتعايش بين العرب واليهود، وهذا ما يرفضه سكّان الحي جملة وتفصيلاً بالقول، إن ما نريده أولاً هو الحياة، وبعدها لنتحدث عن حياة مشتركة.

وقال عضوا لجنة الحي المؤسسة حديثاً، طلعت شكري وخالد محاميد، لـ'عرب 48'، إن 'أكثر ما يزعجنا في الحي هو الإزعاج الذي تعمّدته البلدية عبر فتح المزيد والمزيد من الملاهي الليلية داخل الحي وفي ذات البنايات التي نسكنها، ممّا جعل من حياتنا في الليل كابوساً يتركّب من الإزعاج تارة، ومن الخطر على أطفالنا تارة أخرى'.

حياة ليلية على حساب حياة السكّان:

وتابعا: 'نحن لسنا ضد وجود البارات، إلّا أن البلدية منحت تسهيلات لأصحاب البارات بهدف بناء حياة ليلية في البلد التحتى، وهذا على حسابنا نحن السكّان، أولادنا لا يستطيعون النوم من شدة الضجيج، ونحن لا نملك المال الكافي لتركيب شبابيك عازلة للصوت'.

أمّا البنى التحتية في الحي، فهي منعدمة، والمرور في شارع يافا خلال فترة الشتاء شبه مستحيل. وقال شكري ومحاميد، إن 'بيوت شارع يافا في الطوابق الأرضية تغمرها المياه كل عام، لا يوجد بنى تحتية، والمياه تتراكم في الشوارع، كما أن البلدية أعلمتنا أنها غير مسؤولة عن شارع يافا، وأن وزارة السياحة هي من ستقوم بتطوير الشارع كجزء من مخطّط أكبر'، ممّا يدل على أن البلدية تدرج الشارع والحي ضمن مخطّط سياحي أكبر يتبع لوزارة السياحة غير مكترثة لحال السكّان ولا لكون الحي حيا سكنيّا. وعلم موقع 'عرب 48'، أن بلدية حيفا تحث أصحاب المحال التجارية والملاهي الليلة القريبة من البلد التحتى، على إغلاق الشارع بهدف إقامة ما يسمى احتفالات شارع، وهذا ما يضيف من معاناة السكّان ويصل حد أن بعض السكّان لا يستطيعون الوصول إلى بيوتهم.

لجنة الحي: لا نريد الملجأ، إلّا انه لم يتبقى لنا شيئ سواه

أمّا عن نضال الحي مقابل البلدية، فمع تنظيم لجنة للحي طالبوا البلدية باستعمال الملجأ الخاص بالحي لأجل إقامة نشاطات ترفيهية للأطفال نظراً لانعدام أي مرفق عام، إلّا أن البلدية رفضت طلب أهالي الحي بادعاء أن منح الملجأ يتم فقط لمؤسسة تتعاون مع البلدية، ووجّهتهم إلى بيت الكرمة بهدف أن يكون وسيطاً تثق فيه البلدية بهدف استعمال الملجأ مما يترك السكّان أمام مؤسسة ترعى شؤونهم وتشكّل وسيطا مع البلدية، وهذا ما يجعل بيت الكرمة يستغل متطلّبات الأحياء العرب بهدف الضغط عليهم وتصويره كراعي للتعايش، بالإضافة إلى التمويل الذي يحصل عليه من خارج البلاد.

بلهجة، إن دلت فإنما فتدل على العجز، قال عضوا اللجنة: نحن لا نريد الملجأ فلا أحد في العالم يطلب أن يضع أطفاله ونشاطاتهم تحت الأرض، ولا نريد أن ننزلهم ثلاثين درجة بهدف إقامة نشاط، إلّا أننا لا نملك أي بديل.

وأضاف: 'إننا لا نريد التعامل مع بيت الكرمة، ونعلم ما يفعله بيت الكرمة في حي وادي النسناس، وكيف جعله مسرحاً وسكّانه، ولكننا لن نحصل على أي شيء إن رفضنا التعامل معه'.

أمّا مواقف السيّارات فهي معدومة، والمواقف المحدودة يتم استعمالها على يد موظّفي المكاتب في ساعات الصباح، والوافدين إلى الملاهي الليلية والبارات في ساعات المساء.

بسياسة ممنهجة، استطاعت بلدية حيفا قتل أكثر الأحياء حياة في المدينة منذ سنوات ما قبل النكبة، وكما تدّعي أنها بلدية كل السكّان دولياً بهدف الحصول على الدعم الماديّ، فهي تتخلّى عن العرب، وتتركهم لمؤسسات انتهازية تشترط عليهم الخضوع لمسرحية التعايش التي يشكّل فيها العرب ممثّلين، وتعد لتعزيز الطابع الاستشراقي لليهود في البلاد، مقابل استعمال ملجأ مهجور، أو حديقة صغيرة لأبناء الحي. 

>>عودة إلى 'ملف حيفا'