تأتي الذكرى الـ39 من أحداث يوم الأرض الخالد في الوقت الذي يواجه الشعب الفلسطيني الكثير من التحديات مع احتدام الصراع على آخر ما تبقى من أراض في الداخل الفلسطيني الذي دفع  ضريبة الدم، كما وتشكل قضية الأرض جوهر الصراع للقضية الفلسطينية في مواجهة المشروع الاستيطاني. 

وتستذكر مدينة الطيبة، التي كانت قرية في آذار العام 1976،  توالي الأحداث حين هبّ أهلها لنصرة أهل مثلث يوم الأرض في سهل البطوف وللتصدي لموجة مصادرات الأراضي التي تعرضت لها سخنين، عرابة ودير حنا.

واختلط الدم الفلسطيني بتراب الأرض في الطيبة حين استشهد رأفت حسين علي زهيري القادم من مخيم نور شمس للاجئين قضاء طولكرم المجاورة،  خلال المواجهات التي اندلعت ما بين الأهالي وقوات حرس الحدود. 

وتخطى 'عرب 48' جدار الفصل والحواجز العسكرية قاصدا مخيم اللجوء في نور شمس، حيث زار الحاجة خيرية الزهيري (أم فيصل)، والدة الشهيد رأفت حسين علي زهيري، التي نثرت ذكرياتها عن الأرض وفصول النكبة وابنها الشهيد ومحطات اللجوء والتشريد التي ما زالت متواصلة بين جدران المخيم.

رأفت تربى على قصص النكبة وكان محبوبا من أهل المخيم

واستذكرت التسعينية أم فيصل نجلها الشهيد بالقول: 'رأفت كان شابا مجتهدا ويحب الفكاهة جدا. كان ذكيا ويحب الأرض وميوله كانت دائما ثورية ووطنية”.

 بهذه الكلمات استهلت أم فيصل  حديثها لـ'عرب 48'، وأضافت: 'كان دائما يسألني عن قريتنا المهجرة قنير (قرب كفر قرع ) فهو تربى على هذه القصص منذ نعومة أظافره، كان أهل المخيم يحبونه كثيرا لعلاقته الطيبة وربطته علاقات اجتماعية ممتازة مع الجميع وتميز  بوعيه بمعلوماته الواسعة عن الوطن”.

وسردت الحاجة أم فيصل تفاصيل يوم الاثنين الموافق 30.3.1976  قائلة: 'في الصباح الباكر أستيقظ رأفت واستحم وصلى ركعتين، وقال لي إنه ذاهب ليفحص هل سيلتزم عمال المخيم بالإضراب في يوم الأرض، ولم يخطر ببالي أنه سيذهب للطيبة أو إنه سيشارك في المواجهات، ظننت إنه سيعود بعد وقت قصير، لكن لاحقا تبين لنا إنه ذهب إلى منزل أحد الأقارب في المخيم ومن ثم إلى مدينة طولكرم ومن هناك استقل سيارة وتوجه للطيبة، زار قريب لنا هناك وبعدها انخرط بالمواجهات”.

وتابعت قائلة: 'بعد أن صليت الظهر أتت ابنة جيراننا وقالت لي إن أمها تنتظرني، ذهبت لأرى ما الموضوع، فقالت لي إن أهل المخيم يتحدثون في ما بينهم أن رأفت أصيب في مواجهات الطيبة، وكان حينها يبلغ من العمر 19 عاما تقريبا، وكان يدرس في قلنديا قرب رام الله الهندسة المعمارية. بعد أن سمعت حديثها، أخبرت العائلة إنني سأخرق أمر منع التجول في المخيم وسأذهب إلى الطيبة للتأكد، وبالفعل توجهت لمدينة طولكرم، وعندما رأيت سيارة من عرب الداخل طلبت من سائقها أن يوصلني للطيبة، وعندما وصلنا رأيت المئات من الشباب يتجمهرون وسألتهم عن السبب فقالوا إن شابا من نور شمس أصيب بنيران الشرطة وهو الآن في مستشفى كفار سابا، وعلمت في نفسي أنه رأفت'.

واصلت أم فيصل رحلتها وتنقلها للبحث عن نجلها الجريح ومسلسل معاناتها تفاقم في الطيبة حين أيقنت أن رأفت غرق بالدماء في المستشفى. توجهت إلى الطيرة قاصدة بلدة كفار سابا. وروت: ”ذهبت إلى الطيرة، عند أقارب لنا، ورافقتني أحداهن إلى مستشفى كفار سابا، فقالت لهم وكانت تجيد التحدث بالعبرية، إن ابني أصيب في مواجهات الطيبة وإنني أريد أن أراه، فقالوا لها إنني سأراه بالبيت، فزاد يقيني إنه أستشهد، وعندما عدت إلى المخيم رأيت زوجي ينتظرني في أول المخيم، وسألني عن النتيجة فأخبرته إنه استشهد فرد علي بكلمة ما زلت أتذكرها: الله يرضى علي'.

أقمنا جنازة شارك بها عشرات الآلاف رغم أنف الاحتلال

 تعمقت جراح ومعاناة الحاجة أم فيصل وهي ترقب استلام جثمان نجلها الشهيد. سلطات الاحتلال تعمدت المماطلة رغم الطلبات التي تقدمت بها العائلة، وتروي الحاجة خيرية: 'طلبنا أن يحرروا الجثمان لكي ندفنه لكنهم رفضوا، ولكن بعد إصرارنا وافقوا شريطة ألا نقيم له مسيرة، وعندما أحضروه شارك عشرات الآلاف بتشييع جثمانه ومنهم من أهالي الطيبة، وحضر محافظ نابلس وطولكرم وأيضا وفود من رام الله والداخل، وكان هذا بعد يوم من استشهاده. لا يوجد أصعب من فقدان الابن، لكن الله عز وجل قبل أن ينزل البلاء فإنه ينزل الصبر، اسأل الله له ولشقيقه الجنة'.

 فيصل استشهد في تل الزعتر بعد أربعة أشهر من استشهاد رأفت

في مخيم اللجوء في نور شمس اصطدمت الحاجة خيرية بهول النكبة بعد أن فقدت أرضها ولتفقد لاحقا نجليها رأفت وفيصل.

فقد استشهد الابن البكر، فيصل بعد أربعة أشهر من استشهاد رأفت، في مخيم اللجوء تل الزعتر في لبنان حيث أنخرط  في صفوف المقاومة الفلسطينية.

وقالت الحاجة أم فيصل إن 'عائلتنا قدمت الكثير من الشهداء أيضا في الانتفاضة الثانية، والعشرات من الأسرى، لكن لا بد أن أذكر إنه بعد أربعة أشهر من استشهاد رأفت بالطيبة، استشهد شقيقه الأكبر فيصل في مخيم تل الزعتر في لبنان، ولم نكن نعرف أنه انخرط بالمقاومة”.

بعد مجزرة صبرا وشاتيلا والمجازر بحق اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، تقول أم فيصل، ”استنفرت الفصائل الفلسطينية للدفاع عن مخيم تل الزعتر، وحضر ابني فيصل إلى تل الزعتر قادما من اليونان، حيث كان يدرس هناك سنة أولى طب أسنان، وأستشهد هناك في المعارك، ولم نكن نعرف إنه استشهد إلا بعد ما يقارب الأسبوعين، وذهبت إلى لبنان قبل سنوات لأعانقه في قبره”.

وخلصت إلى القول إننا 'نحيي جماهير شعبنا الفلسطيني في الداخل، ونشد على أياديهم  بالثبات والصمود والإصرار على إحياء المناسبات الوطنية وذكرى يوم الأرض والشهداء، وهذا له الكثير من الدلالات، لكن الدلالة الأهم هي وحدة الدم الفلسطيني، الذي يسيل من أجل قضيتنا جميعا وهي الأرض'.